وقفة مع الذات
تاريخ النشر: 01/05/20 | 10:22بقلم: حوا بطواش
المشي في الصّباح الباكر على شوارع القرية، عندما يبزغ نور الصباح الجديد مبدّدا ظلمة الليل ويولد النهار، هو تجربة فريدة لها سحرٌ خاصٌ لا يعرفه إلا القرويّون. البيوت المتراصّة مغلقة على أصحابها، ما تزال مستغرقة في النوم. لا صوت هنا إلا همسات الريح، ووقع خطواتي على أسفلت الشوارع.
في هذه الأيام، أيام الحجر الصحي والعزلة البيتية، حيث الانفراد مع النفس، لا بد من وقفة مع الذات تفرضها عليك العزلة لإعادة التفكير في حياتنا وإعادة النظر فيما آلت إليه أحوالنا.
تتوالى الأيام رتيبة، متشابهة، تتعاقب الشهور دون أن نشعر بقيمة الوقت الذي يمرّ ويولّي، تنقضي السّنون وفي ظنّنا أنّنا نركض وراء أحلامنا، ولا ندري أننا في الواقع نعيش قابعين في سجن أوهامنا.
نعمل ونركض. نركض ونعمل. بلا توقّف. هكذا، ننجرف وراء الحياة. وفجأة، نجد أنفسنا أمام واقع لم نخطّط له، ولم نكن نتوقّعه على الإطلاق. سنواتٌ تمرّ دون أن نحسّ، ولا ندري: إلى أين نركض؟ لماذا نركض؟ وماذا نريد؟
حياتنا تحوّلت إلى سلسلة لا متناهية من الضغوط والهموم، نعمل ونركض بين البيت والعمل، والعمل والبيت. لا شيء يبهجنا. لا شيء يلهمنا. لا محطة نقف عندها لنفكّر ونتأمّل أو حتى لنروّح عن أنفسنا.
لا نعرف ماذا نريد حقا في هذه الحياة وإلى ما نطمح. نسير مع التيار. نقبل ما تعرض علينا الدنيا. نرتاح إلى حياة الراحة والركود، ننشغل بلقمة العيش. لا وقت نجده للتوقف ولا للتفكير، لا للحلم ولا للطموح. لا وقت نملكه حتى لإصلاح ما تعطّل في حياتنا. الوظائف اليومية، المشكلات الصغيرة، الضغوطات العملية، المهمات اللامتناهية، الهموم الحياتية… كلّها جاثمة على صدورنا كالصّخور.
نحتاج أحيانا إلى هذه الوقفة مع الذّات، لنفكّر قليلا بأنفسنا، لنبحر عميقا في دواخلنا، ونسأل: هل هذه هي الحياة التي كنا نرغب ونحلم بها؟
هل درسنا الموضوع الذي كنا نحبّه في الجامعة؟
هل نعمل في الوظيفة التي كنا نريدها؟
هل تزوجنا من الشخص الذي كنا نتمنّاه لأنفسنا؟
هل نعيش حياة ذات معنى؟
هل هي الحياة التي خطّطنا لها؟
نكتشف أننا لم نكن نخطّط لشيء.
نحتاج لوقتٍ مع أنفسنا، نهدأ فيه ونروق. هي وقفةٌ نفكّر فيها، نحلم ونخطّط، نستنشق هواءً نقيًّا يُجدّد طاقاتنا ويُنعش الرّوح. ومن يدري؟ ربما عندئذٍ يمكننا أن نفعل شيئًا جديدًا ومختلفًا لم نفعل مثله في حياتنا.
نحتاج الصّدق مع الذات، فالصدق مع الذات هو الصدق مع الآخر. نحتاج أن نحمل رؤيتنا الخاصة بنا، رسالتنا الخاصة التي لا نشبه بها الآخرين، بل نشبه أنفسنا.
نحتاج أن نعيش أحلامنا ونحقّق طموحاتنا ونعيش بما تمليه علينا رغباتنا، ونفكّر ضمن معتقداتنا وآرائنا ونمارس هواياتنا التي تدفع بنا نحو متعة الحياة. نحتاج إلى ما يشحن أنفسنا بالطاقة الإيجابية ويزوّدنا بالنشاط والحيوية كي نكمل رحلة الحياة الشّاقة بسهولة أكثر وفرحة أكبر.
الحياة رحلةٌ قصيرة نعيشها، رحلة مؤقّتة، قبل أن نرحل وننتقل إلى الرحلة الأبدية. الحياة جميلة حين نراها بعين الأمل والتفاؤل، وتعيسة حين نراها بعين البؤس والتشاؤم.
هناك من تجري أيامه بطيئة، متأنّية، يقتله الشعور بالرتابة، لا تفاصيل جديدة يقحمها بين ثنايا الأيام. وهناك من تجري أيامه مسرعة، متكرّرة. يحاول أن يبحث عن اللهفة في مكان ما كي يطلق ضحكة من القلب تعيد إليه التّوق إلى الحياة.
ها هي الزهور تفتّحت لاستقبال الصباح، تصافح ضوء الشمس.
أمشي وحدي على الشوارع، أتأمّل مستمتعة بكل شيء من حولي. زقزقة العصافير المغرّدة، نسيم الصّباح العليل الذي يهبّ على وجهي، الهدوء الذي يكتنف كل شيء من حولي، وذلك الصّمت الذي يسبق العاصفة، قبل أن تستيقظ القرية إلى الحياة، إلى يوم جديد، نستأنف فيه رحلتنا من الركض وراء تفاصيل الحياة.