لماذا شطبو اسمي؟!
تاريخ النشر: 21/04/14 | 8:39بقلم: ب.فاروق مواسي
اخترت لكم اليوم قصة “لماذا شطبوا اسمي”، وهي من مجموعتي القصصية “أمام المرآة وقصص أخرى. نابلس: دار الفاروق- 1995، ص 46.
من نافلة القول إن الراوي هو الذي يتحدث في القصة وليس فاروق مواسي، وبالتالي فلعله يمثل هنا الشعب الفلسطيني الذي “شطبوا” اسمه في الدفاتر العربية قبل الغربية.
اخترت القصة بعد ساعات من قراءة ماركيز الذي رحل عنا قبل أيام، وقد أدهشني من مزجه الفانتازيا بالواقع وخاصة في روايته “مائة عام من العزلة”.
قلت: لعل هذه القصة فيها الكثير من الخيال وملامسة الواقع والهذيان والصرخة والألم والأمل، فلأدعها لحكم القراء، ولأعد نشرها من منطلق أنه يجب ألا تموت النصوص التي انطلقت من جدية، وعايشت همومنا وتطلعاتنا.
………………………………………………..
لماذا شطبو اسمي؟!
عدت إلى بيتي وأنا أجر خطاي، رجلاي وأوصالي تكاد تتمزق، طرقت الباب حتى تفتح لي وزوجتي، هذه المسكينة التي ربما تنتظرني بأقسى عذاب.
لم أدخل.
همتُ على وجهي في شارعِ يؤدي إلى أزقة تتثاءب. أحببت الظلمة، وتمنيت أن أفرغ في جوفي كأسًا على الأقل، وتذكرت قول صاحبي:
“ما أروع المحرمات”!!
سؤال غريب يتشكل في رأسي ويتسلل:
بُدئ بـ: “لماذا؟”
وفي الخطوة الثانية أضفت: “شطبوا”.
ومع الخطوة الثالثة أتممت صيغة السؤال.
كنت مبادئًا في مشروع ساهم فيه نفر من أصدقائي “الطيبين”، فإذا بهم يقلبون لي ظهر المجنّ، يشطبون اسمي من القائمة ويطردوني جزءًا جزءًا.
عندما صحوت أكثر أعدت على نفسي السؤال: “لماذا شطبوا اسمي؟ ”
ومع بصقة كبيرة وجهتها في الفضاء، لماذا؟
في طريقي سمعت صوت امرأة تتوجع في ممارسة سادية، وإذا بها تتقبل ضربات تنهال عليها من زوجها “الكريم”، ودعاني تطفّلي إلى أن أتحرّى سبب الضرب.
في الصباح قالت له: “اسكت”، ولم يطق طلبها في محضر أصحابه، فأخذ يستعرض بطولته في الليل.
ولكن ماذا يعنيني؟
المهم أنهم شطبوا اسمي.
وصلت منطقة ضوء، أدركت هول مصيري، يجب أن أعود، أطلقت على نفسي مسبة كبيرة تتضمن جزءًا من آية مدموجًا وبحدّة.
في طريق عودتي تلهيت بأوهام كثيرة وخرافات. بنيت قصورًا وهدمتها، لكن السؤال كان يعاودني، ويصفعني، ويلعن وجودي.
قبل أن تفتح لي الباب بادرتها السؤال نفسه، ولكنها أجابتني بقبلة ملتهبة- الواقع أنها كانت سوطًا– القبلة عندها أسلوب لتخفيف حدة التوتر، فقد رأتني منذ الصباح واجمًا ساهمًا، وعندما عدت لمحت الدهشة بين عيني.
وأعادتها، وبدت لي كأنها تستهزئ بي.
دعوت نفسي لعقابها، لكني تذكرت المرأة التي كانت تبكي، وكادت نياط قلبي أن تتأذى بسببها.
لم أتمالك إلا أن أضمها إلي بلا شوق وبلا رغبة ولو على سبيل المجاملة.
أذكر أني كنت مبادئًا في مشروع ساهم فيه نفر من أصدقائي “الطيبين” فإذا بهم بين عشية وضحاها أصحاب المشروع، وأنا كالكلب أقف على الأبواب.
في السابعة صباحًا استيقظت بلا تفاؤل، رسمت على شفتي بسمة سرعان ما هزئت بها، فكرت بها لأول مرة في فلسفة نيتشه وشوبنهور.
ورغم أن معلوماتي في الفلسفة محدودة، لكني فهمت قضية الانتحار بطريقتي الخاصة.
رفضت أن أستمع إلى الأخبار فهي مملة شرقًا، غربًا– الغناء… الرقص… الشعر… سأم.
الفنون الجميلة أضحت مسميات مبهمة.
ليس ذلك تشاؤمًا كما تدعي زوجتي بدليل أنني أغني وأرقص وأحب الشعر.
الصلاة… الصوم… الزكاة.
العبادات القديمة أضحت مسميات مبهمة، ليس ذلك كفرًا كما تدعي زوجتي بدليل أنني أقوم ببعضها.
الفتيات… الصبايا… البنات.
لا أريد التعجل في القول إنها مسميات مبهمة.
إنها ضرورية كالماء والهواء، ولكنها لا تمنعني وأنا في المعمعة أن أسال السؤال نفسه.
أنا في المصنع ماكنة بلا روح تشتغل بلا معنى. أصحو ثم أحلم، في وقت الصحو لا أتبين أنني مسؤول عن وسائل الإنتاج.
وفي وقت الحلم أتبين.
من الصباح وحتى العصر أبقى واقفًا في أداء عملي، وأعيد السؤال “لماذا؟ شطبوا؟ اسمي؟”
أصدقائي سئموا السؤال، زوجتي ضاقت بي ذرعًا كأن في فمي رائحة.
عندما أخلو لنفسي أحرق الأرّم حتى جاءني الوحي.
شخص غريب يلبس الملابس البيضاء استقبلته على أنه وحي.
في ليلة عاصفة الرياح أقبل الوحي، فاحت في الجو رائحة عبقة أنستني لدقائق رائحة دور المياه التي تملأ المنطقة.
قال لي بعد أن صافحني: “أنت الذي شطبت اسمك”.
سألني: “هل تريد تحصل على حقك أيها المنبوذ”؟
ولكن ماذا أستطيع أن أفعل؟
– أنت بالحرف اكتفيت – باللفظ، بالصوت، وصعدت على برج المراقبة من بعيد من بعييييد.
اكتفيت بأن سألت اصدقاءك ماذا كان؟
ورحت في غيبوبة.
تَجسدَ الشخص القريب على شكل كرة نور، تكور وتلاشى شيئًا فشيئًا، وأنا أراقبه حتى بدا عن بعد ومضة لا تطفئها ريح.
ظل السؤال يطرق بابي، ولكن بهدوء.