(أصَابع) مُنى- بقلم: رانية مرجية
تاريخ النشر: 28/04/20 | 16:06أن تقرأَ للشاعرة منى ظاهر، يعني أنّكَ تقرأُ تلاواتٍ مِن الحبِّ والجمالِ والنّورِ والحياة، إذ تغادرُكَ روحُكَ لسابعِ فَضاءٍ دونَ استئذانٍ، لتعانقَ أنهارَ الجنّةِ وأزهارَها، ولتُحاكي بينَ أسطُرِها الوامضةِ كافّةَ الشّهداءَ والقدّيسينَ الأبرارَ.
كلماتُها نورٌ ونارٌ تقعُ على النّفسِ وقْعَ الشّهبِ على الأرضِ الجفاف.. تشعرُ بأنّكَ تُغادرُ، وبِلا رجعةٍ، مدائنَ الظّلامِ، وخرائبَ الوقتِ، لتتحرّرَ مِن القيودِ والسّلاسلِ، باحثًا عن ماهيّةِ الحُبِّ الحقيقيِّ الّذي ننشدُهُ، ونَحنُ نَمدُّ قلوبَنا المتعبةَ بَحثًا عنها لنتحرّرَ مِن الأقنعةِ الّتي أصبحتْ لا تُفارقُ معظمَ النّاسِ في أرجاءِ البسيطةِ.
منى ظاهر؛ تلكَ الشّاعرةُ الّتي اقتحمتْ غمارَ الشعرِ، وهي تعلمُ بأنَّ الشّعوبَ بثقافاتِها تعي جيّدًا، كيفَ تأخذُ الحريّةَ، وكيفَ تستردُّ الحقوقَ المستلَبَة.
قارئُ مَجموعتِها الشّعريّةِ “أصابع”، لا يقفُ على مفترقِ الطّرقِ، فلا فرقَ بينَ الحُبِّ والبحثِ عن الحريّةِ؛ بِهما تُرَدُّ مَخالبُ العدوِّ، فالأدبُ والثّقافةُ لهما الكلمةُ الفاصلةُ في هذا الصّراعِ المستمرِّ منذُ أمدٍ بعيدٍ.
لا تُعيرُ في نصوصِها بالاً للخوفِ مِن سياطِ المجتمعِ التّقليديِّ ولغةِ الممنوعِ، ولأنَّ اللهَ محبّة، ولأنَّ للحبِّ حياةً، تضمُّنا بينَ جنباتِها، ولأنّ الحبَّ هو الأقوى في الشّدائدِ، والأروعُ في لغات الكونِ، ولأنّنا نستطيعُ أن نختصرَ قواميسَ الكمالِ وكراريسَ الجَمالِ بكلمةٍ واحدةٍ هي (الحُبُّ)، والّذي يَسحَرُ القلوبَ ويُريحُ النّفوسَ الظّمأى، كتبتْ امرأةُ الحبرِ لرَجلِها الورقيِّ بِجسَدِها، وروحِها، وضميرِها، وبلغةٍ جريئةٍ، وأناملِ أنثى لا تعرفُ إلاّ الحبَّ، بلغةٍ رصينةٍ منثورةٍ كحبّاتِ اللّؤلؤِ، وعميقةِ المغزى.
للحُبِّ مذاقُهُ الخاصُّ في نصوصِها؛ يَختزلُ المسافاتِ، ويشاكسُ اللّحظاتِ.. لا يعرفُ للمستحيلِ منفَذًا، ولا يعترفُ بالحدودِ والقيودِ.. إنّهُ حبٌّ كبيرٌ وعميقٌ وجريءٌ، يكسرُ سجنَ المكانِ، ويُحطّمُ سدودَ الزّمانِ.. فيهِ اللّوعةُ، والذّوبانُ، والاحتراقُ بِحضنِ الوطنِ المسلوبِ الجريحِ.
الأرضُ وطنٌ، والمرأةُ وطنٌ.. الحُبُّ وطنُ الأوطانِ، فالحبُّ عندَها مِن الثّوابتِ، لا يُمكنُ لهُ أنْ يتغيّرَ أو يتبدّلَ.. بياضُهُ طاهرٌ ناصعٌ كالثّلجِ.. نقيٌّ كقلبِ الطّفلِ الرّضيعِ.. غيرُ مشروطٍ كحُبِّ اللهِ لبني البَشَرِ.. تؤمنُ بتلاقحِ الأرواحِ، وتَجاذبِ النّفوسِ، وبالطّبيعةِ، والألوانِ الّتي تُضيفُ قوّةً، وطاقةً، وعنفوانًا، فاللّونُ اللّيلكيُّ يرمزُ للطّاقةِ الشّمسيّةِ ولأورشليمَ السّماويّةِ.
عندما كنتُ أقرأُ لها أحسستُ بأنّ نصوصَها الحالمةَ تشدُّني، وتبعثُ في نفسي دهشةً مِن روعةِ بوحِها وصراحتِها.
اثنانِ في المنفى
نَحنُ والوطن
يُحيينا بذورًا، نتهيّأ زيتونًا للمستقبل
كلُّ الأسماءِ لي
لذا لا اسمَ لي
ويُحبُّني بكلِّ الأسماءِ الّتي أحبُّها..
كلانا مِن حروفِ الوطن..
شتات التّرابِ تجمعُهُ ذاكرتُنا..
هو لي رجلٌ أحمرُ، وأنا امرأةُ اللّيلك.
تُعجبُنا عوالِمُ الألوانِ ولا نتلوّنُ.
نرى هنا مدى تعلّقِ وشغفِ الشّاعرةِ بالوطنِ المسلوبِ، فهي تعيشُ في المنفى داخلَ أرضِنا الملوّنةِ بالدّمِ ونرى منى اللّيلكيّةَ السّماويّةَ الطّاهرةَ الّتي لا تتأسرلُ”، أو تندمجُ، بل وتسترسلُ:
عيونُ الوطنِ أنتَ
هل هناكَ أغلى مِن ترابِ أرضِنا، وطنِنا؟
وفي الصفحة (59) تزدادُ غربتُها، وتتّسعُ جراحاتُها وتكبرُ ثورتُها:
أنا في منتصفِ هذا اللّيلِ الطّويلِ الّذي تَحرُسُهُ
حشراتُ الظّلامِ
ذلكَ الّذي يتهادى بسيَلانِ ظلماتِهِ
في كلِّ الأمكنةِ مِن هذا الوطنِ المسلوبِ.
ويعاتبُني ذلكَ المنفى والجرحُ يتّسعُ جروحًا أخرى..
يقدّمُ لها اعتذاراتهُ: همسًا، صوتًا، لَمسًا، رائحةً، لكنّ الحبَّ يَجعلُها تنتصرُ وتتخطّى الزّمانَ والمكانَ مع رجلِ المستحيلاتِ، ورجُلُها هو وطنُها وأرضُها.
مجموعةُ الشّاعرةِ منى ظاهر سَلِسَةٌ بكلماتِها، عذبةٌ بِمعانيها، ونديّةٌ بِخلجاتِها.