همم نحو القمم:
تاريخ النشر: 22/05/20 | 11:13محمد سواعد- ابن الحميرة:
تأتي كلمة الهمّة من أصل الهمّ، وهو ما يهم المرء ويشغل فكره، فهمّة المرء نابعة من سعيه فيما أهمه، وقيل: ” همتك ما أهمك”، أي أن ما أهمك هو الذي يحدد همتك وسعيك وجهدك، وتختلف همم الناس صعودا وهبوطا وفقا لما يطلبون ويسعون إليه في الحياة.
وهمة المرء تحدد قيمته في الدنيا والآخرة فمن كانت همته الجنة والفردوس الأعلى منها نال شرف المطلب وشرف المسعى، ومن كانت همه الدنيا الفانية نال جزاءه منها وليس له في الآخرة من خلاق 🙁 فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ* وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) البقرة، 200- 202، والله تعالى يدعو العباد إلى رفع سقف اهتماماتهم نحو إصلاح الدنيا والآخرة، فما إصلاح الدنيا إلا وسيلة لصلاح الآخرة، كيف يمكن أن تستقيم آخرة والدنيا فاسدة، لذا سعى المصلحون طوال فترة الدولة الإسلامية إلى إصلاح الدنيا للوصول إلى صلاح الآخرة، ومن أراد جنة هانئة يوم القيامة فليجتهد في إيجاد جنة في الدنيا بحسن التعامل والأخلاق وبناء جسور الوداد والتعاون مع الآخرين والأخذ بأيديهم إلى مراقي الفلاح والسعادة.
والهمم يمكن للقيادة والمصلحين إشعالها في نفوس المجتمع عن طريق التحفيز والتوعية وبيان فوائد الهمم العالية ومفاسد ضعف الهمم أو دنائتها، فعندما تيقظت همم المسلمين نحو إصلاح الدنيا استطاعوا في سنوات قلائل أن يؤذن المؤذن للصلاة على أسوار الصين، فيجيبه المؤذن الثاني عند حدود فرنسا بإقامة الصلاة، وهكذا تحركت الجيوش تحمل في يدها السلاح لدحر الطغاة وفي قلوبها كل معاني الرحمة والرأفة ومنابع الأخلاق التي ظمأت الأرواح في سيرها نحوها، ولم تكن فتوحات الإسلام من أجل مال أو مغنم دنيوي، والأدلة كثيرة ومنها أن خالد بن الوليد أعاد لأهل حمص غير المسلمين أموال الجزية التي جمعها منهم عندما عجز عن حمايتهم.
وكان كل من يتعامل مع رسول الله صلى الله عليه يدرك علو همته حتى علت همم أصحابه تبعا لهمة نبيهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث الناس على الكرم والإنفاق ويعدهم بجنة الفردوس لا بحظ من الدنيا قليل أو كثير، فارتفعت همم الصحابة وراحوا يتنافسون على آخرة وجنة، فكان من ثمار هذا التنافس صلاح دنياهم واستقامتها والبشرى بالجنة يوم القيامة: (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) الفتح- 18، وكان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان شديدَ الحبِّ له قليلَ الصَّبرِ عَنْهُ، فأتاه ذاتَ يومٍ وقد تغيَّر لونه ونحل جسمه، يُعرَفُ في وجهِهِ الحزن، فقال له رسول الله: «يَا ثَوْبَانُ مَا غَيَّرَ لَوْنَكَ»؟ فقال: يا رسول الله ما بي من ضُرٍّ ولا وجعٍ غير أنِّي إذا لم أَرَكْ اشتقتُ إليك واستوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاك، ثم ذكرتُ الآخرة وأخافُ ألَّا أراكَ هناك؛ لأنِّي أعرف أنَّك تُرْفَعُ مع النبيين، وأنِّي وإنْ دخلتُ الجنَّة كنتُ في منزلةٍ أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنَّة فذاك أحرى ألَّا أرك أبدًا، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ النساء: 96.
ولعل ما يؤلم القلب ويدمي الروح هو ضعف الهمم وتوجهها إلى دنيا فانية أو عرض زائل وتعلق الناس بالمظاهر البراقة على حساب القيم والمبادئ، فراح الناس يتنافسون على متاع الدنيا فاشتعلت بينهم الفتن والعداوات والأحقاد.
إن دور القيادات الدينية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الإنسانية أن تبادر إلى فتح أبواب التنافس لإصلاح دنيا الناس ودينهم وفق منهج إسلامي إنساني يتجاوب مع حاجات البشرية وفق متطلبات العصر الحديث، بل ويجب أن يكون منهج الإصلاح الذي نصبو إليه مستشرفا للمستقبل وفق بصائر علمية تربوية ترقى بالإنسان نحو أبواب فردوس السعادة في الدنيا وفردوس النعيم بين يدي الله يوم القيامة.