بين شاعرة الوادي وفراشته
تاريخ النشر: 09/10/11 | 14:45بين موكب الاحلام والصوفية- بين شاعرة الوادي وفراشته ,
إن ضاقتِ الدنيا عليَّ ، فأنتِ والشعرُ مُتَّسعي
خُذاني أينما شاءَ الهوى، أسافرُ في معارجِ صوفيتي!
” فاختلاف النهار والليل يُنسي
أذكرا ليَ الصبا وأيامَ أُنسي ”
إنه لجميل لعمري أن يُطلق الشاعر على نفسه لقباً، أو كُنيةًً، قد تغلب عليه ولا يكاد يُعرفُ إلا بها. وهناك فرق بين اللقب والكُنية، فاللقب ما أشعرََ بمدح أو ذم، وأما الكُنية فهي ذلك الاسم الذي تصدّر بأب أو أم أو ابن.
فقد أُطلقَ على الشاعر الصوفي ابن الفارض سلطان العاشقين، وعلى قيس بن الملوح مجنون ليلى، وعلى ابي العلاء المعري فيلسوف الشعراء، وشاعر الفلاسفة، وأطلق على شاعر الفخر العربي أحمد بن الحسين المتنبي، وعُرف الحسن بن هانئ بأبي نواس، ومسلم بن الوليد بصريع الغواني. كذلك البحتري والأصمعي، وأبو تمام وابن الرومي ، والفرزدق، والأعشى وهو القائل:
ودّع هُريْرَةَ إن الركب مرتحلُ وهل تطيقُ وداعاً أيها الرجلُ
وفي العصر الحديث اتفق شعراء العرب في زمن أحمد شوقي على اطلاق لقب أمير الشعراء عليه وبايعه حافظ ابراهيم قائلاً:
” أمير القوافي قد أتيتُ مبايعاً وهذي وفود الشرقِ قد بايعت معي” . وأطلق ميخائيل نعيمة على نفسه لقب ” ناسك الشخروب، وعُرف بشارة الخوري بالأخطل الصغير، وأطلق على طه حسين لقب الصدارة عميد الأدب العربي . وعُرف الشاعر السوري علي سعيد باسم أدونيس ، ومن الأديبات والشاعرات عُرفت ملك حفني ناصف بباحثة البادية.
وكل لقب من هذه الألقاب لم يُطلق جُزافاً ولا اعتباطاً، وليس من قبيل المجاملة الفجة ، فإن هذا اللقب سوف يدخل في ذاكرة التاريخ الأدبي، إذا كانت تقف وراءه خلفية ذات مصداقية ودلالة مبررة لأسباب هذه الكنية.
التفسير الصوفي لقصيدة معالي رائف مصاروة الرائعة
انطلاقاً من كون النص الأدبي حمّالاً لعدة أوجه، وقابلاً لقراءات وتأويلات متعددة ومتباينة، فقد وجدتني مشدوداً الى التأويل الصوفي لقصيدتي الشاعرتين، ووجدت القصيدتين تشدانني نحو هذا المنحى شداً بليغاً، رغبةً في السفر للبحث عن سر الأمكنة والأزمنة وعالم الشاعرتين السحري ، والسؤال الذي يجعلنا نهتز كلما عاودنا قراءة القصيدة مرة ثانية وثالثة ، وقد تعلمتُ من أحد الأساتذة جملة واحدة لا غير، كان يرددها كثيراً وهي أن الأدب هو ما أحببت أن تعيد قراءته مرات ومرات ، وفي كل مرة تكتشف عوالمَ متوغلةً في أعماق القصيدة.
ويرى نعيم اليافي أن الشعر أصبح معرفة بالعالم وليس وصفا ظاهريا له . وأنه أصبح كشفا له وليس اجترارا وإعادة إنتاج.
وأنه أصبح تحديا له وصراعا معه وتمردا عليه .
ويرى أدونيس أن الشعر هو اعادة الاتصال بالقوى الغامضة للإنسان.
هذا ، وإنني لا أزعم أن الطقوس الصوفية تهيمن على القصيدتين، ولكنني لمست إلماحات صوفية أردت الإشارة إليها. وقد تكون هذه احدى احتمالات التأويل لا غير.
ويروق لي هذا التفسير الصوفي لقصيدة معالي رائف الرائعة ” كنتَ ولا زلتَ” التي تتحرك في مساحة شعرية مفتوحة شاسعة الأبعاد، صوفية بلا حدود. فليست معالي مَن تكتب القصيدة، وإنما القصيدة ذاتها هي التي تكتب معالي وتسير بها مترنحة ثملى بإكسير الشعر، وأنا حين أقوم بمحاولة تحليل القصيدة ، فإنني أقوم بكتابة ذاتي فيها ، فهي تقول:
بطريقٍ يابسِ المصير
لمَ لَم أركَ سابقاً
فقالَ: أراقبكِ منذُ طفولة نهدكِ
أهنئك على هذه المعاني الصوفية المنسابة،التي تشد القارئ الى عالم الدهشة والغيب، ويرى فيما يرى صوفية تسير وحدها في طريق يابس المصير، أي أنها تسير الى مصير يابس، لا ماء ولا حياة فيه هو الطريق الصوفي البحت. وحدي بلا رفيق أو أنيس، حيث تأوي الى شعرها لتتخذه مسكناً، فالحبر كناية مجازية تصريحية عن الشعر ، فأما الوجع الذي افترس رعشة النهار، فاستعمال الفعل “افترس” يوحي بأصوات التحطم والغلبة، ورعشة النهار توحي بالبراءة والضعف، وذلك في قولها:
وأنت تَتخذينَ حبركِ مُسَكناً
لوَجعٍ إفترسَ رعشةَ النهار
ويرتفع الغضب والأسى في التساؤل:
لمَ لَم أركَ سابقاً
إنها قصة صوفية متكاملة الأطراف! وهنا تصل ذروتها.
فيجيبها الصوت الثاني في القصة:
أراقبكِ منذُ طفولة نهدكِ
وقد حدث كل هذا في الحلم الصوفي الذي زارها، حيث تقول:
في المقعدِ الأول
بالحُلم الذي زارني تلكَ اللَيلة
كانَ هوَ
وقد أكسب هذا الحوار الدرامي القصيدة بُعداً درامياً، زاد في جاذبيتها، بما للحركة الداخلية اللغوية من تأثير باختلاف استعمال الضمائر مثل ياء المتكلم في ” زارني”، والكاف في ” أراقبكِ”، وأنتِ تتخذينَ،.”
“قلتُ: إنتظرتكَ”، فكل هذه الضمائر وغيرها جعلت القصيدة تزدحم بالحركة الدرامية، وهذا يُسجل لصالح الشاعرة التي تحثّ خطاها نحو الشعر الأصيل الصادق، غير المتكلف ولا الممجوج، فنحن نقرأ الكثير ” لشعراء” كبار ممن يعدون أنفسهم في مصاف الصفوة الشعرية في هذه البلاد، لا تكاد تقرأ سطراً من قصائدهم حتى يصيبك الغثيان، لزيف مشاعرهم، ولأنهم ينظمون معادلات الشعر، ولا يكتبون شعراً. فلماذا لا تسلموا القصبة لهؤلاء الشعراء الشباب، وتتركوا لهم عنان الابداع حتى تتكون مدارس شعرية جديدة . وأقول للسادة النقاد إن كتابتي وتحليلي هنا ليس تشجيعاً أو مداراة ، ولكنني أهدف من وراء ذلك الى محاولة الأخذ بيد الحركة الأدبية في المثلث بالذات،وهي في طور التشكل الجديد على يد رهط من الشابات الولوعات بالشعر والشبان السالكين اليه،وفي سبيل إثارة وايقاظ السباع النائمة. وأتواضع في سبيل ذلك مع الكلمة الصادقة، فاتحاً أبواب النص وآفاقه ليقول ما لم يقله للقارئ من ذي قبل مشرعاً أمامه نافذة للتفكير والتأمل .
وبعد هذه المداخلة الاعتراضية الطويلة أعود فأقول:
إن “طفولة نهد” هو اسم ديوان وقصيدة لنزار قباني، وكذلك ” عقد الياسمين” . وقد سبق أن نوهتُ في استعمالك ” أرجوحة القمر”، وهذا ما يسميه أساطين النقد ” التناص الأدبي” الذي يتغذى على ما اختزنه الوعي الباطني للشاعر من مخزون شعري وثقافي . ومرة أخرى يأتي توظيف التعبير هنا بشكل مغاير متدفق عبر نهر خرافي مسحور بلا حدود.
والمقعد يتردد كثيراً في قصائد الشاعرتين، حيث تقول فراشة الوادي في قصيدة تحت عنوان : ” خلف مقعدكَ”:
خلف مقعده يجلس الليل يتهادى .. يتأوه
والليل جمّرات مستعرة تُضارب الريح
تُعانق الشّطان والمرفأ العتيق
فتتمثل أمامك رواية حب عاصفة، تجري أحداثها عند المرفأ العتيق، وكم من مرفأ عتيق في بلادنا تسحر الشعراء وتشكل مادة زخمة ثرية لشعرهم كمرفأ يافا مثلا، وقيساريا وغيرها. والمرفأ له دلالة شعرية عالية، هي دلالة الوصول الصوفي في استراحة أخيرة لالتقاط الأنفاس، عند ملتقى عالمين هما البحر والبر ، اليابسة.
وتبدو الشاعرة في هذه القصيدة متفائلة ، حيث تختتم القصيدة بنهاية احتفالية راقصة ذات ايقاع عذب ، ناقلة المتلقي الى الزمن المستقبل حيث سيولد الوقت الجميل ، فيغسل العاشقان الصوفيان وجه السماء ، وتورق قصائدهما الخضراء:
منذُ الان
سَيولدُ الوقتُ الجَميل
لابساً عقداً منَ الياسمين
المنثورِ على عفويةِ الأرض
بِنا نغسل وجهَ السَماء
ونرسمُ إبتسامةً على شفاهِ القمر
ونتخذَ نفس المقعَد
في الواقع
الذي سَنبنيهِ سوياً
على أرض قصائدنا الخَضراء
الوصال الصوفي في قصيدة : ” خمسَ عشرة زُمردة” للشاعرة صفاء أبو فنة “فراشة الوادي” .
ففي القصيدة الأخيرة أعني ” خمسَ عشرة زُمردة” ارتفع صوت صفاء أبو فنة ليصل سُدة الشعر الحقيقي، في قصيدة صوفية بحتة حين الشفاه تهمسُ لتصل في نشوتها الى ثريات الذهب، عبر أجواء من الموسيقى التصويرية والترانيم الليلية، وبخور مسحور من عبق زهر البنفسج:
وثريات الذهب هذه هي تعبير جبراني مسحور مختوم بالطلاسم الجبرانية العذبة الخالدة التي لم ولن يتصوح أو يذوي بريقها الأخاذ:
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت كثريات الذهب
وجاء التوظيف الجديد لهذا التعبير على يد الشاعرة ، في التشبيه البليغ همسات شفاهك ثريات الذهب ، ترانيم الليل، وعبق زهر البنفسج. فالشاعرة تجمع هنا بين تشبيهات متناقضة من عالم الأصوات: (همسات وترانيم) الى أن يزداد الزخم الصوفي حدةً وهياجاً في قولها :
تموت دموعي في قافلةِ عشقكَ
تتموجُ قرب مقعدكَ الخشبي
ورياح هوجاء ممتدة تعانق
فيكَ الأفق…
وكان انتقالها الى استعمال الفعل المضارع ذي الدلالة الحركية والصوتية معاً، فاعلاً في عملية الحلول الصوفية، فالعشق له قافلة ، والقافلة تعني الرحلة والرحيل للوصول والحلول الصوفي، فكأنما الشاعرة تسير داخل قافلة العشق، وحينما تقطع مرحلة ( تتموج) قرب مقعدك الخشبي، ومع جمال استعمال كلمة تتموج التي جاءت في المكان المناسب إذ لا يمكن القول ( تترنح، أو تتهادى، أو تتمايل) فهذه كلها وغيرها لا تعطي الدلالة الحركية الخاصة المحددة للفعل ” تتموج” الذي بالاضافة الى حركة الأمواج ، تاتي مصحوبة بصوت الموج الخاص. إلا أن الصفة الحسية ( الخشبي) أفقدت الانسياب الصوفي للقصيدة. فبعد قافلة العشق الصوفي السالكة في مدار الحلول، تصدمنا صورة الواقع الحسي المجرد الصلد في المقعد الخشبي.
وليس هو نفس المقعد في قصيدة معالي رائف ” كنتَ ولا زلتَ” ، مع أن كل من الشاعرتين تغترفان من النهر عينه.
حيث تقول :
ونتخذَ نفس المقعَد
في الواقع
الذي سَنبنيهِ سوياً
على أرض قصائدنا الخَضراء
ولعلني أفسر القصيدة بما لم تقصد الشاعرة ، ولم يخطر ببالها حين كتابة القصيدة ، وهذا أمر طبيعي جداً، فالشاعر غير مطالب بتفسير قصيدته ومقاصدها الكلية، وإنما هي شقشقة يقولها ويمضي.
ففي قولها ذي التجليات الصوفية الرفيعة:
ورياح هوجاء ممتدة تعانق
فيكَ الأفق…
ما يدل على مصداقية التحليل والوقوف عند لمسات صوفية خطيرة. فالرياح الهوجاء التي تزلزل كيانه، ممتدة لتعانق الأفق، وأي أفق : إنه الأفق الذي فيك، وفي هذا معنى الرحلة الصوفية للوصول واكتشاف أعماق الأعماق والغور فيها. ولكن يبدو لي التناقض الحركي في قولها : رياح هوجاء…. ( تُعانق)، فالهوجاء تزلزل فيك الأفق…
يقول الشاعر في أيامه السالفة:
يا ليتَ شعري مَحضَ حلمٍ عابرٍ
في بحرِ أحلامي الأُوَلْ
يا ليتهُ لمحَ الموانئَ قبلَ حزمِ الأمتعةْ
من قبل أن يغشاهُ موجٌ فوقهُ موجٌٍ
يبدّدُ كلَّ نورْ!
يا ليتَ إعصاراً أتى
كسرَ السفينةَ والمنى والأشرعةْ !
وأحب أن أقول للقراء مرة ثانية مؤكداً إنني أشهد ميلاد شاعرة تحمل القمر بين أصابعها، وتمتلك القدرة على إدهاش القارئ وهزه. والآن أصبح الأمر أن تحثي السير الى الامام بقصائد تكون بنفس المستوى أو أعلى، لا تتعجلي الشهرة، واتركي لروحك العنان لتحلق في سماء الشعر.
كما أنني أرى في فراشة الوادي، حمامة تشرب من نفس الغدير، وتحوم حول سدة الشعر الصوفي، والآن فقد نقرت أكسير الشعر بعد معاناة الروح.
وأود أن أهمس للشاعرتين أن مشوار الشعر عسير، وعليكما المزيد من القراءة والاطلاع على قصائد كبار الشعراء، وقراءة النقد وفهمه جيداً، والفرح للناقد الذي يبين هفوات الشعراء، فقد قالت الأعرابية: أمرُ مبكياتكِ ، لا أمر مضحكاتكِ ، فما النقد إلا عملية ابداع وصياغة جديدة متجددة. وأنتما حقاً تمسكان بجمرة الشعر. ولا تكونا في جوقة العصافير المتشابهة الأصوات فيضيع صوتكما بينها .
وأشد على يد الشاعرتين مهنئاً ، هذا الابداع حتى القمة!
الاخ الكريم الاستاذ سامي ادريس..حياك الباري وجمل ايامك بالسعادة ومكارم الاخلاق.
تحليلك جوهري وكلماتك رقيقة تزيد الجمال للقصائد…الف مبروك لشاعرة الوادي..الف
مبروك لفراشة الوادي…
الوادي تبارك بالشعر..اتمنى دوام التالق لشعاره…
تحية شكر وامتنان للاخ سامي على كلماته الطيبة المشجعة…
أجمل التحيات إالى الاخ الأستاذ سامي إدريس, أوجة لكَ تحياتي القلبية المفعّمة برائحة الورد البري وزهر الياسمين ..
نقدكَ البنّاء يدعمني على إكمال مسيرتي ويحثني على التقدم أكثر في عرض خواطري الوجدانية فوق الورقة البيضاء.. لأنقل صورة شعرية تجمع ما بين المصداقية والعطاء والإبداع شكرا جزيلاً لكَ ..
إليك يا من توجتَ عرش كلماتي
حروفك تُزين صدري بقلائد السحرِ
وتحياتي إلى غاليتي شاعرة الوادي معالي مصاروه, هي أختي وصديقتي التي أتمنى لها دوام التألق ,التجدد والإبداع
الاستاذ الشاعر سامي إدريس:
كل الكلمات
تتكئ على حافةِ ذهني..
شاردة أنا وراء واقع ظننته سيطول
ها أنا اصادف…..
ما لم تراه العيون..
لأرتقي بكتاباتي…
حروفك الاتية من الريف يدفعها ريحٌ حريري
تتلوها عاصفةٌ التقدم…