هؤلاء هم من سيدفعون أثمان كورونا!
تاريخ النشر: 04/05/20 | 11:47فتحي كليب
لا يمكن فهم تداعيات “الفوضى” العالمية التي احدثتها جائحة كورونا خارج اطار الصراعات الدولية، التي ما توقفت يوما بين اطراف ومكونات النظام العالمي الذي افرزته الحرب العالمية الثانية، وتطور بانهيار الاتحاد السوفياتي ليتحول الى صراع ليس بين طبقات وفئات اجتماعية، بل داخل الطبقة الواحدة، خاصة في البلدان التي اعتقد منظرو الرأسمالية انها انتصرت واصبحت بمنأى عن الازمات الاجتماعية، بعد ان اعلنت انتصارها “الساحق” على الاشتراكية وقيمها الانسانية..
مناسبة هذا الكلام ليس فقط ما احدثه (covid – 19) من نتائج عرت كافة انظمة الرأسمالية، وعجز كل مكونات النظام العالمي عن ايجاد تفسيرات دقيقة له، بل وقبل ذلك، وتحديدا خلال ازمة الرهن العقاري بدءا من عام 2008، وما لجأت اليه بعض الدول من اجراءات وضعها الكثيرون في خانة “الاجراءات الاشتراكية”. لكن بالرغم من ذلك، ظلت تلك الدول تكابر وترفض الاعتراف بحقيقة انه في لحظة ما، ومع عجز النظام الاقتصادي والمالي الحالي عن ايجاد الحلول، قد تستعين الدول ببعض التدابير والاجراءات الاشتراكية للتغلب على ازماتها..
هنا حق لنا ان نكرر سؤال تكرر كثيرا في نهاية الثمانيات: هل حقا انتصرت الرأسمالية بسقوط “اشتراكية الاتحاد السوفياتي”؟ ننطلق في الاجابة على هذا السؤال من التداعيات التي احدثتها ازمة كورونا وطالت بمآسيها انظمة “النيوليبرالية”، التي ما زالت عاجزة ليس عن التصدي لها، بل وعن فهم اسبابها وتقديم اجابات حاسمة حول ما حصل بالفعل خارج اطار الاتهامات، التي وبغض النظر عن عديد النظريات التي ما زالت تتسابق في طرح رؤاها حول الاسباب الفعلية لوباء كورونا المستجد، وما اذا كان من فعل بشري ام لا، فان منظمة الصحة العالمية كانت على صواب حين دعت دول العالم الى التضامن في معركة موحدة، فيما ذهب مجلس الامن ابعد من ذلك ليدعو العالم الى الوحدة في مواجهة هذا الوباء، وكأن المنظمة والمجلس هيئتان تعملان خارج اطار الارادة الدولية، او انهما تعملان حقا على وتر الصراعات الدولية التي استعرت بين القوى الدولية.
لا نأتي بجديد عندما نقول اننا نعيش في عالم منقسم على نفسه في كل شيء. في المفاهيم والمبادئ الاخلاقية وفي القيم الانسانية. واذا كان هناك من ايجابية للازمة العالمية التي سببها فيروس كورونا، فهو انه عرى دول وانظمة اعتقدت انها خارج مسار التاريخ، فجعل كل دول العالم تقف متساوية امام الموت والعجز. لذلك يصبح الحديث عن وحدة وتضامن العالم كلاما بلا معنى ما لم يتم الاتفاق على شكل هذه الوحدة وهذا التضامن، والاعتراف ان هناك قضايا اخرى تستحق ان يتوحد العالم بشأنها، وقد تكون تكون بنظر اصحابها اكثر خطرا من وباء كورونا.
فاذا كان مطلوبا ان يتوحد العالم مثلا في التصدي لوباء كورونا باعتباره يشكل تهديدا للسلامة والصحة العالمية، فان مفهوم الصحة لا يجب ان يتوقف عند حدود تداعيات الوباء، خاصة وان التعريف الاشمل للصحة يتجاوز المفاهيم التقليدية ليطال قيم ما زالت غير ذات شأن بالنسبة للعالم المتقدم. فالصحة وفقا لمنظمة الصحة العالمية هي “حالة من اكتمال السلامة بدنيا وعقليا واجتماعيا، لا مجرد انعدام المرض أو العجز”، اي ان الصحة بمفهومها الشامل هي العمل والبيئة والطبيعة.. هي باختصار سلامة المجتمع وتهيأة فرص تطوره بعيدا عن كل اشكال الهيمنة. وهنا تكمن حقيقة الصراع بين قوى وتيارات اجتماعية وسياسية معبر عنها بقوى اليسار وما تطرحه من برامج صحية تعتبر حقا لكل فرد من افراد المجتمع وجزء لا يتجزأ من الكرامة الانسانية، وبين برامج صحية متطورة كانت وما زالت حكرا على فئة قليلة بمعزل عن اغلبية فئات المجتمع..
في النظرة العامة الى ما احدثه فيروس كورونا المستجد من ازمة صحية واقتصادية على مستوى العالم، نجد انفسنا امام عالمين مختلفين في كل شيء، ولكل عالم حياته وقيمه الخاصة: عالم الاغنياء الذي عجزت انظمته الصحية عن مواجهة هذا الوباء وسقط مواطنوه ضحايا بعشرات الآلاف دون ان تكون لديه القدرة على وقف تداعياته. وعالم آخر يشكو من هشاشة النظام الصحي ولا قدرة صحية على مواجهة تداعيات الوباء الا من خلال ما اعتبرته منظمة الصحة العالمية “سياسة دفاعية” تتمثل في حالات الطوارئ والتعبئة العامة بكل ما لذلك من تداعيات لجهة ابقاء الناس في منازلها، ريثما يتم اما السيطرة على الوباء والحد من انتشارة واما ايجاد العلاجات واللقاحات المناسبة.
بين هذا وذاك، وفيما كانت الدول الغنية تقر حزم من المساعدات الاقتصادية لاسر تعيش في اغلاق منزلي او تعاني من توقف اعمالها، كانت هناك مشاهد لافتة شكلت قاسما مشتركا في العديد من البلدان الفقيرة، وتمثلت بخروج جموع من المواطنين في تظاهرات شعبية الى الشوارع، احتجاجا على سوء الاوضاع الاقتصادية، والتي تردت وازدادت صعوبة بفعل حالات الاغلاق العامة ووضعت اغلبية الفقراء امام خيارين: اما الخروج الى الشوارع والتقاط العدوى التي تهدد صاحبها بالموت، واما الموت جوعا داخل المنازل.. وهنا يكمن جوهر الصراع الذي يدور الآن خلف الجدران المقفلة، بين الجيوش البيضاء، اي الخبراء والعاملين في القطاع الصحي الذين يطرحون حلول الاغلاق والتباعد الاجتماعي والحجر الصحي، كإحدى وسائل مواجهة (COVID -19) وبين المتحكمين باقتصاديات الدول من شركات ورجال اعمل ومؤسسات مالية كبرى وعابرة للقارات، ويطرحون حلولهم انطلاقا من مقياس مدى الربح والخسارة..
خلفية مثل هذا الصراع ليست بعيدة عن نظرية “مالتوس” التي طرحت قبل اكثر من قرنين، وهي تتقاطع مع ما طرح في بداية انتشار الفيروس في بريطانيا ايضاء عندما خرجت نظرية “مناعة القطيع” التي تعني السماح للوباء بأن ينتشر بين اكبر عدد ممكن من السكان (الفقراء) حتى تتشكل لاحقا مناعة مقاومة له يستفيد منها كل المجتمع.. وهنا تبرز رائحة المال بين خفايا مثل هذه النظريات التي تعطي الاولوية للاقتصاد على حياة وصحة الناس. اليس هذا ما عبرت عنه الادارة الامريكية بصراحة عندما عرضت على شركة “كيور فاك” الالمانية مبلغ مليار دولار للحصول على الحقوق الحصرية لعقار يتم تطويره حاليا. وهذا ما حدث ايضا حين استولت دول تنتمي الى محور سياسي ونظام اجتماعي واقتصادي واحد على شحنات ادوية ومعدات طبية تابعة لدول اخرى! فاستولت التشيك على شحنة من الصين مرسلة الى ايطاليا، ووضعت تركيا يدها على شحنات ادوية في طريقها الى اسبانيا، واستولت الولايات المتحدة على شحنات طبية مخصصة لفرنسا بعد ان دفعت اضعاف المبلغ الاصلي.. وكل هذه نماذج لواقع الفوضى الذي احدثه فيروس مجهري في عالم لم يعد الحليف حليفا والصديق لم يعد صديقا في عالم تحركه غرائز المال، بعد ان تقدمت الى الامام “رأسمالية الأنا” في ظل اغلاق جميع دول العالم لحدودها..
ورغم تولد شبه اجماع على ان العالم سيكون مختلفا بعد كورونا، غير ان ليس هناك من يستطيع ان يحدد طبيعة النظام القادم ومكوناته واطرافه، لكنه حتما سيكون عالم يحتل فيه الاقتصاد موقع الصدارة، ولعل التساؤل البديهي اليوم هو” من سيدفع ثمن الخسائر الاقتصادية التي تكبدها العالم بفعل هذا الفيروس، بل من الذي سيدفع اثمان فاتورة كورونا؟
من المؤكد ان التداعيات السلبية لفيروس كورونا المستجد ستكون كارثية على الاقتصاد العالمي.. ورغم تغير الارقام بين يوم وآخر بل بين لحظة واخرى، فان بعض مؤسسات الامم المتحدة تتوقع انخفاض النمو السنوي العالمي هذا العام إلى ما دون 2.5 بالمائة، وفي أسوأ السيناريوهات قد نشهد عجزا في الدخل العالمي بقيمة 2 تريليون دولار( مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية-الاونكتاد)، وهذا ما قد يدفع نحو نصف مليار شخص نحو الفقر. (منظمة “أوكسفام” الدولية) فيما يعلن صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد العالمي قد يخسر 9 تريليونات دولار خلال عامين بسبب كورونا. وان اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ستشهد انكماشا بنسبة 3.3 بالمائة هذا العام، وإن الضرر سيكون أكبر بكثير من أزمة الرهن العقاري، والتوقعات لعام 2020 هي بمثابة أسوأ أداء اقتصادي للمنطقة، بما في ذلك جميع الدول العربية وإيران، منذ عام 1978 عندما انكمش الاقتصاد بنسبة 4.7.
رغم ان الولايات المتحدة اصبحت مركز الوباء، فمن الواضح ان جل اهتمام الرئيس الامريكي هو في كيفية عدم تعريض الاقتصاد الامريكي لخسائر كبيرة. وهو منذ اليوم الاول لوصول الوباء الى بلاده، وعد بأن الاميركيين سيحتفلون بعيد الفصح (12 نيسان) بشكل طبيعي. وقد لا نلوم الرئيس الامريكي على طريقة تفكيره، لأن على هذا الامر يتوقف نجاحه او خسارته في الانتخابات الامريكية. وقد يكون على حق في جانب معين من الازمة، فالولايات المتحدة هي اكبر اقتصاد في العالم، واي فشل في ادارة “المعركة” قد يعني تقدم قوى دولية الى صدارة المشهد العالمي، اقتصاديا وسياسيا، وقد شاهدنا جانب من الصورة في الصراع النفطي بين روسيا والسعودية، ثم هبوط العقود الآجلة للخام الامريكي الى ادنى مستوى لها في التاريخ.. فالنظام الامريكي، خاصة في عهد ترامب، هو نظام فوق الجميع بل فوق المستحيل نفسه. وامريكا، حسب ترامب، هي اعظم نظام في التاريخ، ولا يمكن لهذا النظام ان يكون عاجزا عن ايجاد حلول لنظام الرعاية الصحية، ولملايين الأشخاص الذي قد ينضمون الى صفوف العاطلين عن العمل، الذين تتزايد اعدادهم مع كل يوم يمر دون ايجاد حل لمشكلة الاغلاق القسري..
لكل ذلك، وتحت ضغط السيناريوهات المرعبة التي تقدمها خلية الازمة الامريكية بشكل يومي الى ادارة ترامب من خبراء في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فقد وافق مجلس النواب الأمريكي على حزمة دعم اقتصادي بلغت 2.2 تريليون دولار، وهي الحزمة الأضخم في تاريخ الولايات المتحدة، بهدف مساعدة المتضررين من عمليات الاغلاق، وتتضمن دعما اقتصاديا للصناعات المتضررة وقروض للشركات الصغيرة ودعم المستشفيات والأنظمة الصحية، اضافة الى إعانات بطالة، بعد ان سجل عدد الأمريكيين الذين يريدون اعانات بطالة ارقاما قياسية وازدادت بنسبة (3000) بالمائة ليتجاوز الرقم (7) مليون فرد حتى منتصف نيسان.
اما الصين المنافس الاكبر للولايات المتحدة، فلم تكن بمنأى عن دفع اثمان باهظة ايضا، سواء في مواجهة الوباء الذي انطلق من ووهان الصينية او لجهة تداعيات اغلاق البلاد وعزلها عن العالم، وهي ثاني اكبر اقتصاد على مستوى العالم.. وتشير التوقعات الى ان الاقتصاد الصيني سيشهد انكماشا بنحو 10 بالمائة وهو رقم كبير جدا ليس فقط على الاقتصاد الصيني بل وعلى الاقتصاد العالمي، مقارنة مع توقع بزيادة نسب النمو قبل كورونا. ويتحدث البعض عن اكثر من 50 مليونا قد يفقدون وظائفهم في قطاع الخدمات و 20 مليونا آخرين في قطاعي الصناعة والبناء، لكن الرهان هنا هو على انتعاش جانب هام من الاقتصاد الصيني، خاصة في ظل الطلب العالمي على بعض السلع خاصة الطبية والدعم الحكومي الذي تحظى به المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
في جانب المعالجات الامريكية، كان مصطلح (الاقتصاد القوي) احد اعمدة الحملة الانتخابية للرئيس الامريكي الذي يتفق الكثيرون على ان اجراءاته في مواجهة فيرويس كورونا لم تكن ناجحة، تترجمها نتائج استطلاعات الرأي التي رأت انها اجراءات جاءت متأخرة ولم تتمكن من التغلب على الوباء. وهنا تبرز الى الواجهة حقيقة الصراع بين “الجيش الابيض” وبين ضغوط المال التي لا تضع في اولوياتها صحة وسلامة آلاف البشر. وكان على الرئيس الاختيار والحسم: اما الاستماع لصوت الاطباء وخبراء الصحة الذين يقولون ببقاء الناس في منازلهم ريثما يتم احتواء الوباء، واما الرضوخ لضغوط الكارتلات الاقتصادية والتجارية والصناعية على اختلافها، خاصة وان الولايات المتحدة على موعد مع الانتخابات الرئاسية التي بدات تطل برأسها حاملة بيدها عنوانين لا ثالث لهما: الصحة والاقتصاد.
يبدو ان الرئيس الامريكي انحاز الى جانب الفقراء في قراره، لكن بشكل معكوس، ففضل الاقتصاد على صحة ملايين البشر، وهذا لا يمكن ان يشكل مفاجئة لأحد، خاصة اننا نتحدث عن زعيمة النظام الرأسمالي وعن الرئيس الامريكي تحديدا الذي لا يتحدث عن قضية في العالم الا ويطرحها من جانب الربح والخسارة.. ومن استغرب هذا القرار ليعد معنا الى الخلف قليلا:
بعد غزو الكويت عام 1990، فرض على العراق حصارا خانقا وعقوبات اقتصادية وسياسية حتى عام 2003، وكان من نتيجتها وفاة نحو مليون ونصف مليون طفل نتيجة الجوع ونقص الدواء الحاد وافتقادهم إلى ابسط وسائل الحياة، حينها سئلت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين اولبرايت عن رأيها بالحصار الذي تسبب في هذا العدد المرتفع من وفيات الاطفال، فردت قائلة:” أن الثمن يستاهل”.
اليوم تتكرر الصورة حتى لو كان الامر مع مواطنين من نفس البلد، فهذا هو جوهر النظام الرأسمالي الذي لا عيون يرى فيها الا من خلال ميزان الربح والخسارة، وهمه الاساسي الجشع وجني الارباح حتى لو كان ذلك على حساب الملايين، والتاريخ زاخر بنماذج من هذا النوع لعل اهمها الولايات المتحدة نفسها التي بنت امبراطوريتها على جماجم الهنود الحمر اصحاب الارض الحقيقيين المعادين “للتطور الرأسمالي” والمتمسكين بعادات وتقاليد وقيم وتراث اجدادهم.
كلمات الرئيس الامريكي في احدى اطلالات “خلية ازمة كورونا” كانت ذات مغزى، وفي كل مصطلح استخدمه نجد الكثير من المضامين التي لا نحتاج لكثير عناء كي نفهمها. فقد قال الرئيس: “لا يمكننا السماح بأن يكون العلاج أسوأ من المشكلة نفسها”، (وهو يقصد بانه لا يقبل بالسيطرة على الوباء وخسارة الاقتصاد). وتابع قائلا: “لقد اتخذت القرار .. وادرس كيفية إعادة فتح الاقتصاد الأمريكي”، اي لا يمكن، من وجهة نظره الجمع بين صحة الامريكيين واقتصادهم، ولا يمكن كسب صحة الامريكيين وخسارة الاقتصاد الذي بامكانه بعد ان يتعافى ان يضمن نظاما صحيا قويا يوفر الامان للامريكيين.
كم كانت دقيقة شبكة سي ان ان الامريكية في احد تقاريرها عندما تساءلت: “كم حياة بشرية يساويها الاقتصاد العالمي؟ فاذا كانت المشكلة هي وباء كورونا الذي يهدد حياة كثيرين، فان العلاج هو في الإغلاق الاقتصادي الذي يتسبب في معضلة قد تكون وطأتها أكبر من الكساد الكبير (في ثلاثينات القرن الماضي). فنصيحة “خليك في البيت” تهدف إلى إبطاء انتشار الفيروس أملاً في التوصل إلى لقاح أو مصل لمواجهته، لكن هذا العلاج تسبب في فقدان وظائف كثيرة بالفعل ويهدد بانتشار بطالة جماعية. اذا ليكن الحل، وفقا لتقرير سي ان ان، في معادلة: الدولار مقابل الحياة”
اذا كنا نتحدث هنا عن اكبر اقتصاد في العالم، فكيف الامر بالاقتصادات الناشئة او اقتصادات الدول الفقيرة التي لا تمتلك نفس الخيار بين الاقتصاد والصحة، لأنها في واقع الحال لا تمتلك الاثنين، ولا تتوفر فيها الحدود الدنيا من المناعة الداخلية، سواء على مستوى التجهيزات او على مستوى استقرار الاوضاع السياسية التي من شأنها ان تساعد على التزام المجتمع بما تقرره السلطات الصحية المركزية. ففي ضوء قلة الموارد وضعف القدرات الحكومية، لا تمتلك الكثير من البلدان، خاصة الأشد فقرا، البنى التحتية الصحية أو الموارد الكافية التي تؤهلها لمواجهة هذا الوباء اذا ما تسلل الى صفوفها. رغم ان مواجهتها ستأخذ الطابع الدفاعي المتمثل بسرعة رصد تفشي المرض والاستجابة الطارئة السريعة التي قد تساعد على الحد من الانتشار، وبالتالي تقليل الآثار الاقتصادية والاجتماعية والأمنية او الاغلاق المنزلي الذي يعاني من ثغرات كبيرة وكثيرة.
ونظرا للواقع الاقتصادي المأزوم في العديد من دول العالم الثالث (آسيا، افريقيا وفي أمريكا اللاتينية ) التي تعيش التبعية في اسوأ صورها باعتمادها على انظمة سياسية بنت دولها ومجتمعاتها وخياراتها الاقتصادية من خلال الارتهان للخارج وتطبيق الوصفات النيوليبرالية للمؤسسات المالية الدولية على امتداد اكثر من نصف قرن. فان شعوب هذه الدول ستكون هي المرشحة لأن تدفع اثمان تشكل النظام الدولي الجديد، بسبب غياب المنعة الداخلية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغياب الديمقراطية والتنمية..
وهنا نعود الى حالة التناقض الراهنة في مواجهة هذه البلدان لتداعيات فيروس كورونا حيث الاعتماد الكلي على سلاح الاغلاق الذي لا يمكن ان يكتب له النجاح الا في دول ذات اقتصاديات قوية وقادرة على التحمل بعيدا عن مساعدات صندوق النقد والبنك الدوليين اللتين سيشكل الوباء فرصة لهما لاحكام سيطرتهما على الدول الصغرى.
فمعادلة الاغلاق المنزلي، تفترض نظريا تكاملا في الادوار ما بين السلطات السياسية والصحية وجميع افراد المجتمع الذين يتوجب عليهم الالتزام بموجبات الاغلاق بجميع تفاصيله بكل ما يترتب على ذلك من توقف وشلل حركة الاقتصاد وارتفاع نسب البطالة وغير ذلك من تداعيات لا تقوى على تحملها الا اقتصاديات كبرى.. واذا كانت فئة قليلة من السكان قادرة على البقاء في المنازل وان تعيش على ما جنته من مخزون مالي واقتصادي، فان الغالبية من الشعب وهم الفقراء من العمال والفلاحين والفئات الشعبية والكادحة تبقى غير قادرة على تأمين قوتها اليومي، وهي التي اعتادت اما على العمل اليومي او انها تتقاضى مبالغ مالية لا يكفي سوى لسد احتياجاتها اليومية.. وبالتالي تصبح وظيفة الدولة اذا ما ارادت لسياسة الاغلاق ان تنجح في محاصرة كورونا ان تلعب دور “الدولة الراعية” التي لا خيار لها سوى اللجوء الى “خيارات اشتراكية” تؤمن من خلالها الاحتياجات المعيشية للسكان، وهذا امر لا يمكن الا للدول الغنية القيام به، وقد حصل في الكثير من البلدان الغربية. اما في بلدان العالم الثالث، فشهدنا التظاهرات الاحتجاجية على تجاهل الحكومات للمطالب الاقتصادية والاجتماعية.. خاصة وان بعض هذه الدول تعيش في ظل حصار وعقوبات اقتصادية تحد من امكانية المواجهة..
وبالرغم من غياب المعطيات الدقيقة حول اقتصاديات دول العالم الثالث، والدول العربية بخاصة، الا ان قراءة بعض المعطيات الرقمية الصادرة عن مؤسسات دولية تؤكد ان هناك ارتفاعا في معدلات الفقر في هذه الدول يصاحبها تدهور حاد في معيشة فئات اجتماعية مهمة انحدرت اوضاعها شيئا فشيئا لتصل الى مصاف الفقراء، وذلك كنتيجة حتمية للسياسة الاجتماعية – الاقتصادية التي اتبعت منذ عقود استنادا لوصفات وتعليمات أدوات العولمة الرأسمالية، التي كانت سببا في افقار ملايين المواطنين ودفعتهم الى العيش على هامش الاقتصاد والمجتمع.
فقد كان من نتائج السياسات والاجراءات التي اتبعتها انظمة الوصاية والتبعية ان تركز هجوم اقتصاد السوق على كل ما له علاقة بالسياسات الحمائية وليقفز فوق السيادة الوطنية للدول التي اصبحت عارية امام مواطنيها وعاجزة عن تقديم حلول لعشرات المشكلات الاجتماعية التي نتجت عن توقف الدولة عن دعم الفقراء من ضمانات اجتماعية واعانات بطالة ورقابة على الاسعار وتوفير الدعم للخدمات الاساسية التي تحتاجها الطبقات الفقيرة كدعم السلع الاساسية والعلاج المجاني وتوفير الاسكان والتعليم. ولتغذي النزعات الاستهلاكية الغير منتجة وتشجع الفساد بأسوأ صوره، وهذه الخيارات كانت السبب وراء الازمات الاقتصادية والاجتماعية وزيادة الديون، ما جعل هذه الدول اسيرة لسياسات ونصائح المؤسسات المالية صاحبة الفضل في وصول مجتمعاتنا الى ما وصلت اليه من جهل وتخلف ستبقى الاجيال تعانى منه لعقود قادمة.
وكما كان الفقراء هم الضحية ودفعوا الاثمان الباهظة للازمات المتلاحقة التي شهدها العالم وآخرها ازمة الرهن العقاري عام 2008، فان العالم مقبل على ازمة من المتوقع ان تكون اشد وطأة على الفقراء، وسيدفع العالم اثمانا جديدة قد تتدحرج لتطال معظم دول العالم حتى في دول المركز، اضافة الى الدول الخليجية التي من المتوقع ان تبلغ خسائرها اضعاف ما خسرته في ازمة الرهن العقاري، بسبب كبر المشكلة التي لن تتمكن عمليات الدعم التي اقدمت عليها الولايات المتحدة وغيرها من الدول من الحد من انعكاساتها. وكما فعلت الولايات المتحدة في ازمتها السابقة بتدخلها المباشر لحماية مؤسساتها المالية والاقتصادية، فان التدخل اليوم، وان كان يقدم ظاهريا كحماية للمجتمع والمواطنين بشكل عام، الا ان خلفيته انها تدابير واجراءات ستخدم بالنهاية اصحاب الشركات الكبرى عابرة الحدود ورجال الاعمال والمصانع الكبرى التي ستبدأ باستعادة نشاطها بانتظار ازمة جديدة، لكن هذه المرة ليس فقط بين الاغنياء والفقراء، بل وايضا بين الدول الغنية فيما بينها..
وعلى المستوى الداخلي والوطني يبدو الصراع اكثر حدة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة من جهة وطبقة الاثرياء والاغنياء والحكومات العاجزة عن توفير الضمانات الصحية والاجتماعية للمواطنين، بسبب اما سياسات الهدر والفساد او نتيجة القوانين والاجراءات الحمائية لطبقة الاغنياء وإعفائهم من الضرائب بذريعة تشجيع الاستثمار وخلق فرص عمل، لكن النتيجة كانت وستبقى زيادة في افقار المجتمعات وازدياد اعداد العاطلين عن العمل وارتفاع نسب البطالة بين صفوف العمال بشكل عام والمهنيين من حملة الشهادات الجامعية المعروفين اصطلاحا باسم “الفئات الوسطى” بشكل خاص..
كما ان من شأن تداعيات أزمة كورونا ان تدفع الدول الكبرى لمحاولات تعويض خسائرها، ما سيطرح صراعا من نوع آخر بينها وبين الدول النامية، خاصة و أن موازين القوى الراهنة تعطي للدول الكبرى دفعا اكبر لأن تفرص سياساتها الكونية على الدول النامية دون ان تمتلك هذه الاخيرة حق الرفض. ومن شأن هذه السياسات ان تزيد من اعداد الفقراء، وهذا ما يطرح مهمات نضالية جديدة امام القوى والحركات السياسية والشعبية المتضررة من سياسات التبعية الجديدة وفرصة لاعادة تنظيم نفسها دفاعا عن مصالح الفئات الدنيا في المجتمع، وتسليط الضوء على أسباب الأزمة وخلفياتها، والدور الهدام الذي لعبته سياسة الليبرالية الجديدة في الوصول بالنظام الرأسمالي العالمي إلى حالته الراهنة.
ان من شأن استمرار السياسات الاستعمارية التي تنتهجها الدول الغربية في تعاطيها مع القضايا الاقتصادية العالمية ان تزيد الهوة بين اصحاب الثروات الهائلة واولئك الباحثين عن لقمة عيشهم، بكل ما لهذا الامر من تداعيات لجهة عدم استقرار المجتمعات، خاصة في ظل الاختلال غير المتوازن بين الاغنياء والفقراء، تترجمه المعطيات الرقمية المخيفة التي تقول ان نسبة (1) بالمائة من الأثرياء في العالم تملك نحو نصف ثروة العالم، وإن نسبة (10) بالمائة من الأثرياء يملكون نسبة (87.8) بالمائة من الثروة العالمية. وفي المقابل، فان الفقراء الذين يشكلون اغلبية سكان العالم لا يملكون سوى (2.7) بالمائة من تلك الثروة. هذه المعطيات قادت الى تزايد اعداد من هم تحت خط الفقر حول العالم حيث بلغ الرقم في العام 2018 نحو (1.3) مليار شخص يتوزعون على 104 دول.
إن كانت مهمات التصدي للسياسات الاستعمارية، بشكلها الجديد، يجب ان تحتل الاولوية في برامج احزابنا وتياراتنا، فهناك قضايا يجب ان تحتل موقعا متقدما في الصراع المستقبلي وتتمحور حول هوية الدولة وحقوق المواطنة ومساحة الحريات العامة والديمقراطية وقضايا جوهرية أخرى تتصل بالعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات الوطنية واتجاهات توظيفها للنهوض باقتصاد وطني متحرر من التبعية للمركز الرأسمالي ومن خطط وبرامج وأوامر أدوات العولمة الاميركية.