خواطر من قلب الكابوس العظماء (4) محمّد الأمين: (ص)
تاريخ النشر: 20/05/20 | 15:55خواطر من قلب الكابوس
العظماء (4)
بقلم: علي هيبي
يا لحكمة الإرادة الإلهيّة في خلق الأنبياء الثائرين وولادتهم! المسيح البسيط (ع. س) يولد في مذود للبهائم في بلدة صغيرة هي “بيت لحم” الفلسطينيّة منذ أكثر من 2000 عام، ومن هناك ينطلق بدعوته ومبادئه ليزعزع الإمبراطوريّات العريقة والقويّة، من المذود يسعى ليحطّم عروش القياصرة والأباطرة وجبروت سلطاتهم، فيدين لعدالة دعوته الناس في معظم أصقاع الأرض وعند أغلب الأمم.
محمّد الأمين اليتيم (ص) يموت أبوه “عبدالله” وهو في بطن أمّه، يولد فتموت أمّه “آمنة بنت وهب” وهو في السادسة من عمره، فيكفله جدّه “عبد المطّلب”، فيموت وهو في الثانية عشرة فيكفله عمّه “أبو طالب” ويرعاه حتّى يظهر نبيًّا مُرسلًا ويرعى دعوته وثورته بدافع صلة الرحم، وبنو هاشم هم آل محمّد (ص) الأقربون، لم يكونوا أسيادًا في مكّة ولا من أغنيائها بالمعنى المادّيّ، بل كانوا من وجهائها بالبعد المعنويّ، حيث تسلّموا حجابة الكعبة وسدانتها ورعاية حجيجها من القبائل العربيّة قبل ظهور الإسلام، هذا الأمر أكسبهم المكانة والاحترام عند القبائل وربّما فاق احترام سادتها وأغنيائها من قريش. الكعبة التي جاء “أبرهة الأشرم” وجنوده يمتطون ظهور الأفيال كي يهدموها عام “الفيل” (570م) وهو العام الذي ولد فيه الرسول (ص) وفيه تصدّى جدّه “عبد المطّلب” لأبرهة المذكور عندما أراد أن يستحوذ على الإبل ويستولي عليها في مكّة بقوله الشهير: “اهدم الكعبة فلها ربّ يحميها أمّا الإبل فأعدها فأنا ربّها” فأعادها وعاد مدحورًا بعد أن تبدّد جيشه وجُعل كعصف مأكول، بعد معركة الفيلة والطير الأبابيل وحجارة السجّيل. “ألم ترَ كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل(1) ألم يجعل كيدهم في تضليل(2) وأرسل عليهم طيرًا أبابيل(3) ترميهم بحجارة من سجّيل(4) فجعلهم كعصف مأكول(5) (القرآن الكريم، سورة الفيل).
ألم يتعلّم محمّد طفلًا ويافعًا الأمانة وينشأ عليها في بيت جدّه وعمّه فعرف بها ولُقّب ب “الأمين”! ألم يتعلّم محمّد الشابّ ويتربّى على قصّة جدّه الذي تصدّى للظالم المحتلّ فتعوّد على ثبات الموقف والثورة على الظلم! ألم يكن عطفه إحساسًا بالفقراء والمساكين والمنبوذين والضعفاء من الناس في مكّة التي بلغ سادتها وأغنياؤها مبلغًا كبيرًا في الظلم والكفر والجبروت والاستغلال واستعباد الناس، ممّا جعله ينفرد وينعزل في غار “حراء” شاعرًا بالضيم والظلم الاجتماعيّ والتفاوت بين الأسياد والعبيد واستغلال التجّار والأغنياء المالكين للأسواق والقوافل والبضائع، والعبوديّة التي ترى في الإنسان العبد سلعة كأيّ سلعة تباع وتشترى، فأيّ امتهان لا يطاق للذّات الإنسانيّة هذا! وقد قال فيما بعد: “الظلم لا يعرف دينًا ولا ربًّا، ومن يتعدَّ على حقوق الناس فهو مغتصب وينبغي التصدّي له”، بهذا الإحساس بدأت الانطلاقة، ألم يكن يحسّ بل ويلمس عبادة الفراغ واللاشيء في عبادة الأصنام التي كان الإنسان يصنعها بيديْه ويغضب منها أحيانًا فيأكلها إذا كانت مصنوعة من تمر، وكان محمّد ينعزل عن الناس متأمّلًا ومفكّرًا في الكون والوجود ومطرقًا في الخلق والخالق والمخلوق وحالمًا بحياة أكثر عدالة وأسمى مكانة وأرقى إنسانًا بامتلاك الحريّة والكرامة الذاتيّة، وليس بالانتماء القبليّ والعصبيّة والتناحر الدمويّ بين القبائل، ليأكل قويُّها ضعيفَها. لقد كان محمّد يفكّر بالبديل الثوريّ الجديد والبنّاء إذا أراد أن يهدم هذا القديم البائد. فنزل الوحي السماويّ الروحانيّ ليرفد هذا التفكير الدنيويّ المادّيّ بأبعاد عظيمة في صميمها سعادة الإنسان في الداريْن، ألم يقل: “اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدّا”، نعم جاء محمّد يحمل همّ الدنيا والآخرة، وويل لأولئك المسلمين ضيّقي الأفق الذين يحصرون الدين بالآخرة فقط، ويصل بهم الغيّ والضلال إلى الشكّ في حديث الرسول السابق.
منذ “اقرأ بسْم ربّك الذي خلق” (القرآن الكريم، سورة العلق، الآية 1) أوّل آية من القرآن نزلت على النبيّ (ص) حتّى “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا” (القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 3) آخر آية من القرآن نزلت على النبيّ (ص) بين هذه وتلك مسار كفاحيّ ثوريّ طويل وشائك خاضه الرسول وأتباعه من الفقراء والعبيد وبسطاء الناس من أجل إحقاق الحقّ وزهق الباطل، بكلّ ما يحمل الحقّ من معانٍ إنسانيّة، روحانيّة ومادّيّة سامية وبكلّ ما يحمله الباطل من معانٍ لا إنسانيّة ولا روحانيّة ولا سموّ فيها، وكلّ ما يحمله الباطل هو المصالح الدنيويّة المادّيّة الفاسدة والفانية والتي من خلالها يظلم الإنسان أخاه الإنسان ويستغلّه ويسعى إلى إذلاله ويعتدي على مجرّد وجوده وعلى حقوقه في العيش وعلى حرّيّته التي ولدت معه بالفطرة وعلى كرامته الإنسانيّة، ضدّ هذا الباطل جاء الدعوة الإسلاميّة وما في صميمها من ثورة سياسيّة واجتماعيّة على النظام القبليّ الظالم والمستغلّ، هذه القبليّة التي سعت إلى تكريس الظلم بالقوانين والسنن التي تضمن مصالح النظام السائد وتسعى لتخليد القائم، وبهذا المعنى جاء الحديث النبويّ مناقضًا ثائرًا على ذلك النظام فقال الرسول: “أشدّ أنواع الظلم هي التي تتمّ باسْم القوانين الجائرة وبالإصرار على تطبيقها بالقوّة”.
إنّ محمّدًا النبيّ العربيّ (ص) تلقّح ببذور الثورة منذ نعومة أظفاره وكانت هذه البذور محرّكًا لدعوته وثورته الكبرى على السائد من الكفر وعلى القائم من الظلم والثائر على أسياد مكّة وديانتهم الوثنيّة ونظامهم القبليّ البالي كطلل “امرئ القيس” وهيمنتهم على أسباب العيش والرزق، وسيطرتهم على التجارة والأسواق والمقدّرات، وتكريسهم للنظم السياسيّة الظالمة وإيمانهم بالعادات الاجتماعيّة السائدة والأخلاق والمفاهيم البائدة، محمّد (ص) بدعوته التي بدأت برجل وصارت أمّة جاء بتعاليم ومبادئ ومفاهيم نقيضة للمألوف الجاهليّ، مخالفة لكلّ ما كانت عليه قريش من ظلم وكلّ ما كان متعارفًا عليه عند سائر القبائل في الجزيرة العربيّة، لقد جاء بوحدة القبائل العربيّة وانسجامها وتآلفها في كيان واحد بديلًا للعصبيّة القبليّة والتناحر الدائم والصراعات الدامية، “إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فجعلكم بنعمته إخوانا” (القرآن الكريم، سورة الآية). وجاء بالحقّ والمساواة بديلًا للظلم والعبوديّة والتفاضل والتفاخر وجاء بالعدالة والمحبّة بديلًا للتمييز والاستئثار والكراهية.
وحين أدرك أسياد مكّة خطورة دينه الجديد وما يدعو إليه من أفكار وتعاليم تقوِّض ما اعتادوا عليه من النظم وما ألفوا من دين آبائهم، وبعد أن رأوا مؤيّديه ومناصريه وأتباعه من الفقراء والبسطاء والمستضعفين والعبيد، وببعد اجتماعيّ طبقيّ أنصف الرسول الضعفاء والفقراء والعمّال الأجيرين والمرأة، وله أحاديث كثيرة حول ذلك ممّا يعكس عمق دعوته إلى السعادة في الدنيا، في الحياة على الأرض كي تكون مقدّمة للسعادة في الآخرة: “إنّ الله خصْمٌ يوم القيامة لمن استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطِه أجره” وقال عن تنظيم العلاقة بين العامل وصاحب العمل لتضمن هذه العلاقة حقّ الأجير في نيل أجره : “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه”.
عرف سادة مكّة وأغنياؤها خطورة هذا الدين/ الدعوة/ الثورة التي تجعل “الناس سواسية كأسنان المشط” وترى فيهم أخوة، كلّهم أبناء لآدم وتعود جذورهم وأنسابهم إلى التراب، وتساوي بين “بلال بن رباح” العبد وبين سيّده “أميّة بن خلف”، وتجعل للنساء حقوقًا في واجب الاحترام والزواج والطلاق والإرث وفي تقدير قدراتها على المشاركة في شؤون الحياة في السلم والحرب، وترى في الظلم سلوكًا عالميًّا ممقوتًا بكلّ أنواعه ويجب اتّقاؤه، فقد قال الرسول: “اتّقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرًا فإنّه ليس دونها حجاب”، وتملك هذه الثورة رؤية ورؤيا مغايرتيْن لنصرة الظالم والمظلوم، فالمفهوم الإسلاميّ لم يتطابق مع المفهوم الجاهليّ، فالجاهليّة وقبليّتها وعصبيّتها قالت بوجوب مناصرة أبناء القبيلة في كلّ الأحوال، وفقًا لقول الشاعر الجاهليّ دريد بن الصمّة: “فهل أنا إلّا من غزيّة إن غوت غويت وإن ترشد غزيّة أرشدِ”
أمّا التفسير الإسلاميّ فهو الذي يناصر غزيّة أن رشدت وكانت مظلومة، ويردّها عن غيّها وظلمها إن ظلمت.
أدرك سادة مكّة وأغنياؤها خائفين ومتوجّسين على مصالحهم وسيادتهم وسلطاتهم وغناهم أنّه لا بدّ لهم من القضاء على هذه الدعوة الثائرة وهي في مهدها، على هذه الدجاجة قبل أن تبيض، فنبذوا قائدها وآذوه ولعنوه ونعتوه بالمجنون والساحر والشاعر، وحاصروه وشرّدوه وهجّروه وحاولوا قتله، كلّ ذلك لثنيه عن الصراط المستقيم، ولمّا فشلت كلّ محاولاتهم العدوانيّة والخبيثة، لجأوا إلى الإغراء بالجاه الدنيويّ الفاني فعرضوا عليه السيادة القبليّة الضيّقة والملك الزائل والمال الفاحش والغنى المادّيّ، فكان لا بدّ من موقف ثوريّ يترفّع عن كلّ المغريات الرخيصة، وكان الموقف الذي جابه كلّ ذلك ملخّصًا بقوله العظيم: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه ما تركت”.
هذا هو محمّد الذي عُرف بالأمين منذ الجاهليّة، رجل المواقف الصلبة، الذي يعرف من هم أصحاب المواقف الصلبة والحكيمة والعادلة، فقبْل أن يهاجر أتباعه إلى الحبشة قال لهم مطمئنًا: “اذهبوا إلى الحبشة ففيها النجاشيّ الملك المسيحيّ، لا يُظلم عنده أحد”. ورغم أنّ الحبشة كانت تربطها بقريش علاقات تجاريّة وصداقات حميمة، لكن عندما طالب سادة قريش النجاشيّ بتسليمه “المارقين” وكان قد عرف بعمق سرّ “مروقهم” وعلّة هجرتهم أبى وقال: “والله لو أعطيتموني جبالًا من ذهب ما سلّمتكم مثل هؤلاء”، وللنجاشيّ العظيم يسجّل هذا الموقف العظيم. هذا هو محمّد الرسول الثائر! فهل من المستغرب أن يتّبع مئات الملايين من البشر في زماننا المعاصر الإيمان بدعوته وبتعاليمه وأخلاقه ومفاهيمه الماديّة والروحيّة، وما زالوا يروْن فيه قدوة وأسوة وشفيعًا لهم عند الله يوم الحساب، فينجّيهم من العذاب الأكبر “في نار جهنّم كلّما خبت زدناها” ليحظوْا بالفوز العظيم “جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا”.
فهل ملوك السعوديّة “خدّام الحرميْن” والمفرّطون بالحرم الثالث والقبلة الأولى ومسرى الرسول ومعرجه، القابعون إلى جوار الكعبة مسلمون! ماذا فيهم من الإسلام والرسول! بل ماذا فيهم من عبد المطّلب الجاهليّ! واللهِ لو عاشوا زمن حملة “أبرهة الأشرم” لسلّموا الإبل والبقر والغنم مباركين، ولمضوْا له على بياض بهدم الكعبة شاكرين، لأنّها مجرّد بيت قديم عتيق، ولأنّهم بلا ربّ ولا إبراهيم ولا إسماعيل ولا دين ولا ضمير ولا كرامة جاهليّة، ولكانوا كتيبة من جنود أبرهة أو قطيعًا من أفياله.
وفي عصرنا!! ألم يترجموا القرآن إلى العبريّة مستبدلين المسجد الأقصى ب “الهيكل” وإسماعيل بإسحاق، وقريبًا سيقولون الرابي “مُوخمِّد” وهو من أصل يهوديّ، واسمه الحقيقيّ “فنحاس بن عزرا” وستقتصر الشهادتان على شهادة واحدة، وستكون الكعبة الكنيسَ الكبير في وسط “إم هكريوت” وعن قريش بني قريضة، وسننتظر هلال رمضان إن ظلّ صيام مكتوب علينا في قرآن السعوديّين العبريّ من دار إفتاء مجلس أمناء التوراة، أمّا الصلوات الخمس فقد يجري عليها خصم وتصبح ثلاث صلوات فقط “شحريت ومنحيت وعربيت”، والزكاة ستكون على الفقراء للأغنياء بزيادة “ماس عيرخ موساف”، أمّا الجزية فهي على المسلمين يؤدّونها صاغرين لليهود فقط من أهل الذمّة، كون عروش أولي أمرنا من الرؤساء والملوك والأمراء بأمر هيمنتهم وحمايتها.
في عهد مملكة “المكلبة” هذه ستعود علينا جاهليّة ثانية وثالثة ورابعة أخطر من الجاهليّة الأولى التي قامت ثورة الرسول (ص) ضدّها وانتصرت عليها بالإيمان والتواضع والعدالة والسيف، وسيكون رجالها أشدّ كفرًا وصلفًا وظلمًا وفحشًا وغنًى من أبي سفيان وأبي جهل وأبي لهب وأميّة بن خلف، ولذلك يتطلّب منّا الآن كي ننتصر على الجاهليّة الراهنة كما انتصر الحقّ وزهق الباطل أوّل مرّة إنّ نعدّ لهم ما استطعنا من قوّة ومن رباط الخيل، لأنّ هذه الجاهليّة إن مضت في غيّها فلن يبقى لا حراء ولا ملائكة ولا محمّد ولا إسلام ولا أركان ولا حضارة! سيبقى ربّ ولكنّه لا يُعبد!
وقد قلت هذا الكلام منذ خمسة عشر عامًا في قصيدة لي بعنوان “مقاطع عربيّة .. نقوش إسلاميّة .. وصور أخرى” (من ديوان “بوادٍ غير ذي زرع”، 2017، ص: 23).
“في أرضِنا ألفُ سورٍ شائكهْ/ كأنَّها لمْ تكنْ جزيرةُ العربْ/ ولمْ تكنْ سماءْ/ ولمْ تكنْ حِراءْ/ ولمْ يكنْ محمّدٌ/ ولمْ يكنْ ملائكهْ”.