كلّنا ضيوف على هذه الأرض
تاريخ النشر: 06/04/20 | 9:59“مرت الشاحنة سريعة عند المنعطف. كان يجرّ درّاجته الهوائيّة القديمة، يكاد يعبر الشارع حين صدمته الشاحنة. وقع أرضًا. ندّت عنه صرخة خفيفة. عجلات الدرّاجة الهوائيّة ظلّت تدور بوهن بعد أن ارتمت على وجه الإسفلت. لم تتوقّف الشاحنة أكثَر من عشرين ثانية ثم واصل السائق اندفاعه في الشارع، كأنّ شيئًا لم يحدث. ثم كأنّه انعطف عند نهاية الشارع شرقًا إلى الضواحي المجاورة. مشهدٌ بسيط لكنّه حدث بتعقيد كبير”.(ص.9)
حكاية ثمانينيّ، ابن المخيّم، دهسته سيارة وهو يقود دراجته الهوائيّة، حادث طرق من نوع “ضرب وهرب”، نُقل إلى المستشفى واستسلم لنومٍ عميق وطويل، مجهول الهويّة؛ لا أحد يعرف عنه شيئاً، في الحقيقة لم يمُت، هو اللا بطل في رواية “مشاة لا يَعبرون الطريق” للكاتب عاطف أبو سيف(تحتوي 205 صفحات، صادرة عن “الأهلية للنشر والتوزيع” الأردنيّة، صمّم غلافها زهير أبو شايب، لوحة الغلاف للفنّان الغزيّ الفلسطينيّ تيسير البطنيجي؛ صِدقًا – لم استوعب بعد تلك العلاقة بين لوحة الغلاف والرواية؟!؟، صدرت له عدّة روايات ومنها: “حصرم الجنّة”، “حياة معلّقة” و”الحاجة كريستينا” وغيرها، كذلك مجموعات قصصيّة وعدّة مسرحيات).
مشهد يوميّ يحدث في كلّ زمان ومكان؛ كلّ من كان هناك هبّ لمساعدته، صاحب دكّان فاكهة، سائق سيارة أجرة عابر صدفة، وفتاة جامعيّة نزلت من الباص نقلوه إلى المستشفى، وبالمقابل هناك طفل صغير استغلّ غياب الفاكهاني ليتناول حبّة خوخ اشتهاها دون أن يدفع ثمنها، شابّ يدخّن نارجيلته على بلكونه يراقب المشهد من بعيد ولم يتدخّل، ثلاثينيّ يجرّ عربة ترمسه وفوله، خمسينيّة تجرّ طفلها وطلّاب مدارس يتراكضون، صبايا يدخلن بوتيك موبايلات، رائحة الدجاج المشوي في طريقه لل”تيك أوي”…عادي … و”من فوق سطح البيت المقابل للمطبخ، يقف طفل لم يتجاوز العاشرة، يطلق العنان لطائرته الورقيّة، تحمل أحلامًا كثيرة لتسافر بها إلى فضاءٍ آخر…تطير الطائرة الورقيّة سارحة في السماء…كأنها تستقر فوق المستشفى…حيث ستنقل سيارة الأجرة الرجل العجوز الذي دهسته الشاحنة”(ص. 11-12)، وكأني بالكاتب يربط الماضي ممثّلًا بالثمانينيّ، غريب مجهول الهويّة، بالمستقبل المضيء بتحليق طائرة الطفل وأحلامه.
حاول الجميع الاهتمام بالعجوز المُصاب، لكونه وحيدًا، ثارت شكوك شرطيّ المستشفى حول هويّة السائق الداهس، وما زاد الطين بلّة ذلك الصحفي المتربّص للأخبار ولكن نَشْر الخبر كما هو أمر عادي لا يشفي غليل المحرّر في عصرٍ صار فيه “شابًا صغيرًا لم يلتحق بالجامعة قد يؤثّر في المجتمع عبر “بوست” أو “تغريدة” على منصات التواصل الاجتماعي أكثر من صحيفة بأكملها” (ص.64).
يتناول الكاتب الصحافة الصفراء، فهناك صحفيين حقّقوا نجاحاتهم على عذابات الناس وآلامهم “صوّر أمهات الشهداء وهن يندبن أبناءَهنّ، والزوجات المفجوعات برحيل أزواجهن، والشيخ الذي هدّه رحيل أبنائه وبناته بعد أن سقطت البناية عليهم في الحرب.. التذكارات الأليمة، وألعاب الأطفال المتروكة على قارعة الركام كمثل سنابل خضراء في حقل ميت”(ص. 70-71).
حاول الصحفي كتابة تقريرٍ حول الحادثة فنصحه مديره قائلًا: “القصّة الحقيقيّة ليست فيمن حضر، بل فيمن غاب. الغائبون هم الذين يصنعون الحكايات الحقيقيّة. فالقاتل غائب، كما أن أهل الرجل غائبون”(ص. 76)؛ نصيحة جعلته يشغّل خياله لنسج رواية حول المُصاب ويطرّز له تاريخًا، أدواته “صورة بالأسود والأبيض لشابة جميلة. ومحفظة بنيّة اللون، ودرّاجة هوائيّة قديمة”. يجعل من سلوى صاحبة للصورة التي صُوِّرت في يافا عام 1945، تحبّ “بطلنا” وتفرّقهما النكبة كما فرّقت الأرض عن أصحابها، فهو يدرس في القدس وعائلته هُجّرت إلى غزة التي يصلها بعد ستّة شهور، وسلواه أرض انشقّت بلعتها، لا حسّ ولا نسّ! نُكِبَ الناس وضاعت الأحلام، وظلّت سلوى صورة صغيرة بالأسود والأبيض في المحفظة البنيّة تلازمه كلّ الوقت، صار ساعي بريد، درّاجته الهوائيّة رفيقة دربه، ينتظر رسالة منها حتى صار ثمانينيًّا، القاصي والداني عرف هوسَه بتلك الرسالة المنتَظرة، حين التقى بالشاعر معين بسيسو في مقهى، باغته معين سائلًا عن سلوى: “هل وصلت رسائلها؟ هل هناك من أتي يخبر بشيء؟”(ص. 108)، يرفض الزواج، ينتظر حبيبته وتصبح شغله الشاغل، همّه وهوسه.
النكبة تلاحق ابن المخيم وتلازمه في يومه وحلمه؛ فالسائق فقد والده الذي قُتِل برصاصات العدوّ ليصبح مُعيلًا للعائلة وكان قد أنهى الصف التاسع وتبخّر حلم العائلة أن يصبح طبيبًا وحلمه أن يصبح مهندسًا لتتحسّر والدته وتتذكّر ساعة الانتكاب “صورتها وهي تسير خلف أمها بثوبها الفلاحي المطرّز ببهرجة الحقول، وهي تحمل صرّة الملابس على رأسها، فيما والدها يحمل أخويها، وأزيز الرصاص والانفجارات يلاحقهم في ذلك الخروج القسري من القرية الهادئة التي كانوا يعيشون فيها قرب المجدل، لا تزال مثل صاعقة كهربيّة، تضرب جسدها الذي عبر الرحلة القاسية. تنهّدت وهي تقلّب الجمرات بملقط حديدي، وقالت: بلدنا!” (ص. 102). كذلك الأمر مع عائلة الثمانينيّ؛ الابن الأكبر حملته النكبة إلى بيروت، مثلما حملت بنتان إلى دمشق، والأب رُحّل حاملًا “بعض أوراق الضرائب التي كان يدفعها عن أملاكه في المدينة. عمارتان يؤجرهما في البلدة القديمة، وثلاث محال في السوق، وبيارة في سكنة أبو كبير…وأوراق الطابو وجواز سفر”(ص.107).
انتخابات 2006 في قطاع غزة قلبت الموازين؛ “المناضل” السابق لم يعد مسؤولًا بعد خسارة حركته الانتخابات فاعتكف في ڤيلته التي بناها في تل الهوى يتأمّل الماء في بركتها الراكدة حيث انقلب على ماضيه النضالي واستغنى باسم الثورة والوطن بينما شيخ الجامع صار مسؤول الأمن ويستخدم آيات قرآنيّة لشيطنة خصومه ويبني استراحة يزيّنها بأسدَيْن وخمسة غزلان ومجموعة من الطيور النادرة، و”جارهم الذي لم يسجل مخالفة مروريّة واحدة ضد الاحتلال، أطلق لحيته وبات شيخًا كبيرًا ومن ثم مسؤولًا كبيرًا في الحكومة”(ص. 125)، وصارت الواسطات والمحسوبيّات سيّدة الموقف “مدير المستشفى، الذي التحق بموضة الحكومة وتيّارها وأطلق لحيته تاركًا أحلامه ومغامراته في كييف حين كان طالبًا في مقابر الماضي” (ص.51)، ومعلّم شبه أمّي أصبح المسؤول التربوي الآمر الناهي.
يتناول أبو سيف وضع المخيّم والتغيّرات الاجتماعيّة، الاقتصادية والسياسيّة؛ الشرطي، مناضل سابق شارك في الانتفاضة وسُجن خمس سنوات أصبح عبدًا لأسياده ولوظيفته ليؤمّن مستقبل أسرته كغيره من المناضلين القدامى الذين أصبحوا بين ليلة وضُحاها حرّاسًا لمولات أوسلو، مناضل آخر أمضى أحد عشر عامًا في الزنازين يصبح مرافقًا لأحد المسؤولين، يتناول تجارة الأنفاق وتهريب البضائع التي صارت ورقة رابحة، فرسانها صاروا مليونيريّة وبيّضوا أموالها النجسة بمولات عصريّة، فمصائب قوم عند قوم فوائد! ظاهرة تبييض الأموال التي رفعت أسعار العقارات ولم تعُد بمتناول أهل البلد، “صناعة” المؤسّسات المجتمعيّة الربحيّة التي تكاثرت كالفطر بعد شتوة أوسلو، والفساد سيّد الموقف.
الرجل الآخر، زميل الثمانيني في غرفة المستشفى، شاخ دون رعاية العائلة؛ الابن البكر غادر غزّة قبل النكسة وحُرم من العودة فتغرّب إلى فنزويلا، الابن الثاني التحق بالعمل الفدائي وسُجن ثم نُفي ولم تسمح له إسرائيل بالعودة وبات يعيش في الخليج، الابن الثالث سافر ليتعلم في الدنمارك وصار طبيبًا يشار له بالبنان ولم يعُد، ولكلٍّ منهم أسبابه وتبريراته لعدم الرجوع، الابن الرابع يقبع منذ خمسة وعشرين سنة في سجون الاحتلال وشمعات عمره تحترق خلف القضبان، وما زال يحلم بلمّة العيلة!
يُجنّد الكاتب، وبكثرة، أسلوب الاسترجاع، الاستطراد والاستحضارflashback)) أي انقطاع التسلسل المكاني أو الزمني للرواية لاستحضار مشاهد ماضية لتلقي الضوء على الماضي متمثّلًا بالنكبة وعالم الغائبين وعلى الحاضر وعالم المخيم وغزّة التي تعاني من اقتتال الأخوة، والأغنياء الجدد من تجّار الأنفاق وأصحاب المولات ووطأة أصحاب اللحى الجدد، ممّا جعل الغزيّ يبدّل حلم العودة بحلم السفر والهجرة عبر البحار، تمامًا كما فعل في رواياته السابقة “حياة معلقة” “حصرم الجنّة” و”الحاجة كريستينا”. “هل يمكن أن نتقاتل على من يحرس البوابة للاحتلال؟ حلم أصدقائه أن يغادروا غزة، أن يبنوا أعشاشهم على أشجار خارجها، أن يؤسسوا حياة حديدة خلف سياج البيارة، وراء الحدود، على الضفاف البعيدة للبحر”(ص.125).
في روايته “حصرم الجنة” يتحسّر الكاتب على حلم الجميع بالخروج من الغيتو الغزّي المُحاصر، فالشاب مهووس بفكرة السفر من غزة إلى مكان آخر في العالم (ص 14)، الجميع يحلم بالرحيل عن غزة “كلهم مثلي خائفون. يسكنهم الرعب مثل العنكبوت. يحلمون بالرحيل بعيدًا. يتخيّلون خبط أجنحتهم حين يحلّقون فوق بحر غزة، إلى مجهولٍ جديد، لا يهم إلى أين، المهم بعيدًا عن المكان” (ص 69)، ويصرخ “كنت أعدّ الأيام على أصابع يدي لأسافر بعيدًا. أقول : قرفت غزة، وقرفت فلسطين، وقرفت المخيم، وقرفت جيراني، وأصدقائي. صورتي في المرآة. كل شيء. أريد أن أهاجر”( ص77)، وبطله يحلم باللحظة التي ستخفق فيها أجنحته فوق بحر غزة فالحلم المشترك هو الهجرة إلى أي مكان.
أمّا في روايته “الحاجة كريستينا” فيتطرّق إلى الاحتراب والاقتتال بين الأخوة في قطاع غزة قائلًا، وبأعلى صوته: “نتقاتل من يحرس بوابة السجن لإسرائيل”!!! (ص 264) وهناك أعاد فضّة/كريستينا(وها هو يجعلها تشكّل جزءًا من وعي الحارة في المخيّم!، لا أكثر ولا أقلّ) إلى غزّة كما أعاد سلوى. تساءلت في حينه، وأعيد السؤال، لماذا لم تُعِدها يا عاطف إلى يافا المشتهاة التي ما زالت تنتظر ؟!؟ّ!
شغلتني هذه المسألة كثيرًا، هل هو اقتباس ذاتي (أن يعيد الكاتب استخدام مقطع أو شخصية أو فكرة من عمل قديم، في سياق عمل جديد) أو تكرار واجترار؟ أو هو تناص مع نصوصه السابقة (وهو أمر مشروع حداثيًا حين يُحيل الكاتب إلى تلك النصوص)؟ والأمر يختلف طبعًا عمّا فعله مشهور البطران، على سبيل المثال، حين حوّل قصّة “حَرْبُ الصَراصِير” (صدرت ضمن المجموعة القصصيّة “أوهامُ أوغَسْت اللطيفَة”) إلى رواية أوبرا القناديل!
والوضع يسوء من سيئ إلى أسوأ؛ بعد أن صارت تجارة الأنفاق سرًّا مكشوفًا والانقسام واقعًا مألوفًا، والأمل طريقًا مسدودًا، أصبح الناس مشاة بلا طريق يعبرونها، جعلت الكاتب، ابن غزّة وأهله لاجئون من يافا، يتحسّر على تلك المشية، وعدم القدرة على عبور تلك الطريق، والثمانينيّ اليافاوي ينتظر عبور طريق مغلق الأبواب، ينتهي به الأمر مغمى عليه، وحيدًا، على سرير في المستشفى، والكلّ حوله عاجزون عن مدّ يد العون ومساعدته، وشغلهم الشاغل البحث عن قاتل وهميّ يكون قد تسبّب بحادث طرق…أم لا؟ نعم، للموت طرق عدّة، كلها مفجعة.
أقحم الكاتب أجاثا كريستي وقصصها “ثم لم يبق أحد” و”إعلان عن جريمة” وبطلتها مس ليتيتيا بلاكلوك، وكذلك شارلُك هولمز، خبط لصق دون مبرّر.
استعمل الكاتب أمثالاً لصبغة الرواية بالشعبويّة ووُفّق في ذلك، وعلى سبيلا المثال: “المخيم قد خرم الإبرة”، “الله يعطي الجوز لِلّي مالوش اسنان”، “الجَمَل ما بشوف عوجِةْ رَقْبَتُه” وغيرها.
جاءت النهاية بريق أمل، رغم سوداويّة العنوان، هناك مشاة وهناك طريق فلماذا لا يعبرونها إل الهدف رغم وعورتها: “عادت سلوى. فتحت الباب. كانت عتمة تسحب عباءتها عن الغرفة. ترجّل ونهض عن السرير مثل شمس تشرق من بين تلال الغيوم. كأنّه كان ينتظرها، قبل أن تصل السرير، فتح عينيه وملأهما بحضورها في قلبه الثمانيني. عاد طفلًا يلهو في أزقّة يافا.” (ص. 203)
حسن عبادي