سرُّ عائلتنا الدفين .!
تاريخ النشر: 09/05/20 | 2:26يوسف جمّال – عرعرة
سأذيعك – يا محترم – سرا دفينا من أسرار عائلتنا , راجياً منك ان تدفنه في دفينك .
فعائلتنا – يا محترم – مشهوره بدفن الأسرار .
وعلى سبيل المثال , فإن حصان جدّي كان أصيلاً قبل ان تجبره ظروف الحياه ,على تحويله الى ” كديش ” يحرث الارض ويدرس الغلَّه .
وجدتي كانت تنقط نقاط من “لبن” أعواد التين , وتضيفه الى حليب بقرتها , فيتحول الى لبن .
وأذن حمارنا كانت , مخبأ آمنا لعلبة أبي ” المدكوكة ” بالدُّخان المفروم , إذا ما شعر بخطر العسكر , يوم أن “حرَّمت ” دولتنا الفتية الدخان على زارعيه .! .
فدُفن أجدادي – رحمهم الله – ودُفنت أسرارهم معهم .!
هذة بعض من أسرار عائلتنا والمخفي أعظم .!
وليس سرا- يا محترم – أنك لعبت معي ومع أولاد حارتنا في الساحه الكبيره, الواقعه أمام بيتنا القديم المبني من الحجر والطين , وأصابت رجليك , كما أصابت رجليَّ الأوتاد المغروسه في منتصف هذه الساحه , لقد أسالت هذه الأوتاد الدم مرارا من أجسامنا, وزرعت فينا الخوف في كل لحظه لعب لذيذه , وجعلتنا نحسب لها ألف حساب, حتى حفظنا مكانها عن ظهر قلب, وأصبحنا نتجنبها ونبتعد عنها .
ولعلي لا أكشف لك سرا من أسرارنا, إذا قلت لك أني كرهت هذه الأوتاد وخشيتها في نفس الوقت , ولدت وولدت معي .. سألت عن أسباب وجودها ,وعدم خلع هذه العقبه الكأداء من ساحة دارنا ,وأُفهمت ان وجودها سرا أكبر من ان يكشف لولد مثلي.!
حاولت مره , و أنا في الخامسه من عمري , ان أعبث بأحدها محاولا قلعه, فأخذتني أمي جانبا وقد ارتسم على وجهها سيل ,من الخوف والحزن والتأنيب, واستعملت كل ألوان التخويف, لتفهمني بأن لا أمسَّ هذه الأوتاد بسوء !
رأيت نفسي في حلم ليلة شتاء أقتلع أحدها ,فاستيقظت وأنا أرتعش من الخوف ,ويتصبب العرق من جسمي , فاستيقظت أمي على صرخه مني ,صدعت سكون الليل , فسألتني وهي تلملمني وتضعني في حجرها:
– ما لك يا حبيبي ؟؟
– فقلت لها باكيا :
– لقد حلمت أني أقلع الأوتاد !
– هذا عمل من عمل الشيطان يا بني ..! اقرأ ” سورة الفاتحه ” واستغفر ربك ونم مطمئنا.
فنمت على صوت تمتماتها, وهي تقرأ فوق رأسي أشياء لم أفهمها !.
وباقتراب رمضان, يزداد الاهتمام بهذه الأوتاد, ويزيد الكبار – حملة السِّر – من تحذير الصغار أمثالي من الاقتراب أو العبث بها..
وكثيرا ما سألت نفسي ما العلاقه بين رمضان والاوتاد ! أجبتها عشرات الأجوبه, ولكني سرعان ما استنتجت عجزها عن شفاء هذا التساؤلات .. أقنعت نفسي مره, ان الله سيجعلها خازوقا يجلس عليها لمن لا يصوم رمضان .!
أذكر أني وأنا في العاشره من عمري شعرت بجوع وعطش شديدين, ولم أقدر على مواصلة الصوم ,فأكلت وشربت من دون أن يراني أحد ,وأخفيت فطوري عن الكبار , ولكن عندما وقعت عيناي على الأوتاد, أصبت بفزع شديد وهربت من الدار, ولم أعد إليها إلا عند الغروب ,ولاحقتني أحلام مرعبه ألزمتني الفراش أياما معدوده .
وعندما اقترب السادس والعشرون من شهر رمضان رأيت امي تنظف حول هذه الأوتاد , وهي تقرأ أشياء لم أفهمها ولم أجرأ على سؤالها , وسمعتهم يتحدثون عن ليلة القدر بكثير من الترقب والقدسيه .
وفي النهار الذي سبق ليلة القدر, صعدت أمي على سطح بيتنا ,وكنسته ورفعت الحصيره وفرشتها عليه, وبسطت فوقها عدة فرشات , وعند المساء رفعت عليه ألوانا من الطعام والشراب ,والكثير من الحلويات .. عملت كل هذا وأنا أراقب الموقف .والتساؤلات التي لا تحصى, تلاطم تفكيري باحثه عن تفسيرا لهذه التحركات, وما سبب هذه السهره التي يُعدُّ لها العدَّه على سطح البيت , لكني كعادتي , لم تساعدني شجاعتي على السؤال , وبقيت صامتا.
وعند ما رمى الليل أستاره السوداء على المكان, صعد أفراد العائله على سطح البيت, وبدأ أبي يتلو القرآن بصوت عال, وجلس الباقون يستمعون إليه, وعيونهم تغالب الظلام الشديد الذي ساد المكان . وبدأ الضغط علي من كل جانب لكي أستسلم للنوم .
سألتني امي:” ألا تشعر بالتعب ؟! لقد أمضيت اليوم بالشيطنه !
“وانضمت أختي الكبيره الى هذا المجهود فنادتني, وقالت لي بشيئ من التحبب المشبوه:” تعال واستلقي بجانبي !”.
اما أخي الكبير فقال – محاولا إغرائي -” نمْ يا أحمد باكرا فسآخذك معي غدا الى المدينه!” .
اما أبي, فكان ينظر الي بين الفينه والأخرى وهو يتلو القرآن, محاولا حثي على الاستجابه لإغراءاتهم .
أغمضت عيني محاولا النوم ,ولكن سلطانه لم يستطع ان يأسرني .. ان غريزة حبِّ الاستطلاع حالت دون استسلامي له , فعقدت العزم على ان أجعلهم يظنون أني نائم ,وبقيت صاحيا لأرى ما سوف “تجيبه” هذه الليله.!
ما هي إلا ساعه او ساعتان ,حتى سمعتهم جميعا أبي وأمي وأخي وأختي ,يرفعون عيونهم وأيديهم نحو السماء , ويبتهلون بصوت كله خشوع:
” اللهم اعطنا من لدنك رحمه!”.. “.
أللهم إرزقنا فأنت الرازق الكريم !” ..,” اللهم إجعل ساحة دارنا ملأى بالأبقار والعجول ,مربوطه بهذه الأوتاد المغروسه فيها !”.
نمت ليلتي تخيَّل ساحة دارنا ملأى بالأبقار والعجول ,وتخيَّلت نفسي أرعاها في الحقول في أحضان الطبيعه الجميله . ننعم بالحليب والحبن واللبن الوافر , نمت وأنا مرتاح ,لأني عرفت أحد أسرار عائلتنا الدفينه .
وعندما استيقظت في الصباح, ركضت مسرعا الى حافة السطح ,لأرى الأبقار والعجول تملأ ساحة دارنا, فوجدتها خاليه, إلا من الأوتاد التي تركت الكثير من الكدمات على رجليَّ .
نظرت في عيون أمي وأبي و إخوتي, فوجدت خيبة الأمل تملأها, فأصابني حزن شديد فنزلت عن السطح وغادرت الدار .
وفي المساء عدت الى البيت, وبعد الفطور خرج والدي وأخي من البيت, ليقضيان سهرتهما في خارج الدار, وانتهزت فرصة نوم أختي البكر, لأتسلل الى حضن أمي ,وسألتها عن سبب نومنا على السطح الليله الماضيه .. وضعت يدها على رأسي ,وأخذت تعبث بشعري وتحكي لي الحكايه .. تبوح لي بسرخطيرمن أسرار عائلتنا العريقة :
من زمان كانت جدتك . جدتك لأبيك , تسهر على سطح هذا البيت في ليلة القدر كعادتها .
في تلك الليله انفتحت السماء فجأه, فرفعت يديها الى السماء ,تطلب من الله شيئا يخفف عنهم ضائقة الفقر الشديد .. أرادت أن تطلب من الله أن يملأ ساحة الدار بالأبقار والعجول مربوطه بأوتاد , فذكرت الأوتاد ونسيت ان تذكر الأبقار والعجول .. وعند الصباح كانت الأوتاد تملأ ساحة الدار .. ولم تكن هناك أبقار أو عجول مربوطة بها .!!
بقلم يوسف جمال – عرعره