“رُجوع”
تاريخ النشر: 20/04/20 | 8:47قرأت قبل فترة وجيزة مؤلّف “في مديحِ الوقت” للشاعر مرزوق الحلبي ولفت انتباهي قصيدة بعنوان “آخرُ الشّعراءِ على حُدودِ الكلامِ! أو رسالة متأخّرة لنزيه خير” جاء فيها: .
“وذرعتُ أرضَ القصيدةِ المُثلى
فأدهشني المجازْ
وعرّجتَ بي نحو حارةٍ في الغربِ
وفكرةٍ في فاسَ،
وصَعدتَ نحوَ نَجمةٍ في الشَّامِ
أيقنتُ ساعتَها
أنَّ العُمرَ نِسبيُّ المسافاتِ
والشعرُ حُرٌّ،
مطلقُ
العمرُ نسبيُّ الدّلالاتِ
وشِعرُك مطلقُ.
فكُن، رغم ارتباكِ الروايةِ كما كُنتَ يا صاحبي،
آخرَ الشّعراءِ على حُدود الكلام.”
تواصلت مع صديقي رشيد خير وزوّدني بديوان “رُجوع” للشاعر الفلسطينيّ الراحل نزيه خير(1946-2008) (يحتوي 480 صفحة، طُبع في مطبعة المشرق الشفاعمريّة ويشمل باقة قصائد من مجموعاته الشعريّة: أغنيات صغيرة، قراءة جديدة لسورة الياسمين، كتاب دموي لأبي تمام، رائحة المطر، ثلج على كنعان، ورثت عنك مقام النهوند، مسافة من القلب وأخرى من الذاكرة) وديوان “ليلة الخروج من الأندلس” (يحتوي 103 صفحات، صدر عن بيت الشعر الفلسطيني).
حادثت في نهاية الأسبوع الفائت صديقي د. يوسف عراقي فسألني: “ماذا تقرأ اليوم في زمن الكورونا؟”، بعثت له صورة الغلاف فكتب لي: “صورة وكلمة تختصران حكاية عمرها 72 عامًا. قفلٌ أثقله صدأ الأعوام وفتحة لم تيأس وما زالت متأهّبة بانتظار مفتاح تتناقله الأجيال.. إنّه كلمة السر لعودة قادمة”.
شدّتني أشعاره ووجدتُ أنّها قد تداخلت بنيويًا وطنيّته الفلسطينيّة، قوميّته العُروبيّة وأمميّته، وما زاد الطين بلّة مذهبيّته التوحيديّة الدرزيّة التقدميّة بمزيج توافقيّ كوكتيليّ يُحسَد عليه، قلّما نجده عند غيره من الشعراء، وهذا التداخل زادها رباطة وقوّة دون أن يجئ الواحد على حساب الآخر، جاءت نصوصه مسكونة بالهمّ الوطني والقومي، عروبيّة حتّى النخاع وتنضح بالموروث الحضاري العربي، ففي قصيدته “خطاب من العالم الثالث” يقول:
“الجاهليّة فِريةٌ.. درجتْ على جيلٍ
توالد قبل جيلْ
من يشتهي بلحًا.. يحنُ الى العراقْ
او يشتهي سفرًا.. يحنُ الى الجليلْ
من يشتهي عسلًا.. يغبُ من الفراتْ
او يشتهي عنبًا.. فمن عنب الخليلْ
نحن السلالةُ من بني تيمٍ
ومن احفادِ أندلسِ
ومن اهل الشهادةِ والكتابِ
ومن شعوب الفقرْ”
ينادي بالعروبيّة ومجدها الحضاريّ وعدم الانصياع الأعمى وراء الغرب وغروره فيقول في قصيدة “تشريق”:
“فلماذا أيها الشرقيُّ لا تبدأُ لندنٌ بثًا
للتراويحِ بتوقيتِ حلَبْ؟”
لفتت انتباهي قصائد عديدة لشخوص أثّرت فيه وعلى مسيرته، اهتم بالتواصل معهم ولقياهم وذكرهم في أشعاره، يكتب قصيدة “سوراقيا” إلى عبد الوهاب البياتي، قصيدة “بحيرة ما وراء الريح” إلى يحيى يخلف، وقصيدة “تلويحة الأيدي المتعبة” (إلى روح ممدوح عدوان) (ثلاثتها في ديوان “ليلة الخروج من الأندلس”)، وقصيدة “الطريق الى أبنود” (إلى عبد الرحمن الابنودي يوم كنت معًا تحت شمس القاهرة؛ ديوان: “رائحة المطر”):
“إني أراك بكل حلمٍ عائدٍ
يأتي على شوقِ الرجوع من الصعيدْ
هي غيمةٌ ويحضُنها الندى
وتعود ابنودُ القديمةُ من جديدْ..!”
وكذلك قصيدة “ثلج على كنعان” (إلى محمود درويش؛ ديوان ” ثلج على كنعان”):
“بيروتُ من أينَ الطريقُ إلى نوافذ قُرطبة
من كُلِّ نافذةٍ أرى بَحرًا
وأبصِرُ مرفأً
وأحجُّ من حيفا إلى عكّا
وأسألُ ظاهِرَ العُمَرَ الذي صادَفتَهُ
من أين تأخذك الطّريقُ إلى الفنارْ
مَطرٌ هُنا.. مَطرٌ هُناك وَلم تَزَلْ
ذاتُ الطّريقِ إليهِ من حيفا إلى قَصرِ الخِمار..!
يقوم على مثقّفي الرفاه؛ على من باع ضميره وقلمه للسلطة وصار بوقًا لها ضدّ أبناء جلدته وراح يروّج لسياستها القمعيّة، هؤلاء المتسلّقون من خاطفي الأضواء لقناعتهم بمرض النسيان الذي يتيح لهم تغيير مواقفهم حسب التيّار، انتهازيّون وما أن يصلوا سنّ التقاعد يبدؤون بالمزاودة والشعارات الرنّانة ويتسابقون إلى المنصّات الوطنيّة لتبييض ماضيهم الدنِس فيقول في قصيدته “مقطع من رسالة الكتاب”( ديوان: “رائحة المطر”):
“معذرةً.. يا اخوتنا “الشرفاء”
معذرة يا إخوتنا “الكتاب الشعراء”
يا من اصْبحتم في زمن الردة أبطالاً
وانا لا اعرفكم الا اقزامًا بؤساءْ
معذرةً يا من اصبحتم في أروقةِ المجدِ ملوكًا
أسيادًا.. أمراءْ”
……
من اين لكم هذا الوجه المتلون دوما
يا أولاد القحبة؟ يا اولاد السفهاء”
لنزيه مقولة واضحة المعالم؛ أعطِ كلّ ذي حقٍّ حقّه ولا تسلبه النياشين والمجد في مماته، يقول في قصيدة “إصرار” (ديوان ” ثلج على كنعان”):
لا يوجَدُ في هذا العالم جنديٌّ مجهولُ واحد
الجنديُّ المجهول لهُ أهلٌ
ولَهُ أرضٌ
ولَهُ أحبابْ
الجنديُّ المجهول لهُ بيت ولَهُ أهل وله أولاد”
للشاعر رؤية ورؤيا واضحتا المعالم، لا يصحّ في النهاية إلّا الصحيح ومهما عبث الاحتلال في القدس ومهما حاول تجيير التاريخ والجغرافيا لصالحه.. تبقى عربيّة، فيقول في قصيدة “لا شيء..!” (ديوان “ورثت عنك مقام النهوند”) (وأخرى تحمل نفس العنوان في ديوان “ليلة الخروج من الأندلس”):
“لا شيء يغيّر وجه القدس
ولا شيء يغيّر وجه الله
لا يوجد من يأخذ منها
رائحة الخبز العربي
أصوات الباعةِ
…..
ما أغبى هذا العابث في مملكة النار القدسيّة
ما أغباه..!”
(من الجدير بالذكر أنّ الديوان صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وجاء في التظهير: “يتميّز نزيه خير بالأصالة الإبداعية والقدرة على التوظيف الدلالي للموروث الفكري والتاريخي العربي…إنّ هذا الصوت هو صوت عروبي وقومي يمثّل قدرة الثقافة العربيّة على مواجهة الآخرين في طروف صعبة واستثنائيّة).
للجغرافيا والمدن والأمكنة حضور في أشعاره، حين أنشد لروح الشاعر بدر شاكر السياب عنون قصيدته “جيكور وأنشودة المطر” (والقليلون يعرفون أنّ جيكور قرية نشأته في العراق واشتهرت بفضله):
“من شمس غارت بسمتُها
عن أفُق العودةِ يا جيكور
ما زالت انشاد، المطر
تهتز
تثورُ، تثورْ”
وفي قصيدته “الركض وراء حصان طروادة” (ديوان: “كتاب دموي لأبي تمام”):
“لم أفطن يومَ ركضتُ على الكرمل طفلًا
لم أفطنْ أنَّ الكرملَ ممتدٌ
من حارةِ احجار الصوانْ
في مطلع دالية الكرمل حتى
احجارَ الطحلبِ في مدخل حي الخانوقْ…”
حظيت دالية الكرمل، مسقط رأسه، بقصيدة تليق بها وتحمل اسمها، جاء فيها:
“كانت داليةُ الكرملِ تفتحُ راحَتَها
ليرى الرحَّالةُ حِنَّاءَ العُرسِ
وملحَ الأرضِ ووَشْمَ اليَدْ
من عهْدٍ صارت مملكةً للعشْقِ
ومحبرةً للشِعرِ وبائِعةً للوردْ.”
للقدس حضور طاغٍ في أشعاره؛ ففي قصيدته “بكائية على طريق المدينة”(ديوان: “قراءة جديدة لسورة الياسمين”) يقول:
“ألقاك حَول مدينَتي
تلتف يا قمرَ الضبابْ
وأراك تُطفِئُها على الموتى
وتفتح الف بابْ
كي يَعبُر الماشون عند رحيلهم
دربًا.. لأمسِيَة اغتراب”
وكذلك قصيدته “مرور الخطى الجائعة” وغيرها.
وكذلك الأمر هناك حضور كبير لمدينة عكا في أشعاره؛ يهديها الكثير من أشعاره، منها قصيدة “عكا” و”الكرسيّ” (ديوان: “ليلة الخروج من الأندلس”) و قصيدته: “لو خافت عكا من موج البحر”:
“يتمشى الصيفُ على شاطئ عكا
فاشرب من ريح البحر نبيذًا
واحمل ما شئت عن السورِ همومًا
وعن الرب الجالس في البرج الغربي.. دعاءْ”
وكذلك بيروت في قصائده “مطر أيلول.. فوق بيروت”، “إشراقات لم تشهدها قرطبة وشهدتها بيروت” وغيرها.
عمِل الاحتلال على إعادة كتابة التاريخ من جديد، تغيير المعالم بشكل مُمَنهج بما يخدم مصالحه وروايته المفبركة، في القدس، كما هو الحال في يافا القديمة وبحرها، عكا القديمة، وادي النسناس وتلّ السمك ووادي الصليب في حيفا، كما فعل المحتلّ الأمريكي في العراق، وفي كلّ مكان، وها هو نزيه خير يستحضر الجغرافيا في أشعاره للتشبّث بالبلد والحفاظ عليها، يوجعه ويؤلمه ما حصل في بغداد كوجعه على يافا وحيفا وعكا والقدس، ولا يؤمن بالتغيّرات اللحظيّة الزائلة، فيقول في قصيدة “نهران”:
” ما بينَ منازلِ كسرى ومنازلِ غسّانْ
يتدفّقُ في قلبي نهرانْ
نهرٌ أسمَتْهُ النخلةُ دجلةَ..
صار نبيًا للنخلِ.. ونهرٌ
أسمتْهُ الجنيّةُ نهرَ الأردُنِّ
فصارَ نبيًا للغفرانْ”
خاطب الآلهة بالنديّة وأنسنها؛ ففي قصيدته “يا نوس” يخاطب آلهة كلّ البدايات:
“يا نوس.. يا مولاتنا
حين يمد قلبنا العطاء
لن نرحم الزمن
…..
عرفت كيف تبدأ الخطى
على دروبنا الخضراء يا مولاتنا
ويبدأ المطر”
آمن الشاعر بضرورة التواصل الثقافي مع العالم العربي رغم الحصار الاحتلالي لأهميّة التثاقف من وجهة نظره، ولهذا التواصل أثر كبير على فكره وشعره، وأُرفِقت المجموعة بصور تجمع الراحل بأدباء من العالم العربي، لتبيان عروبيّته كنهج حياة وفكرة آمن بها وأثرها جليّ في أشعاره، ومنهم على سبيل المثال، لا الحصر، الروائي المصري نجيب محفوظ، الشاعرة الفلسطينيّة فدوى طوقان، الروائي السوري فاروق منجونة، الكاتب والناقد المصري رجاء النقاش، الشاعرة الكويتيّة سعاد الصباح، الشاعر والأديب العراقي عبد الوهاب البياتي، الشاعر اللبناني إلياس لحود، الشاعر العراقي(كردي الأصل) بلند الحيدري، الكاتب السوري الألماني عادل قرشولي، الشاعر المصري محمد أبو دومة، الشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي، الشاعر الفلسطيني عز الدين مناصرة، الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، الأديب المصري يوسف القعيد وغيرهم.
تناول في قصيدة “رجوع” التي تحمل المجموعة عبء اسمها(ديوان:”رائحة المطر”) بانسيابيّة وسلاسة فكرة التقمّص وتناسخ الأرواح (يؤمن الدروز بانتقال روح الانسان بمماته من جسده إلى جسد مولود جديد، دليلًا على التجدّد) وكأنّي به يسدّد دَينًا لمذهبه:
“ما ماتُوا.. إني أبصرُهُم..
من جاءَ إلينا مِن أهلِ الشامِ يَعودُ إلَيهم
طِفلًا.. يَستَذكِرُ عَن جَبَلِ الكرمِل حُلمًا
إني المسهم في رِعشَة قَلبي
أحملُهُم في دفء العينين
ما ماتوا..
مَن راحَ إلَيهم من أهلِ الكرمل يومًا سَيعودُ إلينا
إني المسهم في رِعشَة قَلبي
……
هذا زَمَن لا يرجِعُ.. لَكِن..
دالِيَة الكرمِلِ تبقى زَهرةُ فُل في نيسان….”
جاء في الموسوعة الفلسطينيّة المعتمَدة أنّ نزيه خير هو واحد من ثمانية شعراء يمثّلون حركة الشعر الفلسطينيّة المعاصرة وهذه أثمن شهادة لإبداعه الأدبيّ وإرثه الشعريّ.
حسن عبادي