حرب القهوة
تاريخ النشر: 11/03/20 | 13:36 مقدمة :
أيقونة الصباح وسيدة الدفء فنجان واحد منها يكفي للملمة شتات أنفسنا المتناثرة في هذا الكون العتيد والمصالحة مع النفس إنها القهوة المشروب الساحر المرادف للحب فكلما صبرت عليه وانتظرته كان طعمه أكثر مذاقا وحينما يمتزج لونه الأسود بالحليب يصير للصباح بهاءا ولليوم طابعا مميزا.. لقد أصبحت القهوة محط تباهي الدول فيما بينها حينما يقترن اسماء هذه الدول بها فالقهوة التركي والفرنسي والايطالي فهل يا ترى كان الوضع كذلك قبل قرون؟
اكتشاف القهوة:
تتعدد الأساطير حول اكتشاف هذا المشروب الذي يتربع على عرش المشروبات بالعالم ومن أقدم الروايات ما يرجع باكتشاف البنِّ إلى عهد النبي سليمان عليه السلام ، في قصّة يرويها ابن العِماد الحنبلي في ”شذرات من الذهب“ وأنّ جبريل قد أوحى إلى سليمان -عليه السلام- لمّا نزل على قوم مرضى – أوحى إليه أن يأمر الجن أن يأتوه بثمر البن من بلاد اليمن، وأن يحرقه بالنار، ثم يطبخه ويسقيهم منه، ففعل، فبرئوا من علّتهم.. يقول ابن عماد الحنبليُّ: ”ثم تناسى أمرها الناس حتى ظهرت في القرن العاشر الهجري“.
والبعض يربط بين اكتشافها وبين حياة الرهبان وصلواتهم الطويلة في جوف الليل فتذهب الأسطورة إلى أن راعي غنم اسمه (كالدي) قيل اثيوبي وقيل يمني اكتشف نشاطا غير عادي في قطيعه حينما أكلت من إحدى أشجار التوت فسارع إلى إخبار رئيس الدير والذي أعجب بالمشروب الساحر ومن وقتها واحتضنته حياة الرهبان لكن قصص أخرى تأخذنا إلى العالم الإسلامي وتحديدا عالم الصوفية فتدعي أن أحد مشايخ الصوفية و هو أبو بكر بن عبد الله العيدروس هو أول من مر بأشجار اللبن أثناء سياحته في الجبال فأكل من ثمرها فكانت معينا له على العبادة وقيل أيضا ان مكتشفها هو الفقيه الصوفي محمد بن سعيد الذبحاني كما ذهب البعض أن مكتشفها هو أبو الحسن على ابن عمر الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية وقد صح عنه أنه قام برحلة إلى الحبشة وقيل تلميذه ومن هنا كانت تسمية أهل الجزائر للقهوة باسم الشاذلي.وصار المتصوّفة يصفون القهوة لمريديهم كطريقة للترويح عن همومهم وتفريح قلوبهم. بل روي عن أحدهم أنه قال: ”القبض على البُنِّ يذهب الحُزن“.
ولكن على أية حال فالرابط بين هذه القصص هو أن القهوة كانت أداة مساعدة للمتدينين فهي مسكن روحي يساعدهم على القيام بشعائرهم الليلية فما الذي حولها لتصير متهمة ومنبوذة من الدين لعقود إلى حد تسميتها بالقهوة وهو اسم للخمر؟!
القهوة والخمر :
جاء ذكر القهوة باعتبارها خمر في شعر الأعشى الشاعر الجاهلي ومنها قوله:
معتَّقةٌ قهوةٌ مُزَّةٌ.. لها زَبَدٌ بين كوبٍ ودُنٌّ
و في معلقته الشهيرة يقول :
نازعتُهم قُضُبَ الرَّيحانِ مُتَّكِئًا.. وقهوةً مُزَّةً راووقها خَضِلُ
وابن منظور في لسان العرب يقول: “القهوة: الخمر، سُميت بذلك لأنها تُقهي شاربها عن الطعام أي تُذهب بشهوته”
تحريم القهوة في العالم الإسلامي:
لقد استطاعت القهوة أن تشكل المجتمع من حولها فتحولت من مشروب مفضل بالمنزل إلى مشروب يستلزم مكانا أوسع يختلط فيه احتساء القهوة بتبادل الدردشة والجدال والنميمة ومناقشة الأخبار وتبادل الآراء الفكرية ومن هنا نشأت المقاهي أو مدارس الحكمة لقد أحدثت القهوة بذلك ثورة اجتماعية حقيقية جعلتها هدفا للهجوم عليها.
كانت بداية التحريم في مكة حيث وجد حاكم مكة الأمير خاير بك عام 1511 م والذي كان مكلفا من قبل سلطان مصر قنصوه الغوري جمعا من الناس يشربون القهوة بجانب المسجد الحرام و التي احضروها معهم من اليمن فما رأوه اطفئوا الكشافات فهاله الأمر وأثار ريبته فأجتمع بفقهاء مكة ويحسب للشيخ نور الدين بن ناصر الشافعي مفتي مكة آنذاك اعتراضه على تحريم القهوة فالبن عنده مباح حارق للبلغم ولكن كان لزاما أن تعلو كفة خاير بك والذي عاضده الطبيبان أحمد العجمي الكازروني وأخيه علاء الدين من أن القهوة مفسدة للبدن وأصبح الشيخ نور الدين في وسط هذا الجمع هو الواعظ الجاهل! وسارع الجميع إلى اصدر فتوى في تحريمها واعتبارها خمرة مسكرة مذهبة للعقل ومضرة بالبدن وتفنن الفقهاء في إيجاد الاسباب للتحريم فذهب البعض لكونها تساعد على السهر مما يؤدي إلى ضياع صلاة الفجر و يحشر من يشربها يوم القيامة ووجهه أسود من أسافل أوانيها! ! وذهب البعض إلى كونها بدعة مضله حيث لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها شربها وقال بعضهم أن الذهاب إلى الحانات أفضل من ارتياد المقاهي وأمر خاير بك بالقبض على كل من يضبط بهذه الجريمة الشنعاء وتجريسه والطواف به على حمار ليكون عبرة لغيره!!
فضلا عن إغلاق محال بيع القهوة واحراق البن المستخدم في صنعها … وحينما بلغ الأمر السلطان قنصوه الغوري حاول الغوري التنصل من إعطاء أمر قاطع في هذه المسأله وفي ضميره أن القهوة لا شئ فيها ولكنهم المماليك حين يعملون عقولهم فينقلب الحق باطل والباطل حق واكتفي المرسوم السلطاني بمنع التظاهر بالقهوة أي شهربها جهارا وحاول الغوري التخفيف من حدة التوترات بمكة بسبب المنع الذي أمر به خاير بك فبعث في العام الثاني الأمير قطلباي خلفا لخاير بك فرفع الحظر عن القهوة وشاع شربها ولكن هذا لم يخفف من حدة المسألة فقد انطلقت المساجلات الفقهية دون نهاية بين مؤيد ومعارض.
الطريف أن خاير بك والذي أشعل نيران هذه الفتنة وهو يدافع في ظنه عن الشرع لم يرى في خيانته لاستاذه قنصوه الغوري وايقاع مصر تحت حكم العثمانيين أي اشكالية مع الشرع وهذه هي آفة التدين الشكلي الذي يركز على المظهر دون التطرق الموضوعي إلى الجوهر ومناقشته وتفعيله.
في مصر وفي العقد الأول من القرن السادس عشر بمصر حينما افتي الفقيه الشافعي احمد بن عبد الحق السنباطي بحرمة شرب القهوة فأجتمع المتشددون واغلقوا الحانات وهدموا كوانين القهوة وكسروا أنيتها ومع تصاعد حدة المشهد تدخل قاضي مصر الشيخ محمد بن الياس الحنفي وصنع القهوة في منزله لاختبار تأثيرها واثبات انها غير مسكره!!.الا ان الواضح ان المعركة بين محرمي القهوة ومحلليها لم تتوقف عند هذا الحد واسفرت معارك القهوة عن قتلي وجرحي!!
أما فى عاصمة الخلافة العثمانية فلم يختلف الشكل كثيرا فقد طالب القاضي محمد الحسيني بإبطال شرب القهوة وإغلاق المقاهي وحينما رفع الأمر لسليمان القانوني إحاله إلى شيخ الإسلام أبو السعود أفندي والذي أفتى بتركها مخافة التشبه بالفجار وأن اجتماع الفسقة على إدارتها وعلى الملاهي والملاعب وعلى الغيبة والنميمة يجعلها حرام بلا شك!! لم يتغير الأمر بوفاة سليمان القانوني وتولى ابنه سليم الثاني فبقيت القهوة ممنوعة وفي عهد مراد الثالث شهد الأمر انفراجة مع أقناع تجار البن للصدر الاعظم والسلطانة صفية وتقديم رشوة لمراد الثالث مقابل اصدار فرمان بالسماح بشرب القهوة وفتح المقاهي مرة أخرى فأصدر شيخ الإسلام بستان زاده محمد أفندي فتوى تبيح شرب القهوة لكن الأمر تعرض لانتكاسة كبيرة في عهد السلطان مراد الرابع والذي حرم القهوة بشكل نهائي وبات وجعل عقوبتها الأعدام فقد اعتبرها العدو المستتر ضد حكمه وأنها قد تدفع البعض بتأثيرها للثورة عليه.
تحريم القهوة في أوروبا:
على الجانب الآخر وفي أوروبا لم تكن النظرة للقهوة – والتي انتقلت إليهم عبر التجارة والحروب- بأفضل حالا عنها في المشرق فهي مشروب غامض ومسكر وعند الكاثوليك هي كأس الشيطان كما كانت التهمة الموجهة له من نساء انجلترا أنه يقلل من القدرة الجنسية لرجالهن وهو ما دفعهن عام 1674لخوض حملة شرسة ضد هذا المشروب العائق لإزواجهن!!
ذلك لا يمنع أن القهوة كانت قريبة من فؤاد المستنيرين في أوروبا فالموسيقار باخ وضع لها أغنية تدافع عن حق فتاة في احتساء القهوة في مواجهة ابيها الذي يسلبها هذا الحق..تقول الأغنية:
آه! كم رائع مذاق القهوة
ألذ من ألف قبلة
وألطف من نبيذ الموسكات
القهوة، لا بد لي أن أشرب القهوة
وإذا أراد أحدٌ أن يدللني
آه، فليحضر لي هدية قهوة!
كما ظلت الكنيسة تحرم هذا المشروب على المسيحيين حتى تم التراجع عن ذلك في عهد البابا كليمنت الثامن والذي قام بتجربة القهوة على نفسه ثم قال مازحا مقولته الشهيرة :(مشروب الشيطان هذا لذيذ للغاية يجب علينا خداع الشيطان من خلال تعميده! ) ..
كل هذه المشاهد العبثية لم تكن لتطفو على السطح هكذا لولا تغييب دور العلم كحكم فصل في قضية تناول مشروب طبيعي كهذا وهو صاحب الرأي الأول والأخير في مثل هذه القضايا…
رأي العلم :
تحتوي القهوة على مركب الكافيين ويعد الكافيين منبها للجهاز العصبي وكابحا للشهية ويجدد النشاط ويعود الفضل للكيميائي الألماني فريدليب فرديناند رونغه في اكتشاف الكافيين أثناء تحليله لحبوب البن وذلك بناء على طلب الشاعر والسياسي الألماني الشهير غوته..
وفي النهاية انتصرت القهوة وانتصر العلم وزال ما علق بها من خرافات وأصبحت القهوة مشروبا لا غنى عنه بالمشرق والمغرب على حد سواء.
د. محمد فتحي عبد العال