خواطر من قلب الكابوس ما أشبه الليلة بالبارحة
تاريخ النشر: 18/04/20 | 10:50بقلم: علي هيبي
سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتِ
في عُمْق الظلمةِ تحتَ الصمتِ على الأموات
صَرخَاتٌ تعلو تضطربُ
حزنٌ يتدفّقُ يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ”
(من قصيدة “الكوليرا” لنازك الملائكة، من ديوانها الثاني “شظايا ورماد”، 1949.)
هذا المقطع الشعريّ هو استهلال قصيدة “الكوليرا” للشاعرة العراقيّة نازك الملائكة، كتبتها في السابع والعشرين من شهر يناير سنة 1947، صوّرت فيها الموت المتراكم في كلّ شيء، والمعاناة الإنسانيّة في كلّ مكان في مصر، حيث اجتاحها سنة 1947 وباء الكوليرا لآخر مرّة، وكان وباء “الكوليرا” أو “الهيضة” كما سمّي بالعربيّة حينها، قد “زار” مصر “كضيف” ثقيل ومقيت غير مرحّب به ولا مرغوب فيه، اجتاحها عشر مرّات منذ 1831 حتّى 1947، مخلّفًا وراءه مئات الألوف الكثيرة من الموتى والمصابين والدمار في كلّ المرافق الحياتيّة.
ولعلّ مضمون المقطع الدالّ على القصيدة كلّها واضح في معانيه ودلالاته وأحاسيسه الحزينة التي أطلقتها شاعرة عربيّة من العراق، بلد الرافدين، نحو بلد عربيّ هي مصر المنكوبة، هبة النيل الصارخ ممّا فعل الموت في كلّ مكان وفي كلّ الأرواح وفي كلّ القلوب، الحزن والمرض والموت تلفّع هذه الثلاثيّة القاتلة الصورة القاتمة التي تغمر النيل وصوت خريره وأهله وصورة الوباء الفتّاك واللعين وسكون صوته الخبيث.
ومن مساوئ الصدف أو من محاسنها أنّ هذه القصيدة تعتبر فتحًا جديدًا في تاريخ شعرنا العربيّ المعاصر، فهي أولى القصائد التي نشرت من هذا النمط الثائر على تقاليد شعرنا القديم، وهو ما اشتهر بالتسمية “الشعر الحرّ”، ومن المؤسف أن تتزامن هذه الولادة البيضاء والجديدة في شعرنا الحديث بهذه الصورة السوداء للمأساة والموت، وما أن رسخ هذا النمط الجديد في شعرنا، منذ أن بدأ عراقيًّا كاتّجاه شعريّ لاقى مكانه ومقامه وشعراءه الكبار ومعجبيه في بلاد الشام ومصر، ومن ثمّ في المغرب العربيّ والخليج، حتّى غدا هو الأكثر استعمالًا لدى الشعراء والأوسع انتشارًا في أرجاء الوطن العربيّ، وكان ذلك منذ سنة 1947، ما أنّ بدأ هذا الاتّجاه يستقرّ حتّى نُكبت فلسطين بكورونا الإرهاب الصهيونيّ والدعم الاستعماريّ والتخاذل والخيانة العربيّة، إنّها كورونا عزلت وحجرت فلسطين عن أهلها الذين شُرّدوا بغير وجه حقّ وما زالوا لما يزيد عن سبعة عقود، فضاعت درّة الشرق العربيّ وبوّابته إلى البحار والقارّات في الغرب، وهمزة وصل شرقه بغربه، سيّدة الأرض، فلسطين.
وفي السياق نفسه، ثمّة مسلسل مصريّ، اسمه “الوتد” ينطوي على قصّة من ذلك الزمن الأسود، زمن تفشّي وباء “الكوليرا” سنة 1947، لمؤلّفها الراحل خيري شلبي، أمّا مخرج المسلسل فهو أحمد النحّاس، وهو من إنتاج سنة 1996، وقد اختار له من مشاهير الممثّلات والممثّلين للقيام بأدوار شخصيّاته فأحسن الاختيار، فهدى سلطان في دور الحاجّة فاطمة القويّة المتحكّمة بالجميع ويوسف شاهين في دور درويش الابن الأكبر لفاطمة، وهما صاحبا الباع الطويلة والقدرات الهائلة في هذا النمط من المسلسلات المصريّة التي تصوّر حياة الصعيد المصريّ بقُراه البدائيّة ونمط حياته التقليديّة وقيم الأرض والغيط والسواقي والزرع، والأهمّ من كلّ ذلك الحكمة الفلاحيّة البسيطة والعميقة في آن واحد، والمعبّر عنها باللهجة الصعيديّة الغليظة في الوقع والمحبّبة إلى النفس، إلى نخبة أخرى من الفنّانين والفنّانات الكبار مثل هالة فاخر وفادية عبد الغني اللتيْن قامتا بدوريْهما الملائميْن لشخصيّتيْهما بإتقان فنّيّ عالي المستوى. إلى جانب نخبة أخرى من الفنّانين الشبّاب الواعدين آنذاك، واليوم هم من الممثّلين البارزين في السينما والتلفزيون، ومنهم عبد الله محمود، حنان ترك، فتّوح أحمد، أحمد سلامة، محمّد الشقنقيري، انتصار، فتحي عبد الوهاب، مها أحمد، محمّد عبد الجوّاد وغريب محمود.
وفي الحلقة الثالثة والعشرين على وجه التحديد، وردت كلمة “كورونا” حرفيًّا على لسان شخصيَّة مريم التي تؤدّيها فادية عبد الغني في آخر المقطع، وهذا ما اعتبره البعض نبوءة من الفنّانة عبد الغني أو من المخرج النحّاس، لما يشهده العالم اليوم من انتشار لفيروس الكورونا المستجدّ. ولا أعتقد أنّ الممثّلة قصدت الكورونا الحاليّة عندما نطقت الكلمة باللهجة الصعيديّة الفلّاحيّة، فجاءت لفظة “كوليرا” قريبة لدرجة المطابقة التامّة للفظة “كورونا” التي على كلّ لسان في هذا العالم الكبير “الصغير”.
وعند المشاهدة الدقيقة لتلك الحلقة من المسلسل، سنلاحظ أنّها تدور حول تفشّي وباء الكوليرا في مصر، فالمشهد يصوّر سطوة ربَّة الأسرة الصعيديَّة فاطمة (هدى سلطان) على أفراد أسرتها من أبناء وزوجات أبناء، وهي تطلب منهم التزام غرفهم وإحراق ثيابهم وتناول الثوم صباحًا وتقديم عصير الليمون للأولاد، وإذ ترفض مريم (فادية عبد الغني) دخول غرفتها قبل عودة زوجها درويش (يوسف شعبان) فإنّ الأخيرة تردّ عليها: “درويش كبير وبيفهم ما بينخافش عليه”، فتستنكر مريم قائلة: “هي الكورونا هتسيب كبير ولا زغيّر”!؟
وبما أنَّ الكلمة الأجنبية «كوليرا» كانت إبان تفشّي الوباء في مصر لفظة طارئة على الصعايدة وربَّما على عموم المصريين والعرب، فقد ارتأى المخرج أن تلفظها مريم «كورونا»، لإضفاء مزيد من الصدق على المشهد، لتخرج الكلمة بسبب سرعة نطقها أقرب إلى كورونا.
والأهمّ من ذلك وهو ما يفيد غرض هذه الخاطرة هو هذا التكافل الاجتماعيّ والتعاطف الإنسانيّ بين البشر في زمن الشدائد والأزمات، إلى جانب أنّ كلّ المظاهر التي تعكسها الحلقة من مشاعر الهلع والخوف والتحسّب من انتشار الكوليرا آنذاك، ومن الوسائل لدرء مخاطره وصوره من حجر وعزل وتعقيم واغتسال وطعام صحّيّ ولبس كمّامات وقفّازات، كلّ ذلك نراه في المسلسل بأمّ العين ونسمعه بأمّ الأذن، وهو الهلع والخوف نفسه الذي نحسّ به اليوم ونحن تحت هذا الكابوس الحقيقيّ ونواكبه ونعايشه ونعيشه ونعاني من حدّته وحجره ووطأته بأمّ الجسد وبأمّ الروح، فما أشبه حياة اليوم بمسلسل الأمس! وما أشبه الكورونا بالكوليرا! وما أشبه الفنّ الأصيل بالحقيقة والواقع! وما أشبه الليلة بالبارحة.
ولكن تبقى الإنسانيّة هي الإنسانيّة في الألم والأمل، ويبقى الإنسان هو الإنسان في الشدائد والتكافل والتعاطف في كلّ زمان ومكان، إلّا من بعض الشواذّ من الحكّام والسياسيّين والتجّار الذين هم ليسوا من الجنس الإنسانيّ بل هم من جنس الشياطين، لم ترد الإنسانيّة في حساباتهم الاقتصاديّة ولا وردت قيم التعاطف والتكافل في كتب مصالحهم الماديّة والاستعلائيّة، ولا مرّ خيال الإنسان أمام عيونهم، بل رفض زعيمهم “إبليس” عندما خلق الله آدم الأمر الإلهيّ بأن يسجد لآدم الإنسان! وها هو الرئيس الأميركيّ الحاليّ “ترامب” إبليس جديد، وهو النموذج الحيّ لعصابة الشياطين حكّامًا وسياسيّين وتجّارًا، ها هو يرفض الامتثال للأمر الإنسانيّ بالسجود لمطالب الشعوب وحقوقها حتّى في هذا الزمان العصيب. فما أشبه إبليس الجديد بالقديم وما أشبه التجّار بالشياطين! وما أشبه هذه الليلة من القرن الحادي والعشرين بتلك الليلة عند بدء الخليقة، هكذا كان إبليس وشياطينه منذ خلق الله آدم “ولمّا يقلعوا”.