كما كان يجب أن يكون والأسرى أولًا
تاريخ النشر: 22/05/20 | 9:54عادت قضية الأسرى الأمنيين الفلسطينيين إلى صدارة الأخبار مجددًا، وذلك في أعقاب دخول تشريع عسكري إسرائيلي جديد إلى حيز التنفيذ في التاسع من أيار الجاري. فوفقًا لتعديل الأمر بشأن تعليمات امن (تعديل رقم 67 )، وسّعت سلطات الاحتلال الإسرائيلية صلاحياتها في حقها بوضع يدها على ما تسميه ” أموال وعوائد الارهاب” التي يتقاضاها أسرى الحرية الفلسطينية من السلطة الفلسطينية؛ واستحدثت، وفقًا لهذا القانون، حالة قد توفّر، وفق تفسيرات إسرائيلية قضائية مغرضة، لبعض الجهات والمنظمات اليمينية التي ما انفكت تلاحق الأسرى والسلطة الفلسطينية منذ سنوات، فرصة ملاحقة ومقاضاة من يعطي ومن يمسك هذه الأموال والعوائد كالبنوك العاملة داخل أراضي السلطة؛ وهي ليست الجهة المهددة الوحيدة بالطبع.
في كل مرّة ينبش الاحتلال ووكلاؤه هذه المسألة، تتجدد المناكفات داخل المجتمع الفلسطيني ويحتدم النقاش بوتائر مقلقة، في مشهد سجل ويسجل فيه الإسرائيلي انتصاراته خاصة عندما ينجح في تأليب الفلسطينيين على بعضهم أو عندما تشرع فئات منهم بالتهجم على السلطة، أو بالاعتداء على مباني البنوك كما جرى في هذه الجولة الأخيرة.
لم يبدأ هذا النمط من ملاحقة الأسرى الأمنيين مع إصدار هذا القانون ولن ينتهي به وعنده؛ ولقد قلنا ذلك في الماضي مرارًا وأكدناه مع تشكيل “لجنة أردان” (وزير الأمن الداخلي الأسبق)، وهي التي أقيمت أصلًا من أجل نسف مكتسبات الحركة الأسيرة الفلسطينية وتقويض واقعها المعيشي وضعضعة ما تبقى من قوامها الجامع وتماسكها كجسم منيع يقف بصلابة في وجه سجانها وسياساته القمعية.
لم يكن قرار الحكومة الإسرائيلية، في حينه، مجرد نزوة عابرة؛ ورغم ما اتخذته اللجنة من خطوات في حق الأسرى علينا أن نستوعب أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة سوف تمضي بخطى إضافية لإتمام مهمتها التي ما زالت قيد التنفيذ.
لقد عملت حكومات إسرائيل في السنوات الأخيرة على تجزئة الضفة المحتلة إلى كانتونات يتعايش سكانها مع واقعهم المستجد بسكينة مهيضة، وباكتفاء العاجزين؛ في حين تمضي غزة، بخطى ملتبسة وبالدعاء، نحو حلمها الذي ينام في عيون بحرها المتعب؛ أما منظمة التحرير فلقد أرهقها أبناؤها فشاخت وهي تجاهد كي تحمي من بقوا يعتاشون على أثدائها.
لا يختلف واقع الحركة الأسيرة الفلسطينية اليوم، موضوعيًا، عن واقعها في زمن البدايات، لكن آباء تلك الحركة استوعبوا، بفطرة المقاومين الأنقياء، أن بناء الجماعة هو الضمانة الأكيدة لحماية أفرادها من خبث سجانيهم، ولبقائهم رمزًا وطنيًا يجسد معنى التحرر ومقاومة الاحتلال؛ فحين قاوموا، برؤية وطنية طليعية وسبّاقة سياسات المحتل واضطهاده، كانوا على يقين أنهم يشكلون عمليًا السد الأول والأخير الذي يجب أن يقف في وجه من كان يسعى بنهم، وهو ما زال منتشيًا بسكرات نصره المظفر، إلى التحكم بأرواحهم وراء القضبان، ولإبقائهم كهلاميات تائهة وكفرائس تحيا بلا أمل بين فكي الخيبة والهزيمة. وفي حين حاول السجان الإسرائيلي تدجينهم ومعاملتهم كمجرمين وكارهابين يعيشون في ظل القانون الاسرائيلي ومننه، تمامًا كما يحاول اليوم، أصروا وتصرفوا على أنهم مناضلون أحرار وأسرى يضحون في سبيل شعبهم وحقه في الاستقلال وبناء دولته المستقلة.
والاهم في هذه الملحمة المشرفة أنهم فعلوا ذلك بظروف معيشية قاسية وبدون دعم مادي أُسري ولا بوجود سلطة وطنية تضخ أموالًا في حسابات “كانتينا” شهرية وغيرها. لقد قاوموا بجوارحهم وبوحدتهم وكرامتهم وهزموا سجانهم شر هزيمة.
فلماذا اذن تستقوي حكومات اسرائيل ولا تكف عن محاولاتها للاجهاز على الحركة الاسيرة داخل سجونها وملاحقة اعضائها من الاسرى المحررين؟
لقد استشعر القائمون على إعداد المخطط الخاص بضرب مكانة الأسرى الفلسطينيين التاريخية والحالية بروز عدد من المحفزات والمعطيات المستجدة داخل صفوف الأسرى، فعملوا على توظيفها واستغلالها كأسلحة تسهل إتمام مهمتهم المذكورة.
لن أعدد تلك العوامل، فلقد تناولتها مرارًا في السابق، لكنني سأعود وأؤكد على أن الانقسام بين غزة والضفة، بين فتح وبين حماس، كان أخطر هذه العوامل وأقواها على الإطلاق، خاصة بعد أن “استوردت” قيادات الحركة الأسيرة مضامين ذلك الانقسام وقبلت به واقعًا يحدد هوامش معيشتها داخل السجون.
لقد غيّر هذا الانقسام، وهو ليس الوحيد القائم داخل صفوف الحركة الأسيرة، أبجديات الصمود الفلسطيني ونسف عمليًا ميراثًا نضاليًا ذهبيًا ما زال نثاره يتطاير على جهات الريح ونحن نرقبه بحسرة وبوجع وبخيبة.
ما زلت أرى أن هذه المسألة بحاجة إلى حل وطني واضح ومتفق عليه، وذلك وفق الثوابت الخاصة بمكانة الحركة الأسيرة وما تعنيه في سياق عملية التحرر الوطني؛ لكنني لست هنا في صدد كتابة تحليل لهذا القانون أو غيره، ولا لأبحث عن حلول على الهواء، فلكل مقام مقال؛ ولكن لا بد من إنصاف الحقيقة والتاريخ، فالجميع يعرف أن السلطة الفلسطينية ملاحقة منذ سنوات من قبل حكومات إسرائيل ودول كثيرة أخرى، وذلك بحجة أنها تدعم الإرهاب وتحتضن الأسرى، وهذا واجبها طبعًا، وتقدم لهم بسخاء وبحق؛ وهي ملاحقة قضائيًا في المحاكم الأجنبية والإسرائيلية حيث “يتجبر” بحقوقها قضاة عنصريون، بعضهم مستوطنون، يقفون ضدها وهم مدفوعون بهواجس عنصرية وبعيدة عن القانون والعدل والنزاهة؛ ورغم هذا وذاك رفضت وترفض جميع القيادات الفلسطينية، رئاسة، وحكومات، ومنظمة، أن تنصاع لتلك التهديدات والابتزازات.
لم يكن موقف القادة مجرد مناورة إنسانية عابرة أو مكابدة ومكايدة، فهم أكثر من يفهم، بقناعة وطنية متجذرة، بان المعركة على موقع الحركة الأسيرة الفلسطينية وما ترمز إليه في تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي هي معركة على آخر القلاع التي يجب الدفاع عنها وإنقاذها.
من المنتظر أن تستأنف الحكومة الجديدة ما بدأته حكومة نتنياهو وأردان السابقة، ولن يمضي وقت كبير حتى نشهد حملات غير مسبوقة ستستهدف، كما نعرف، السلطة من جهة وضرب الحركة الأسيرة من جهة أخرى .
وقد يكون الأسهل على الجميع توجيه جميع السهام إلى السلطة الفلسطينية والى قيادة منظمة التحرير وتحميلهما كعنوانين وحيدين وزر هذه الهجمة الشرسة. لن يكون ذلك كافيًا لرد الهجمة وإفشالها، فبدون تكاتف جميع مفاعيل المجتمع الفلسطيني وفي مقدمتهم الأسرى، وإلى جانبهم جميع الفصائل ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني والأهلي، ووقوفهم إلى جانب السلطة والتفتيش عن حل وطني مقبول، ستبقى الأزمة قائمة ومتفاقمة.
لقد تمنيت عليكم قبل حين وقلت لكم: أنتم أبناء “الحركة الأسيرة” فلا تتحولوا إلى ضحايا “حركة كسيرة”. لقد كُتب سفر خروجكم على جدران الزنازين بالدم وبالدموع، فعلى ماذا تراهنون في هذا الزمن الذي من دخان وشموع؟
اهدموا أسوار الفرقة وغادروا “مواكير” التعصب واستعدوا لمعركة الكرامة والجذور؛ فقريبًا سيلسعكم جمر الحكومة الجديدة. وستبقى زنازينكم أوطانكم فلا ترضوا أن تصير فلسطين وطنًا من سراب. من مثلكم يعرف قراءة أبجديات الندم وتفكيك شيفرات العدم، لا تجازفوا بذبح الصباح . حطّموا مراياكم، ولا تكونوا كأولئك الجنود الذين قضوا، فتناثر عطرهم على المفارق وحفلت الشاشات بالأهازيج وبالفرح الأسود.
ستكون الهجمة على كل فلسطين قريبًا شرسة وساحقة؛، وانتم، في هذه الأزمة، رهاننا الأجمل وأصحاب حق ومسؤولية . واجبكم أن تبادروا كي يصير الحل وطنيًا، فخيطوا من مواقعكم خيوط الشمس والزنبق؛ لا تكتفوا بالقعقعة وبالهتاف، فقد تصير كل اليواطر قاصرة؛ قفوا في أول الليل كوقفة عاشق ينتظر الفجر في الخندق، وعيشوا كأبناء البن والقمح ، وكما عاش الذين لم تطعمهم أوسلو حريرًا وندم، وصادقوا الأمل ملفوفًا بالعمل ومغموسًا بالخبز وبالعزة والماء والصبر، فعندها فقط سينثال عليكم وعلى سيدة الأرض ضوء القمر.
بقلم جواد بولس