بنت من شاتيلا
تاريخ النشر: 14/04/20 | 8:53على هامش معرض الكتاب الدولي الأخير في عمان التقيت بالدكتور فيصل درّاج وخلال حديث مطوّل حول الرواية الفلسطينيّة الحديثة أوصاني بقراءة رواية “ليتني كٌنتُ أعمى” للكاتب الفلسطيني وليد الشرفا ورواية “بنت من شاتيلا” للكاتب أكرم مسلّم(الصادرة عن الأهلية للنشر والتوزيع الأردنية، تقع في 159 صفحة من القطع المتوسط؛ صدرت له رواية “هواجِس الإسكندر”، رواية “سيرة العقرب الّذي يتصبّب عرقًا” ورواية “التبس الأمر على اللقلق”)، قرأتها للمرّة الأولى خلال زيارتي لبرلين في أكتوبر الفائت للقاء الأخوة الزعتريّين ومحاضرتي “لقاء الوطن والشتات” وزرت حينها تمثال “نساء الأنقاض” لفريتز كريمر وقرأتها ثانيةً مع زيارة العمّة كورونا.
اختيار الكاتب لعنوان الرواية جاء موفّقًا جدًا؛ محاولة جريئة لأنسنة الوجع الفلسطيني، شخصنة حكاية المجزرة التي هُمِّشت، عبر بنت تجذب كلّ قارئ ممكن أن تردعه شاتيلا من سماع حكايتها، ونجح في إيصالها عبر بنت “خَبرت ذلك جيدا”.
تتناول الرواية قصّة لقاء صدفويّ على شاطئ بحيرة أَلْستر(بالألمانيَة:Alster) في وسط مدينة هامبورغ الألمانيّة عام 2004 بين شابّة من مخيّم شاتيلا(يُطلق عليها لقب “حوريّة أًلْستا”)؛ وهي ناجية من مجزرة صبرا وشاتيلا، فقدت والدتها وجنينها وخمسة من أخوتها، جاءت إلى ألمانيا لترميم جرح في وجهها إثر إصابة بشظيّة وشابّ من مدينة رام الله (يطلق عليه لقب “الشاب الأنيق”) جاء في زيارة ضمن برنامج للتبادل الأكاديميّ، موضة راجت عالميًا بفَضل ابن لادن!
يلجأ الكاتب لاستعمال الألقاب لأبطاله عوضًا عن الأسماء؛ “الخالة”، غاب زوجها الفدائيّ مهرّب السلاح ثلاثين عامًا، تبيّن لاحقًا أنّه قضاها سجينًا في السجون السوريّة، لتخلعه وتوقف المرتّب الشهري المخصّص لها كزوجة فدائي مفقود، وتتزوّج مهرّب سجائر وأدوات بلاستيكيّة(حظي بلقب “المهرّب”) ليعود ويُصدم، الأب الملقّب بـ”الجَمَل”، فدائيًا مناضلًا بعيدًا عن العائلة، من أعمدة الثورة الصامتين، يقرأ في الليل تاريخ الشعوب وتجارب الثورات ومستجدات العلوم العسكريّة، يمكث أشهرًا بلا استحمام، يخرج مع الخارجين إلى تونس ويعود مع العائدين إلى غزّة، يزور ابنته في هامبورغ ليحرمها من مُحسنها ويخبرها بأنّه أخوها من علاقة غير شرعيّة مع زوجة مقاتل كان تحت إمرَتِه، “العجوز” ألمانيّة، من مدينة درسدن، التقاها مرّة واحدة، استهوى “الشابّ الأنيق” الجلوس في ركن على بحيرة، عبرَ الشارع الذي تقيم فيه، ربّما حديثه أمامها ومعها تسبّب في موتها، وهي مدمنة على قناة “آر تي” الثقافيّة الأوروبيّة، رجل “دائري تمامًا” يعمل في العلاقات العامة، “المطعم الحرّ”(لا توجد كراس في ساحة المطعم، طاولات مستديرة ذات أرجل طويلة…من يحضر إلى هنا عليه أن يكون جاهزًا تمامًا لتبادل الأحاديث، أو أنّه لديه حاجة للحديث إلى آخرين)(ص. 29)، و”الناجي”، الأخ سالم الذي نام في بيت الخالة ليلة المجزرة لينجو ويحافظ على شجرة العائلة والحياة.
“كنت جالسة على عتبة البيت…جثة أمي وجثث أخواتي وإخوتي ورائي في الفناء. اضطر المصوّر للرجوع إلى الخلف؛ إلى داخل الفناء المقابل لفناء بيتنا. أراد أخذ مسافة كافية لنظهر جميعًا في الصورة، فالعتبة ملاصقة للطريق، وطرق المخيم ضيقة جدًا. يَصعب التقاط صورة جماعية في زقاق مخيم لاجئين حدثت فيه مجزرة. ينبغي الرجوع ودخول فناء الجيران من أجل ذلك” (ص.8)، وكأنّي بعليّ (بطل رواية “ليتني كٌنتُ أعمى”) هو المصوّر الذي التقط الصورة الشاهدة على الجريمة، صورة تحكي حكاية المخيّم والمجزرة! كانت تلك أوّل وآخر صورة جماعيّة تلتقط للعائلة.
كان في السادسة من حين جاءت المجزرة إلى بيته على شكل صور على شاشة التلفزيون، وها هو يلتقيها وجهًا لوجه؛ مخيم شاتيلا والمجزرة التي ارتكبت بحقّ أهلها…وألمانيا.
تصل إلى هامبورغ الألمانيّة للعلاج؛ تعمل “رِجل جَمَل” ضمن فرقة(فن–شرق) مع شبان مغاربة،
بعد أن تحوّلت إلى “موديل مجزرة”، ناجية وحيدة من أسرة تَضمّ سبعة أطفال وأمهم الحامل، تاجر بها الإعلاميون والنشطاء “الطفلة نجت وحدها. نجت لتظل شاهدًا حيًا على جرائم شارون، وجرائم الصهيونيّة، وصمت العالم، وعاره”، مجرّد جسد بلا روح، لا أحد اهتم بما تشعر أو تقول، إنّها مسرحيّة صامتة وكأنّها ماريونيتّة في مسرح دمى أو سيرك، رائحة الجثث تلاحقها رغم مرور أكثر من عشرين عام، وها هو الشاب الأنيق يفتّح الجروح، قادم من مدينة قيد التدمير تجتاحها جنازير دبابات شارون لتخرّب الأخضر واليابس من بشر وحجر ليصدم الحضور؛ يُعيد العجوز نصف قرن إلى الوراء حين قًتِل أو أُسِر الرجال في الحرب وكانت مع من رفع الردم بالأيادي والمجارف وفقدت حبيبها، ترى شريط ذكريات تهاجمها فجأة ليسكتها الموت مع هذا المشهد.
الندوة التي شارك فيها الشاب الأنيق في قصر الثقافة محوريّة وجوهر الحكاية مع أفُق مضيئ؛
الحوريّة تهمس بحدّة “إنها ليست أرنبًا فيخرجها من قبّعته كساحر، وإنّها ليست ضحيّة مريضة تحتاج للتحدث كي تشفى، وليست ضحيّة سلبيّة، فقد حملت السلاح، وقاتلت، وقاتلت، وهي تعرف تمامًا كيف توصل حكايتها، ووصفت اعتقاده بكون المشكلة في أن العالم لا يعرف بأنّه ساذج تمامًا” (ص.127)، تناول المعاناة الإنسانيّة عبر ثلاث مغتصَبات: فتاة فلسطينيّة اغتصبها أفراد عصابة صهيونيّة اغتصاب جماعيّ زمن النكبة ودُفِنت في الرمل عارية، مغتصبة فلسطينيّة أثناء المجزرة في لبنان ومغتصبة في فيلم فرنسي-إيطالي، تناول تفريغ فلسطين من أهلها لخلق أكثريّة يهوديّة، وذبح الفلسطينيين في لبنان للحفاظ على المعادلة الديموغرافيّة.
لا يقع الكاتب في فخّ النمطيّة ومخالب الدعاية الصهيونيّة وأنسنة الهولوكست؛ رفض المشاركة بجولة استعراضيّة لمواقع تتعلّق بها ل”قناعته أن الضحيّة اليهوديّة مختطفة لصالح مشروع ينكر حقّه في الوجود”(ص. 140)، ولا يريد أن يلعب لعبة الشعور كضحيّة الضحيّة، فالضحايا ضحايا لا مبرّرات لمن جعلها ضحايا. نقطة!!!
للنكبة والتهجير حضور في الرواية، فمفتاح البيت يلازم اللاجئ معلّقًا على جدار البيت أو في صندوق على سدّة البيت في المخيّم، وكذلك كواشين ملكيّة الأرض في فلسطين، حياة البؤس في المخيم مع بنيته التحتيّة السيّئة تلازم اللاجئ أينما حلّ.
يحاول مسلّم أنسنة المناضل الفلسطيني بعيدًا عن الأسطرة؛ الخالة تخلع زوجها الغائب وتتزوّج مهرّبًا لتحقيق شهوتها، الأب المناضل يقيم العلاقة الجنسيّة مع زوجة مأموره في الثورة لتُنجب منه بالحرام، إعلاميّو الثورة وتجّارها قرّروا أن تظل ناجية وحيدة (رغم نجاة أخيها) لضمان جودة الحبكة وهكذا تصير القصّة فوتوجينيّة!
يفعّل مسلّم جميع الحواس؛ الروائح تلاحق أصحابها، رائحة كارثة تحوم في سماء المخيم، ورائحة قميص الأب بعد رحيله، الأصوات حاضرة في الخلفيّة، سمعت صوت قلب أخاها الجنين، يونس، يدقّ ويدقّ ويدقّ وهو في بطن أمّه وما زال يدقّ في أحلامها رغم السنين، الجسد بصوره وتجلّياته المتعدّدة، جريحًا ومغتصبًا وقتيلًا، اللمس على أوجه مختلفة؛ تلامس جسد الحورية يعانق دفء جسد الشاب الأنيق تحت الشال على البحيرة.
ينتقد الغرب المزيّف وازدواجية معاييره: شركة جمع النفايات الصديقة للبيئة تُقنع الناس بفصل النفايات من جهة، لكنّها تعيد خلط النفايات المفروزة، “تخلّص الثلاثة من بقايا وجباتهم في زاوية من زوايا المطعم، بعد أن فصلوها في أربعة دلاء: واحد للزجاج وآخر للبلاستيك وثالث للطعام ورابع للورق، فعلوا ذلك وهم متيقّنون أن الشركة ستعيد خلط قمامتهم”. كذلك الأمر حين يرتكب مهاجر مخالفة ما، يتم تأطيره في جماعة للتنميط بينما حين يرتكب نمساوي جريمة كُبرى تتغاضى القبيلة عن أصوله، وحين يتفوّق المهاجر يُنسى أصله وفصله ويصير بين ليلة وضحاها ألمانيًا عن أب وجد! والسطوة الأمريكيّة تُعرّف الإرهاب على مزاجها ووِفق مصالحها الآنيّة والأنانيّة، وكما علّمني الأستاذ نزيه في حينه “مسألة البورنوغرافيا هي مسألة جغرافيا”. بلغت ذروتها حين تناول مطالبة الألماني بوجود إسرائيلي على كلّ منصّة يصعدها فلسطيني بينما يتعمّد إزاحة الفلسطيني عن الطاولة “حين يجلس ألماني مع إسرائيلي في مفاوضات حول غوّاصة نوويّة”!(ص. 131) فعدالته المزيّفة تتوقّف عندما تصل الأمور لفلسطين وقضيّة شعبها.
إنّها رحلة مدهشة تنقل القارئ من مكان لآخر عبر زمان امتداد نكبتنا المستمرّة؛ ما قبل تصريح بلفور المشؤوم مرورًا بالنكبة والنكسة، معرّجًا على معركة الكرامة واجتياح بيروت وما بينهما من مجازر ومِحن حلّت بالفلسطيني في كلّ أماكن تواجده، بما فيه نقاهة تونس ورحلة أوسلو والعودة المبتورة إلى غزة، واقتتال الأخوة وانقسامهم، مع فاصل دعاية موفّق جدًا جدًا بدخول شارون غيبوبة الموت، رحلة مكثّفة كشريط سينمائي أو عرض مسرحيّ نشاهده، أُنتج وتمّ إخراجه بمهارة لبِقة، والفلسطيني، في كلّ أماكن تواجده، هو مَن يدفع ثمن التذكرة.
الرواية حداثيّة وما بعدها بامتياز، من حيث اللغة، التكثيف، الأسلوب، اللغة الشاعريّة، نقل القارئ من فصل إلى آخر بشكل مفاجئ وصادم، مستعينًا بتقنيّات مسرحيّة وسينمائيّة، متحكمًّا بواسطة الريموت كونترول بالأحداث، الأزمنة والأمكنة، أبطاله وقرّاءه الذين يفقدون حواسّهم ويجعل كلّ منهم يشكّك في توازنه ليتساءل بينه وبينه: “خربطنا نبلّش؟”! استعماله للمقولات المتكرّرة “خبرت ذلك جيداً” قرّبت وقع المجزرة وأوصلتها مبسّطة للقارئ لتسهيل مضغها، فلا أحد عاش المجزرة وأخذها معه مثل ضحيّتها؛ تلاحقها ليل نهار. مستخدمًا سخريته السوداء القاتلة لتخفيف حدّة الضربة، هل فعلًا الذبابة موجودة في الصورة؟ هل لجثّة العجوز رائحة؟
لقاء الحوريّة بأبيها حطّم هالته وصورته التي حملتها معها، انتظرته كلّ تلك السنين ليخبرها أنّ حبيبها أخاها من لحم ودم؟!؟ كيف لها أن تُخبره أنّها أخته من قصّة خيانة؟ ويتبخّر ثانيةً من حياتها تاركًا أوراق مذكّرات مفكّكة ومشفّرة؟ فالخيانة تُفكّك اللغة وتعطّلها، واللغة تتفكّك عندما تحمل فوق طاقتها! كتبها بلغة مخطوط فوينيتش(كتاب لمؤلِّف مجهول، بأبجديّة مجهولة الهويّة وبلغة غير مفهومة، ولسخرية القدر، نًسب إلى بائع الكتب، صاحب المال، الذي امتلكه ونال الشهرة، بينما صاحبه بقي جنديًا مجهولًا، كالعادة في الحروب حيث يسرقها المشاهير بنياشينها وأوسمتها) وجاء توظيفها موفّقًا ليزيدها غموضًا وهيبة ووقار.
استعان مسلّم بالسخرية السوداء وجاءت صادمة وموفّقة “رائحة بول ممزوجة بصوت موسيقى كلاسيكيّة!”، “سيتقاسم الشقّتان: صوت منبّه، ورائحة جثّة، وتلفاز يبثّ صورًا دون صوت”، حين يصف عمليّة التبادل الثقافي “ضيف مموَّل جيدًا، وهذا لا يكفي لعيش المصاعب على حقيقتها”، وكذلك الأمر حين تؤنّب الخالة القائد العام في أحد المهرجانات سائلة كيف يستطيع المواصلة إلى الأمام ويترك رجاله وراءه؟ وجاءت ذروتها حين خاطب الألماني قائلًا: “هل يكفي دعم محطة تكرير مياه عادمة للفلسطينيين لغسل ضميرك بحيث يمرر بهدوء تزويد إسرائيل بعدّة غواصات نووية”(ص. 131)
تحكي الرواية حكاية المجزرة التي لم تُحكى بعد؛ هناك 4000 حكاية ورواية اغتيلت مع اغتيال أصاحبها، لم يُحاكم أحدًا على وأدها، حتى التاريخ لم يُحاكم الجاني، الضحايا لا يستجدون أحدًا ولكنّهم يريدون إيصال صرختهم عبر الحوريّة، فالمجازر مستمرّة كما هي النكبة مستمرّة، مجزرة شاتيلا حلقة من مسلسل الرعب الذي يُخرجه سياسيّون قتلة بدم بارد وضحاياه عُزّل، كان ضحيّة المجزرة أطفال وأجنّة، نعم، في المجازر هناك مجرمون يقتلون الإنسان كإنسان دون أن يقاتل، وحتى قبل أن يولَد.
يصل المشهد المسرحي ذروته الدراماتيكيّة حين يصوّر مشهد “عنجنة” الجنين ابن الستّة شهور، جسد جديد من جسد بطن أم مغتصبة! لماذا لم تدفنه يا أكرم؟ فإكرام الميّت دفنه.
صوّر الكاتب بكاميرته الخفيّة مشهد طقس جبل الحناّء التي قامت به الخالة، في بيت أختها المقتولة، على أرض المذبحة، إحتفاءً بخبر موت شارون، يسدل الستار معلنًا أنّه لا راحة بمجرّد موته لأنّها “مجزرة دولة مجرمة، جنّدت ميليشيا مجرمة، وصمت عن الجريمة مجرمون في كلّ مكان”(ص. 144)؛ وبالمقابل، على خشبة المسرح ذاته، وعلى النصف الآخر للشاشة، يظهر مشهدًا سرياليًا حيث يجلس الجَمَل مع مساعده على رمال غزّة، أمامهما صفّ من قاذفات الهاون، والصواريخ ذاتيّة الصنع، فيقرأ فجأة صوت اقتراب ميليشيا المُلتحين. يا للمفارقة!! يمرّ أمام عينيه شريط سوداوي: النكبة، التهجير واللجوء، العمل الفدائي، عائلته المذبوحة وروائحهم في أنفه، فيبدأ إنزال رتبه العسكريّة رتبة رتبة، يريد أن يموت فدائيًا نظيفًا. كاتْ.
أنهي بنشيد الحوريّة الذي يلخّص الحكاية:
“عذّب الجمّال قلبي
لمّا نوى ع الرحيل
قلت يا جمّال خذني
قال لا حملي ثقيل
قلت يا جمّال أمشي
قال لا دربي طويل”
نعم، العالم يعرف تمامًا، ولكنّه غير مستعد لدفع الثمن!
حسن عبادي