لكلّ نفق مظلم نهاية
تاريخ النشر: 19/03/20 | 12:19تناول الروائي صبحي فحماوي المعاناة الفلسطينيّة ومخيّمات اللجوء الحاضرة في الكثير من أعماله؛ “عذبة “،”سروال بلقيس”، “قصة عشق كنعانية” وغيرها، يصوّر فيها معاناة التهجير والتشريد والفقدان، وما يحمله من ألم وأحلام وأمل، يرصد حياة مخيّم لاجئين “مجهول” الهويّة، دون تحديد إسم أو مكان، وهكذا فعل في رواية “حرمتان ومَحرَم” (تحتوي 270 صفحة، صادرة عن دار الفارابي اللبنانيّة، لوحة الغلاف للفنّان فارس غصوب)؛ يصوّر حياة أبناء المخيّم ومعاناتهم اليوميّة، مقارنة بحياتهم قُبيل النزوح واللجوء والتشرّد، والبؤس الذي عايشوه في المخيّمات، فاقدين أبسط الأمور للحياة الكريمة.
تتخرّج بطلتا الرواية، تغريد وماجدة، من كليّة المعلمّات في فلسطين المحتلّة فتبحثان عن عمل في البلد دون فائدة، تتعاقدان مع بعثة تدريسيّة عربيّة من بلدان الخليج، تغادران إلى هناك مع أبو مهيوب الخمسينيّ، تغريد تترك خطيبها جهاد، أخو رفيقتها ماجدة، في المخيّم، وماجدة تركها خطيبها غازي، أخو رفيقتها تغريد وسافر إلى أمريكا ولم يعُد، موثّقتين عقدي زواج صوريّين معه ليكون محرمًا لهما.. معًا.. وهناك في الغربة تفقدا الأمل بالزواج من حبيبيهما فتتزوّجا، شراكةً، محرمهما على سنّة الله ورسوله!
يصوّر المحتلّ بأبشع صوره، يتدخّل بكل كبيرة وصغيرة في المخيّم؛ “على بعد مئتي متر تقريبًا ترتفع تلّة قمامة عملاقة… وفوق التلّة تربض دبّابة مركافا…ترصد الغادي والعائد، والقائم والقاعد… والله تعالى في السماوات والأرض”، يُحاصر المخيّم ليل نهار حسب مزاجه “أثناء الحصار، ومنع التجوال في طرقات المعسكر، وانبثاق زخّات متجمّعة ومتفرّقة من طلقات رصاصيّة ومعدنيّة ومطاطيّة ودمدميّة بين الحين والآخر، لتنغرس في أيّ جسم تُطلق عليه”، فتاة بعمر الزهور، تموت وهي ترفع إصبعها، إذ تدوّي طلقة زائرة من الشباك، مخترقة جسدها الطري، وتسكن قلبها الرضيع، طلقة تنفذ إليها من النافذة، فتغتصب روحها حيث تسكن، فتصمت الطفلة على دُرج كتبها، وتنكسر الزنبقة على حضن أوراقها التي تُعلّمها القراءة والكتابة”! كذلك الأمر بالنسبة لتجريف الدبّابات للبيوت والأشجار والمزارع من باب التسلية، أو قتل طفل بدم بارد اغتالته أنياب دبّابة “عشان هو نفسه يتعلّم الدرس، ويصير مؤدَّب وخلوق ومربّى، وبعد هيك ما يعيدها”. يصوّر عمليّة الاعتقال الوحشيّ: “تجدهم يعبّئون رأس كل مقنوص بكيس بلاستيكي أسود مقوّى مقلوب، ثم يحزمون الكيس حول عنق المقاوم بخيط بلاستيكي لا ينقطع أبدًا، ويدفعونهم ببساطيرهم وبأعقاب بنادقهم الرشّاشة، ليحشروهم داخل سيارة جيش…يخرجون بهم مُصفّدين مضروبين مُهانين”، كذلك الأمر حين تُهاجم الجرّافات المخيّم وكأنّها ديناصورات متوحّشة (توظيفه لسلسلة أفلام جوراسيك بارك لستيفن سبيلبرغ جاء موفّقًا بامتياز)، خلع الأشجار يُغضِب أبو مهيوب ويُحزنه فلا يفهم السبب ويتساءل: “هل هي كائنات إرهابيّة بمفهوم هؤلاء الغرباء؟” تمامًا كما حزنت الروائيّة الفرنسيّة فرانسواز ساجان، صاحبة “مرحبا أيّها الحزن” حين قالت: “يحزنني أنّني سأموت، ولن أكون قادرة بعد ذلك على رؤية هذه الأشجار!”، عوفيت عزيزي صبحي فحماوي على نجاحك في أنسنة لاجئينا!!! أنياب جرّافاته تجرف الأخضر واليابس، الشجر والحجر…والبشر، وتنال الناشطة الأمريكيّة راشيل كوري التي ماتت وهي تستصرخ الضمير الإنساني “تقع الشابة على الأرض، ويتكسّر الجسد الأفروديتي المتناسق الجمال والروعة، وتنشقّ الشمّامة الزهريّة إلى عدّة فلقات، فتنساب منها زهريّة الحمرة..!”…وما من مُجيب. الله يرحمك عزيزتي راشيل.
يسلّط الضوء على البنيّة التحتيّة للمخيّم بكاميرا ثُلاثيّة الأبعاد “يكتظّ السكان بشكل لا يُطاق، فتجد البيوت المبنيّة من الطوب المقصور وغير المقصور، طبقات متراصّة يعلو بعضها بعضًا مثنى وثُلاث ورُباع، فتلتصق الشرفات بالشرفات المقابلة، وترتفع العمارات آخذًا بعضها بعضًا بالأحضان، كمجمّعات سكنيّة تكاد تتهاوى متّسخة، لا نهائيّة الامتداد…كالسلامس!! صارت كل عائلة تربّي دواجنها وأرانبها فوق السطح، يعودون ليأكلوا أعشاب البريّة.. تقوم الفرنيّات بواجب الخبز، وبعضهم يشتري له ماعزًا حلوبًا ويضعها في مدخل الدار.
يصوّر المحسوم(الحاجز) الذي صار الآمر الناهي وسيّد الموقف، وتبعيّاته من قاذورات وأكشاك وتجارة، تفتيش وذلّ ومهانة “يبحث أحد الرجال عن حذائه الذي يتأخّر كثيرًا حتى يخرج من غرفة التفتيش، وأخيرًا يشاهده متقدّمًا نحوه على قشاط الأمتعة المتحرّك، وهو مربوط بعقاله الأسود!”، والطرق الاحتلاليّة الالتفافيّة التي تنكّد حياة المواطنين.
يتناول الكاتب ظواهر اجتماعية واقتصاديّة تعاني منها مخيّمات اللاجئين؛ البطالة متفشيّة في المخيّم “العاطلين عن العمل يُقدّرون بنسبة خمسة وسبعين في المئة من القوى العاملة” ممّا يضطر العائلة أن تنتظر تخرّج البنت كي تعمل وتساهم في تسديد نفقات العائلة، فالبنت بقرة حلّابة ممّا يجعل الأهل يرفضون خطّابها طمعًا بقِرشها!، ظاهرة استغلال المواطنين وبيعهم مواد استهلاكيّة ومعلّبات منتهية الصلاحيّة وغير قابلة للاستهلاك البشري.
تناول ظاهرة بزوغ الجمعيّات الأهليّة المُموّلة (N.G.O’S) وانتشارها المسموم داخل المخيّمات لتصير “عيونًا” للعدوّ داخل المخيّم، تُحرّكها من الخلف أصابع عرائس المسرح، ووصفها صديقي الروائي الأسير باسم خندقجي في روايتِه “نرجس العزلة” بدكاكينٍ مختصةٍ في التنمية المستميتة لتصبحَ سلعًا وطنيةً رابحةً راتبها الشهري بالدولار أو اليورو أو كذبة، خُططها مُقرّرة سلفًا، تعملُ وِفقَ أجندة وشروط الجهات المانِحة والمموِّلة وهدفها تحطيم الانتماء الوطني والقومي. كذبة ونفاق تُجّار العولمة وتبرّعهم بما نفذت صلاحيّته ولا يجدون أين يدفنوه فيتبرّعون به كهديّة للشعب الفلسطيني.
يتناول الكاتب وضع المرأة في الخليج العربي، الزيف الاجتماعي والغش والخداع، ازدواجية المعايير، نسبة الطلاق العالية، ظاهرة النقاب، الزواج “التجاري” على أشكاله: زواج المسيار/الزواج المدني/الزواج العرفي/الزواج السياحي/زواج المتعة، انتشار المخدّرات والإدمان، كون البلد مستورِد كل شيء “من أمريكا الملح، ومن الهند أعلاف الدواجن، ومن إيطاليا المفروشات والأحذية والمضخّات، ومن الصين الأدوات المنزليّة، والخادمات من سيريلانكا…واشترت صفقة صواريخ عسكريّة بعشرة مليارات دولار…مؤكد إنها ستصدأ قبل أن تتحرّك من مكانها”!
النكبة والتهجير تلاحق اللاجئ الفلسطيني أينما كان، فاستشهاد ابنه يعيده لتهجيره من الفالوجة عام ثمانية وأربعين عندما قتلوا أباه وعددًا من المقاومين أيّامها…والقتل يلاحقه، وقرية سلمة قضاء يافا التي لا تفارق ابنها فيتمسّك بها وتزيده صمودًا فتجعل أبو مهيوب يقول: “إمّا أن نعود إلى يافا، وإلا فلا!”. الله يسامحك يا صديقي عاطف أبو سيف حين أعدت الحجّة كرستينا إلى غزّة بدلًا عن يافا… التي ما زالت تنتظر!!
يستخدم الكاتب السخرية السوداويّة لتصوير الواقع المرير وتعريته؛ يصوّر مشهد وصول الطائرة إلى الخليج “يقف الرجال والنساء نابتين من مقاعدهم، يتكاثفون في ممرّ الطائرة.. صدورهن الناهدة، وأردافهن المثيرة، ببنطالاتهن القطنيّة المفصّلة على آخر طراز، وتنانيرهن القصيرة التي تُظهر بعضها أفخاذًا أنثويّة بهيّة، وعيون تطلّ منها الحياة! كلّ هذه النِعم الملوّنة، تتحوصل فجأة، وتتشدّر براقع سوداء، فتحولها إلى اللون الأسود، تختفي معالمها، فتصير على شكل بقج سوداء، لا يُعرف ما بداخلها”، لا مين شاف ولا مين دِري!!! وتصل السخرية ذروتها حين يصف معاملة السجّان المحتلّ: “وهناك يَتَعَشّون بهم بطريقة حضاريّة ديموقراطيّة، وبالشوكة والسكّين، وفوطة الصدر.. حذرين ألّا تتساقط نقاط دماء على ربطات أعناقهم، أو ياقات قمصانهم البيضاء البريئة”!!
المخيّم وأهله يتوقون للفرح، حتّى الأعراس صارت في المقابر، فيغنّون ساعة وداع الشهيد أغاني فرح وأعراس؛
“سبّل عيونه، ومَدّ ايدُه، يحنّونه،
خصرُه رقّيِّق، وبالمنديل يلفّونه،.!
غزال بالبرِّ شارد، ويَا امّاه رُدّونه…!”
جاءت لغة الرواية “شعبيّة”، جميلة وسلسة، متبّلة باللهجة الفلسطينيّة للحوار بين أبطال الرواية وكان استعماله للأمثال الشعبيّة موفّقًا بامتياز؛ على سبيل المثال لا الحصر: “دقّة عالحافر، ودقّة عالمسمار”، “يا روح ما بعدك روح”، “الهروب ثلثا المراجل”، “جاييها معي بالمقلوب!”، “أولاد الحرام ما بتنام، ولا بتخلّي الناس تنام”، “لن يضيع حقٌّ، وراءه مُطالب”، “العربي يخبئ الحجر في صدره خمسين عامًا، ليضرب به غريمه”، “بين حانا ومانا، ضيّعنا لحانا”، “يا خبر بفلوس، بكره يبقى ببلاش”، “الذي يحرّك السّم، يذوقه”، “أطعم الفم تستحِ العين” و “ظل رجل، ولا ظلّ حيطة” وغيرها.
راقت لي حوارات الروائي مع شخوصه و”دكتاتوريّته” بالتعامل معهم حين “يناقشونه” حول دور كلّ منهم، تخبّطاته في اختياره للمحرم (ص. 62)، شعوره بالرعب اللذيذ والإهانة الممزوجة بالنشوة حين تواجهه تغريد وماجدة باللوم على تزويجهما لأبي مهيوب دون شور أو دستور رغم الفوارق الثقافيّة؟ أو وصفه بأنّه قد خان الأمانة؟ أو حين يُعاتبه أبو مهيوب لتشكيكه في مصداقيّته ويجعله مسخرة أمام الناس؟ ورغم ذلك يرفض التخلّي عن شخصيّاته!
تبدو الرواية للوهلة الأولى وكأنها “اجتماعية”، ولكنّها تُعرّي الاحتلال وموبقاته، كذلك الصمت العربي القاتل…وهناك لاجئ ما زال يعيش في المخيّم بانتظار عودة قادمة لا محالة.
حسن عبادي