الخيار الصعب
تاريخ النشر: 10/05/20 | 0:40نظرتْ ماجدة الى قصاصة الورق التي ناولها لها الحارس، رفعت حاجبيْها وقطّبت جبينها دلالة على عدم رضاها، لا لأن دوْرها بعيدا، بل لأنها تتشاءم من الرقم 48. كانت والدتها بعمر ال 48 عندما تجمّد الدم في عروقها، وكانت السنة 48 عندما حلّت النكبة بشعبها، وكانت قد أطفأت الشمعة ال 48 من عمرها عندما اكتشفت ان دربها مغاير لدرب شريكها، فافترقا في النقطة الفاصلة، وابتعدا ملوحيْن بالأيدي.
أخذت ماجدة قصاصة الورق وابتعدت عن كتلة اللحم الكبيرة التي تكدستْ امام باب البنك، اتخذت لها مكانا قصيا وجلستْ على إحدى الكراسي البلاستيكية المبعثرة على رصيف الشارع، والتي وُضعت كما يبدو لزبائن البنك حتى ينتظروا ادوارهم في الهواء الطلق خارج جدران البنك، في زمن الكورونا. نظرتْ امامها حيث ساحة المدينة التي يفصلها عنها الشارع فقط، فلم تر غير اسراب الحمام تلتقط البذور وتحلق شاكرة خالقها على نعمه ثم تهبط الى ارض الساحة لتكرر الفِعل. سرّتها مشاهدة اسراب الحمام؛ لكن ضجيج صمت المكان أفزعها. مركز مدينة الناصرة في أوائل نيسان من كل سنة يرتدي حلة قشيبة احتفاءً بقدوم أحد الشعانين وبعده بعيد قيامة المسيح؛ أجراس كنيسة البشارة في هذا الوقت من كل سنة تملأ المكان وقلوب سامعيها بالروحانيات والبهجة، وتوقظ أجنة النباتات، فتخضرّ وتزهر وتنهض لتشارك المرتلين تراتيل الأعياد؛ كانت زهور المكان تبتسم لوفود السائحين من كل البلاد؛ تبتسم للكوري، والألماني والصيني والياباني والدنماركي والسويدي والأميركي والقبطي، ولا تبخل على ابن البلد مهما كانت ديانته؛ كانت تفهم كل اللغات، والجميع يفهم لغتها.
– صار لي سيعتين بسْتنى والدور مش متزحزح، فهِّمني شو قاعد يصير؟
سمعت ماجدة امرأة قد تجاوزت الخمسين من العمر تسأل الحارس، فوجهت نظرها اليها حيث كتلة اللحم التي تكدست امام مدخل البنك. لم يجب الحارس عن سؤال المرأة، كان يستمع الى رجل مسن توجه له طالبا منه المساعدة لإخراج بطاقة اعتماده، التي بلعها الصراف الآلي الموضوع في الخارج بالقرب من مدخل البنك؛ هو الآخر لم يلبي طلبه، فقد تجاهله ليدخل مَن حان دوره الى البنك وبذات اللحظة ليسمح لمَن انهى مهمته داخل البنك بالخروج منه من ذات الباب؛ الباب الزجاجي. في تلك اللحظة، شاهدت ماجدة شابا قد اخترق صفوف المتجمعين، وصل الى الحارس وسلمه ورقة وبطاقة هوية، دخل بهما الحارس الى البنك، وما هي الا دقائق حتى عاد الى الشاب وأعاد له بطاقة الهوية وسلمه مغلفا.
– حماتي عاملة عملية القلب المفتوح، يعني هي من الشرائح المعرضة لخطر العدوى بفيروس الكورونا، خليها تدخل، مش لازم تستنى وقت طويل هون.
قالت احداهن للحارس بعد ان أجلست حماتها على كرسي بعيدا عن المتجمهرين امام مدخل البنك، قريب من مكان جلوس ماجدة.
كيف يتشدق المسئولون ويصرّحون من كل منبر بأنهم يحرصون على تقيّد الجمهور بتعليمات وزارة الصحة؟ ها هم كثيرون لا يرتدون الكمامات ولا يحافظون على مسافة مترين بين الواحد والآخر. قالت ماجدة في نفسها وأبعدت كرسيها عن مكان جلوس المرأة القريب منها لتصبح أكثر بُعدا. في تلك اللحظة، مرت في المكان سيارة تابعة للبلدية تسير ببطء ويسمع عبر مكبر صوت فيها صوت الرئيس حاثا ومناشدا سكان الناصرة بأن يلتزموا بيوتهم للمحافظة على سلامتهم، الا أن منظر الجموع امام مدخل البنك فكان يبرهن على ان هذه المناشدة ما هي الا كلام في الهواء.
المرأة بجانب ماجدة هي الأخرى راحت تحدث نفسها، ولكن بصوت مسموع؛ لربما قصدت بذلك ان تسمعها ماجدة، فتبادلها الحديث وتخفف عنها ضجر الانتظار.
– راح النهار؛ وينتا رح اعمل الكعكات اليوم؟ قالت المرأة ونادت كنتها. لم تستجب كنتها لها، وأصرت على المقارعة والمجادلة. لقد اخذت على عاتقها مقارعة الحارس، لربما تقنعه بأن يجنب حماتها الانتظار ويتعاطف مع سنها وظروفها الصحية، لربما يسمح لها ان تدخل البنك وتنهي معاملتها، فتعود الى بيتها لتحضِّر كعك العيد.
انتبهت ماجدة، ان الشاب عاد مرة أخرى، شق تجمهر الأفراد، تقدم من الحارس، اعطاه بطاقة هوية وورقة، ثم انتظر عودة الحارس بالقرب من سيارة مرسيدس فضية اللون مركونة على حافة الطريق وبها رجل يرتدي نظارة شمسية، وقد اشاح بوجهه عن المتجمهرين الى الجهة الأخرى. استشاطت الكنة غضبا، وبدل ان تصب غضبها على الحارس او الشاب، صبته على امرأة تبدو في الأربعين من العمر قد حان دورها للدخول، لكن الحارس تجاوزه أكثر من مرة. صرخت بوجها واتهمتها بالجبن لأنها لا تعترض على تجاوز دورها.
– هون قاعدين وفي البيت قاعدين. وين رح نروح يعني بهالحجر؟! على الأقل هون هوا وشمس، شوفوا محلا هالنهار! قالت المرأة موجهة كلامها لجميع الموجودين.
– لكن احنا عنا تحضيرات للعيد وحماتي ست كبيرة بدي اساعدها. قالت الكنة.
خرج الحارس من باب البنك الزجاجي فأسرع اليه الشاب، تسلم منه بطاقة الهوية والمغلف، توجه الى سيارة المرسيدس، سلمهما الى الرجل الذي بداخلها، وعاد يقف جانبا ويتحدث بالهاتف في انتظار زبون آخر.
ضج عدد من المتجمهرين بعدما تبين لهم ان الشاب يقدم خدمة مدفوعة الأجر لهؤلاء الذين يصلون الى موقع البنك ويخشون الاختلاط بجموع المنتظرين. راح البعض يشتم، والبعض الآخر يهدد وآخرون يتدافعون ليصوا الى الحارس ويمنحوه نصيبه من اللكمات. تعالت الأصوات واختلط الحابل بالنابل. دخل الحارس الى البنك من الباب الزجاجي، وغاب الشاب عن الأنظار.
عادت ماجدة ونظرت الى قصاصة الورق التي بيدها وقرأت الرقم 48، فعبست وقطبت جبينها، وقالت في ذاتها: يا إلهي ماذا أفعل؟ عليَّ ان ادخل الى البنك لأتم معاملة حصولي على القرض، سأتكبد خسائر كبيرة ان لم أفعل. ثم تابعت قائلة:
سيغلق البنك ابوابه مدة أسبوع بسبب الأعياد، بعدها مَن يَعلم ما سيحدث ان ازداد عدد المصابين بالكورونا في البلاد؟ يتحدثون عن فرض حظر تام على المواطنين وسيمنعون من التجول. يا إلهي ماذا افعل؟ عليَّ ان انتظر نصف ساعة على الأقل ليحين دوري؛ وماذا لو حان دوري وهذا العدد من الناس ما زال يسد الممر الى باب البنك بل والباب ايضا؟! كيف باستطاعتي المرور من بينهم دون ان يحتك كتفي بكتف أحدهم او ذراعي بذراع أحدهم او ماذا لو انتقل رذاذ سعال أحدهم الى هواء تنفسي؟! مَن يضمن لي ان لا أحد منهم يحمل فيروس الكورونا؟! انه الخيار الصعب في زمن الكورونا؛ الخيار بين حياة الانسان وبين لقمة عيشه. لعل الناس الذين امامي قد اختاروا لقمة العيش وهم غير ملامين. قالت ماجدة في نفسها وتابعت: أليس الاقتصاد ولقمة العيش هما أيضا حياة؟! على أي حال، كل فرد وخياراته، اما انا فسأختار سلامتي وصحتي، سأعود الى البيت.
في اليوم التالي، رفعت ماجدة سماعة الهاتف وأخبرت طبيبها عن ارتفاع درجة حرارة جسمها، وعن سعالها المتواصل، وعن الضيق في تنفسها.
****************
بقلم، جميلة شحادة، كاتبة وقاصة من الناصرة