خواطر من قلب الكابوس العظماء (3) المسيح (عليْه السلام)
تاريخ النشر: 31/05/20 | 13:57 بقلم: علي هيبي
المسيح (عليْه السلام):
أحد أبرز عظماء التاريخ – برأيي – السيّد يسوع المسيح (ع. س) وأمّا مفتاح عظمته فهو الثورة السياسيّة والاجتماعيّة الكامنة في صميم دعوته الدينيّة على الجبروت والظلم والغنى الفاحش وعدم خضوعه للتقاليد البائدة: الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي كانت سائدة في الفترة التي عاش فيها، ووقوفه حاملًا لواء الخير والفضيلة والعطف والعدالة إلى جانب بسطاء الناس البائسين المقهورين والفقراء المساكين والعبيد المظلومين.
وأنا في الحقيقة لا أنظر إلى عظمته إلّا من رؤية أرضيّة ماديّة كثائر على الجمود الفكريّ، على “وجدنا آباءنا الأوّلين على عبادة فكنّا على عبادتهم سائرين، وما هو غير ذلك فهو افتراء وسحر وجنون وازدراء لنا ولآبائنا ولآلهتنا” حتّى لو كانوا أصنامًا لا يضرّون ولا ينفعون أو أوثانًا لا ينطقون ولا يعقلون، هكذا يعبدون بلا تفكير في مضمون العبادة ولا بأسبابها ولا بعواقبها، وكثائر على الظلم الاجتماعيّ، حيث يسحق الغنيّ الفقير ويستعبد السيّد العبد ويسخّره لخدمته وأبناءه ما عاش، فالسيّد سيّد والعبد عبد من المولد إلى الممات، والغنيّ غنيّ والفقير فقير وأبناءه من المهد إلى اللحد، هذه هي سنّة الأوّلين المتسلّطين ولن يقبل هؤلاء الظالمون لسنّتهم تبديلًا ولا تحويلًا، وويل للمارق! حتّى إن كان عيسى بن “مريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها” (القرآن الكريم، سورة التحريم، الآية 12) السيّد المسيح حامل الرسالة العظيمة من السماء إلى الأرض والكنيسة وأفكار المسيحيّة والإنجيل الجديد ومعاني الحريّة والعدالة والحقّ والتسامح، “فالرؤساء والأسياد والأغنياء الذين خافوا دعوته، عندهم ما لقيصر لقيصر وما لله لقيصر، وعند المسيح وأتباعه من الفقراء والبائسين ما لقيصر لقيصر وما لله لله”.
فالمسيح الناصريّ الجليليّ الفلسطينيّ (ع. س) له رسالة سماويّة يحملها إلى الأرض وأتباعه ما زالوا يعدّون بمئات الملايين على ظهر هذه اليابسة، نحترمهم ونجلّ إيمانهم، وندرك ما من وشائج بين البعد السماويّ الإلهيّ والدينيّ مع المسار الحياتيّ الواقعيّ على الأرض وأبعاده الاجتماعيّة والأخلاقيّة والسلوكيّة، وندرك عمق الإيمان الروحانيّ عند البشر، ومدى تأثير الدين ومفاهيمه في هذا المجال، ولكنّ الجانب الدنيويّ والحياتيّ والواقعيّ هو ما يهمّني الآن من حياة المسيح (ع. س) أيّ سيرته الحميدة ومساره الدنيويّ العمليّ ونضاله الاجتماعيّ على الأرض.
عندما طالبه الوالي الرومانيّ بيلاطس البنطيّ بالاعتدال بالدعوة إلى مبادئه لأنّه هيّج اليهود والأغنياء فتألّبوا ضدّها وألّف حول دعوته البائسين والفقراء والمطرودين من أجل البرّ والمعذّبين في الأرض، وقد جاء رجاء البنطيّ كي يتّقي يسوع الناصريّ شرّ المرائين من الفرّيسيّين والأغنياء وأسياد اليهود، رفض ذلك الاعتدال الذي يعني التنازل عن الموقف، رفض إذا كان الثمن هو الحفاظ على حياته جسديًّا، ودعا إلى أولويّة الله على كلّ شيء أو مخلوق، حتّى إن كان ذلك المخلوق هو القيصر ذاته، لأنّ الله مصدر كلّ شيء ودعا إلى إعطاء الله حقّه، “فما لله لله وما لقيصر لقيصر”.
ولقد نجا من التجربة التي وضعه فيها المراؤون: “لماذا تجرّبونني أيّها المراؤون ما أنتم إلّا كالقبور المكلّسة ظاهرها أبيض ناصع وباطنها عفن ومليء بالنجاسة”. هذه النجاسة والعفونة التي في باطن أولئك الناس هي مصدر الشرّ فيهم ومحرّك سلوكهم وأعمالهم، وهي المرتكز الأساس الذي شكّل ثورة المسيح (ع. س) على الأغنياء المدنّسين بالدنيا والمال والحظوة عند القيصر ووقوفه إلى جانب المعذّبين قائلًا: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”. وهو يعني الراحة النفسيّة والروحيّة، كان التسامح شعاره ومنهجه بلا حدود، حتّى أنّه طلب الغفران للذين أهانوه وسبّوه وقتلوه: “أغفر لهم يا أبي فإنّهم لا يعرفون ما يفعلون”.
هنا تكمن عظمة هذا الرجل الذي جاء إلى الأرض لا ليُخدَم بل ليَخدِم، جاء ليبذل نفسه فدية للآخرين، ويقدّم أعظم الحبّ عطاءً كاملًا وبذلًا للذات على الصليب، فعظمة الموقف وعمق الإيمان هو ما جعله ينبذ عنه مادّيّة الأرض وسيادتها وأدرانها وينشر الحبّ والتسامح والعدالة وينشد له وللناس المؤمنين به وبدربه ملكوت السماء كخلاص وبشارة سامية، هذا الثائر حين عرض عليه بيلاطس البنطيّ كصاحب سلطة إحدى إمكانيّتيْن: إخلاء سبيله أو صلبه، شريطة المهادنة في الموقف والإيمان جاء ردّ المسيح ثوريًّا قاطعًا: “ما كان لك سلطة عليّ لولا أنّك نلتها من الله، أمّا الذي أسلمني إليك فخطيئته أعظم من خطيئتك”، ويقصد الذين خانوه وعلى رأسهم ذلك الرخيص “يهوذا الإسخريوطيّ” الذي باع ما لا يقدّر بمال أو مُلك أو حطام دنيا، المسيح بن مريم الطاهرة “التي أحصنت فرجها” (القرآن الكريم، سورة الأنبياء، الآية 91) باعه بثمن بخس، بثلاثين من الفضّة، كما باع السيّارة “يوسف” (ع. س) لعزيز مصر.
كم كان عظيمًا هذا السيّد المسيح عندما دعا للتحلّي بالتسامح مكان الحقد وإلى إحلال الخير مكان الشرّ، وإلى التسامي بالعفو مكان العقاب وإلى الإحسان للمسيئين، عندما مرّ على أولئك الرجال وهم يرجمون تلك المرأة الخاطئة والمستضعفة دعا الخاطئين مثلها بندائه الشهير والحكيم والمنصف: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر”، كلمات قليلة كان لها وقع السحر على وجدان الناس، فمالوا إلى الإنصاف وتراجعوا عن الرجم، لم يكن السيّد المسيح ساحرًا، بل كان نبيًّا ملهَمًا، رجلًا ثابت الإيمان بالحقّ، راسخ التمسّك بالمبادئ العظيمة، لا يخشى فيها لومة لائم ولا وشاية خائن ولا إجرام قاتل.
إنّ هذه الشعلة الحياتيّة التي حملها المسيح للناس رغم ظلم الأباطرة بإمبراطوريّاتهم وقدراتهم بالعلوم والمال والجبروت واضطهادهم للمسيحيّة، كلّهم ساروا إلى زوال أمّا المسيح الذي صُلب جسدًا ظلّ وجودًا روحيًّا ذا عطاء لا ينضب معينه وخلودًا أبديًّا يدرّ القيم والمثل ما دامت الأرض تدور وفي الحياة نور وظلام وفي العالم عدل وظلم. أليس ترامب “مسيحيًّا” بالكلام وبالصفة وبالدجل! ماذا فيه من المسيح والمسيحيّة؟! بل – واللهِ – لو عاش “ترامب” في زمن المسيح لكان الأكثر عتوًّا وتجبّرًا وإجرامًا من “هيرودوس” الرومانيّ أو أشدّ خيانة من “يهوذا” الإسخريوطيّ أو أحد الأغنياء الأسياد الفرّيسيّين الذين آمنوا أنّ ما لله لقيصر، وكانوا أكثر المطالبين والمتحمّسين لصلب السيّد الحقيقيّ العظيم، ولكان “ترامب” أوّل من صعد وحمل مطرقة ليدقّ المسامير في الطهارة المجسّمة.
هذا الرجل العظيم جاء يتحدّى الجبروت والطاغوت والظلم والقيصر وروما “الزانية” ليكون بثورته الأرضيّة المادّيّة مع الحزانى والغلابى والمقهورين والمظلومين ومع فقراء الأرض والجائعين الذين جعلهم يستشعرون الحريّة والكرامة والإنسانيّة التي حُرموا منها حينما كانوا عبيدًا مسحوقين للأسياد والأغنياء، لقد جعلهم المسيح بقوّة الإيمان بالحقّ الأرضيّ الحياتيّ إنسانيّين بالنظر إلى كلّ إنسان محتاج للرحمة كأخ قريب، ولقد علّمهم التخلّي عن الأنانيّة ونكران الذات من أجل الآخر الذي يجب أن نحبّ له ما نحبّه لأنفسنا، هذا القائد الذي تحدّى العروش والأباطرة وُلد في مذود للبهائم، أليس في ذلك عبرة لمسار نضاليّ سيكون أطول من زمنه الحقيقيّ وتمرّد ثوريّ دائم الأثر على الظلم والظلام في كلّ زمان ومكان!
فهل من الغريب أن يتبع مئات الملايين من البشر في هذه الأرض حتّى زمننا المعاصر هذا تعاليمه السامية ونهجه الذي يقودهم إلى المسرّة في الأرض وإلى المجد في العلا، وما زالوا يؤمنون بتعاليمه وينتظرون قيامته الكبرى كما انتفض من أكفانه وقبره بعد صلبه بثلاثة أيّام، ينتظرون قيامته كبشارة للخلاص المادّيّ والروحانيّ! وهو القائل: “من آمن بي ولو مات فسيحيا”.