اسمهُ “بيتُ ياسين”، ومقدّمُهُ لا يتوقّف عن البريق والحٌلُم
تاريخ النشر: 27/03/20 | 23:14وشم: رجاء بكريّة
“.. لقد اعتدنا حفنات الضّوء المصنّعة حدّ أنّهُ سيبدو من غير الوارد أن يفاجئنا كلّ هذا النّعف التّلقائي للحياة في عيون تتوهّج شغفا. كم فتنتني الحوارات؟ لست الجهة الّتي تصلح لإجابة..”، (رجاء.ب)
ياسين عدنان..
اسم لمع في منتصف رأسي وأنا أتابع اخر حواراته مع الرّوائي الجميل يحيى يخلف. لا أتابع الحوارات كثيرا ولا البرامج الحواريّة الّتي تحبّ أن تتألّق على حساب وقتي، لكن تفتنني جدا الحوارات الّتي تحترم الوقت الّذي أنثره في عُبِّها طَوعا، فتغرقني بحميميّتها. وأعني الحوارات الذكيّة الّتي تفهم أنّ الدّفء الّذي تُغرِقُ به المُستضاف يجب أن ينسحب على المتابع لها أيضا، وقلّة يفهمون هذه المعادلة.
بيت ياسين عدنان ليس بيتا كأيّ بيت عرفتُهُ قبل الآن، فكلّ زاوية فيهِ تخبئ دهشة صغيرة ربّما لم يجهّز لها المحاور ذاته، أمّا كيف؟ فذلك يحدث حين تمتلىء روح المُحاوِر بسعادة الحالة الّتي يأخذ إليها محاوَرَهُ ويطفحُ هواء صدره بأوكسجين الشّوق. الشّوق لكلّ ما يصدر عن مٌحاوَرِهِ وينتشرُ منه. فهذا الرّجل اليُسَمّى ياسين عدنان معبّأ دهشة، طافحا نبض قلب. نبض القلب هو ما سيتلوّن زئبقا في عينيك حين تحدّقُ في كلامهِ الّذي يقفزُ نجوما في عينيه. شغفٌ يصيبكَ بشغف مماثل. وكي أكون واضحة فإنّ عدد الحوارات الّتي تابعتُها على قلتّها وبعد الواحدة ليلا لبيتهِ، حيث كنت على وشك أن أسلّم بدني لملاكِ النّوم سحبَتْ قراري دون أن تستشيرني. وحين تذهب أنت كي تتابعه انتبه أنّ رموشك الذّابلة ستستيقظ حتما وتعتلي حاجبك وتضحك.
دائما بحثتُ عن الظّواهر غير الطّبيعيّة في عالمنا. رجل لا يخون زوجته مثلا مهما تعثّرت فيه خطوات النّساء الفاتنات. امرأة تقع في عشقِ ديكها المُختال خيلاء بصوته القصب أكثر من كلبها الفروي. سيّدة مزرعة تهتمّ بلمّ بيض الدّجاجات أكثر ممّا تفعل لأكتافِ زوجها العائد ثملا من سهرِه، وصوت شَغِف يُتقِنُ نثرَ حمّى عَمشَقَةِ الرّوح في البدن دون أن يحتاج لأكثر من دفء قلبه الطّبيعي يضىء به وجه عالم لا نعرفه. لقد اعتدنا حفنات الضّوء المصنّعة حدّ أنّهُ سيبدو من غير الوارد أن يفاجئنا كلّ هذا النّعف التّلقائي للحياة في عيون تتوهّج شغفا. كم فتنتني الحوارات؟ لست الجهة الّتي تصلح لإجابة لأنّ متابعة ذبذبات اللّمعان في كلّ محطّة أخَذَنا إليها شكّلت عُرسَ شَغَف، تماما هكذا، وأنا امرأة يشغفها غير العادي في البشر. لقد سطت على مخيّلتي رقّة توزيع النّغم وصلابته في آن. تستطيع أن تبتسم وتحلم وأنت تحاور، هذا ما أخذني، وقلّة من الرّجال الموهوبين والنّساء المتمكّنات يعرفون معني أن تحلم ابتساماتهم بعِطرِ التّلقائيّة وعلى مهل، حدّ أن تهرب منهم وتنتشر كعدوى بين متابعيهم.
وكي لا يختلط الأمر عليكم، لم أشاهد الحوار ثانية، ولا حرصتُ على التّواصل مع المحاور قبل أن علّقَ على تعقيبي المتأخّر ذاك، لكنّ الغريب فيما حدث أنّي بقيتُ أحمل شغف روحي إلى كلّ مكان ذهبت إليه. وفي كلّ زاوية من بيت عائلتي الرّيفيّ أطلّت عيونٌ دَهِشة ملأت المكان سعادة. لا، لا أبالغ، هكذا يجب أن يفعل محاوِري الشّخوص والأشياء. أن يتدرّبوا على أنفسهم، كما يتدرّب ديك المزارع على فكرة السّطو المشروعِ على دجاجات الحقول الأخرى كي يبضنَ، والصّياح بتوقيت فجر تحدّده ساعات متعتهِ كي يتأكّد أنّه يفتنُ كونا، ولو نغّص نومهُ. إنّه يفعلُ بثقة العارف أنّهُ ساعة السّماء، ولا ينتظر تصريحا من خلاف ذيلهِ المنتصب حتّى في البردِ وزخّات الشّتاء. أولئك الّذين أعنيهم سيحاولون كهذا الدّيك تماما تأثيث أرواحهم كما يؤثّث صوتهُ، بعالم قلوب واسعة تستطيع أن تضجّ لتثير الفرح، فليس مفروغا منه أنّ الضجيج يجب أن يؤدّي إلى الرّعبِ والوجع.
ورغم أنّ ياسين عدنان لم يتدرّب على فنّ الغِوايةِ واللّهَف، بل خرج إلى الدّنيا جاهز اللّفتةِ والنّبرة لكنّي سأغبط كلّ من يتدرّب على وتر إبحارهِ المتقلّب المتفلّت المُحتال شأن بحر حيفا حين يعشق موجة لا تصغي إليه فيتهافتُ وينثال. هو محاور ساحر يكفي أن تشاكس ابتسامتهُ بإصبعكَ المعقّمةِ عبر شاشة عاقة ليسطو عليك.. شكرا لنجومٍ تطير مع كتفيك..
حيفا_الجليل الغربي، فلسطين
23 مارس، 020