جولة في وادي النسناس
تاريخ النشر: 03/06/20 | 10:18كيف يكون بوسعك إقناع ذاتك أنّ ما شاهدته لتوِّك ليس حلماً. وكيف يتسنّى لك أن تقنع الآخرين بأن الأسر محض مكان يتقاطع فيه الواقع بالخيال، وأنّ الحقيقة تختلط بالحلم وإنّ المدن التي نعشقها وتسكن كل خليّة فينا ليست بالضرورة هي ذاتها التي ترعرعنا في أزقّتها وأحيائها … وإنّ علاقتك بها أعمق من أن تحيى بها، أو يكون لك ذاكرة في كل زاوية فيها.
كلّ شيء يبدأ في حيفا وكرملها وكأنّها بوّابة الخليقة؛ حيفا التي يرضع كل فلسطيني اسمها مع حليب الأمهات، مع أخواتها يافا وعكا والرملة واللد…. حيفا الرسم الموازي للسحر …. للحلم … الشعر… تلك التي لم يتسنّى لك زيارتها إلّا أثناء الطفولة في رحلة مدرسيّة وما عدا ذلك يمنعك الغرباء من ملامستها أو حتى من مجرّد ذكر اسمها. فتلجأ للأدب والشعر. تطالع رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني فيبهرك الوصف الدقيق للمكان وتكاد تحفظ ما نظمه الشعراء عنها. درويش، سميح القاسم، راشد حسين وتوفيق زياد وآخرين وأخريات. يكاد كل فلسطيني يقول شعراً إن نطق اسم حيفا … أو كرملها … سيخلدها أبناؤها وعشاقها … وسيقولون فيها ما لم يقله الشعراء في مدنهم وأوطانهم … وسيكثّف محمود درويش هذا الحب لحيفا حين يقول:
“أحبُّ البحار التي سأحبُّ
أحبُّ الحقول التي سأحبُّ
ولكنّ قطرة ماءٍ بمنقارِ قبّرة في
حجارة حيفا
تعادلُ كل البحار”
وسيقول عنها الشاعر أحمد حسين:
“ولكنّ القصيدة لا ترى سببًا لتأتي
ما كنتُ أحزن كلّ هذا الحزنِ
لو أنّي سأحزن بعد موتي
ألِأنّ حيفا لم تعُد بلداً
أموتُ بدونِ ذاكرةٍ
ولا شيء أغادرهُ، كأنّي لا أغادر!
إنّي قُتلتُ
ولم أعد جسداً لغير سيوفِهم
(ما لي وأسبابِ الوفاة
لكلّ قبرٍ قصّة)
لكنّني زمنٌ وحادثةٌ وشاعرْ”
هكذا دأبنا على زيارة حيفا واستردادها ولو بالشعر. أمّا في عالم السجن فتغدو حيفا مجرّد حلم بفردوس مفقود إلى أن يهديك إيّاها صديق طيّب في المكان والزمان غير المتوقّعين. المكان عالم السجن المغلق والزمان: زمن الكورونا. ها هي حيفا إذن بألق اسمها .. ببحرها وساحلها وكرملها وشوارعها تبصرها بعين القلب قبل أن يتسنّى للحدقات أن تتأمّلها وتروي ظمأ يمتد لدهر طويل.
أواظب على مهاتفة صديقي حسن عبادي منذ نحو عام. وكلّما هاتفته كلّما صهل القلب عشقاً وحنيناً . فمجرد وجوده في حيفا يبعث على الارتياح. أمّا أيام الجمع فقد دأبت على مهاتفته في الصباح فأجده يتجوّل في وادي النسناس في قلب حيفا القديمة.
– صباح الخير
– صباح النور
– من المؤكد أنّك تتجول في وادي النسناس
– بالطبع
هكذا كنا نفتتح حديثنا صبيحة كل جمعة. روى لي حسن أنّها عادة دأب عليها منذ سنوات طويلة ولا يفوت عطلة الجمعة من دون أن يتمشّى في وادي النسناس وهناك يلتقي بأصدقائه ويتنسّم هواء حيفا وقهوتها في الصباح.
وذات مرة؛ أجده في ذات المكان، وإذا به يهتف فجأة: ما رأيك أن تتحدّث مع أم إلياس.
لم أكد أسأله من هي أم إلياس. حتى جاءني صوتها عبر الهاتف. أخذت تُمطرني بسيلٍ من كلمات الترحيب الدافئة والدعوات. حالما همس لها حسن أنّني أحدّثها من السجن، شرعت بحماسة تتمنّى لي من أعماقها بالفرج القريب وأن تراني في حيفا. أبادلها التمنّيات والعبارات الطيّبة. عاد الهاتف لحسن الذي أخذ يروي لي باقتضاب عن أم إلياس. فهي امرأة سبعينيّة؛ صاحبة بقالة عائليّة للخضار والفواكه في وادي النسناس منذ سنوات طويلة. هي “ابنة الواد” المقيمة فيه طوال عمرها وباتت شخصيّة راسخة في وادي النسناس ومعلَم من معالِمه. يعرفها الجميع وكان حسن قد اعتاد على شراء خضروات البيت وفاكهته من بقالتها طوال هذه السنوات. أهاتف حسن مراراً وفي كل مرّة يكاد اللسان يسأل عنها بعد أن غدت في مخيلتي معلماً ثابتاً في وادي النسناس. في إحدى المرات وجدت حسناً في البيت، ردّت عليّ يومها زوجته سميرة.
– اليوم الجمعة ومن الغريب أن حسناً ليس في وادي النسناس في هذا الوقت.
ضحكت سميرة وهتفت قائلة:
– هل عرّفك حسن بأم إلياس
– أجل، عرّفني بها
أثارت فضولي لمعرفة المزيد عن أم إلياس. أهاتفه مرّة أخرى فأجده في وادي النسناس. ومرّة أخرى أصغي لصوت أم إلياس التي رحّبت بي بحرارة وشرعت في إمطاري بالدعوات والتمنيات الطيبة ورؤيتي في حيفا. كان صوتها دافئاً وصادقاً. صوتاً يختزن اللهجة الفلسطينيّة القديمة كما تختزن الصدفة ذاكرة البحر.
أم إلياس الفلسطينيّة الحيفاويّة. يظلّ يشدّني شوق وحنين جارف لحيفا. لاسمها ألق يلمع في الفؤاد. أدمن على مهاتفة حسن. ذات ظهيرة وجدته في البيت، قال لي: سأريك البحر. ارتبك القلب من هول وقع جمال البحر. ارتجف الهاتف في يدي وأنا أرى الأزرق الممتد أمامي . بشساعته وأمواجه المتراقصة بهدوء. كيف لك أن تخفي الدهشة وأنت ترى بحر حيفا أمامك ولا تنظم شعراً على بحر الانبهار. ها هو البحر إذاً. حيفا التي لم يتسنّى لنا أن نراها عيانا ونطأ ترابها ونسبح في بحرها، ها نحن نراها عن بعد ومن قلب الأسر! لمع برأسي سريعاً مشهداً منذ القدم، تخيّلت السفن الكنعانيّة بأعلامها الأرجوانيّة وهي تجوب البحر، وسفن لغزاة قادمين من البعيد… وتراءت في مخيّلتي إليسار وهي تُبحر لتبني مدينة قرطاج على الساحل التونسي … إنّه بحر الذاكرة، بحر الحروب والغزوات … وبحر التاريخ. إنّه بحر حيفا.
رغبت أن يشاركني أحد من رفاقي بهجة مشاهدة البحر لئلا أُصاب بالدوار. أهتف لمنذر الذي لم يلبث أن جاء مسرعاً. راح يتأمل معي بحر حيفا بصمت. تتّسع مساحة الدهشة والسعادة والانبهار في القلب. أنعشنا المشهد لدقائق قليلة. وسيلهم منذر لنظم قصيدة في ذات الليلة عن البحر الذي أدهشه فكتب عنه يقول:
البحر أول الكلام
ونهاية الأفق..
… يا بحر يا ابن الله
يا معنى المعاني
وتحفة القوافي
يا بحر … يا رائحة الصبح
وضباب البدايات …
***
مشهد البحر أيقظ فيّ إحساس بالظمأ لحيفا وودت لو أتجول في شوارعها. ماذا لو تجوّلت عن بعد في وادي النسناس؟ ماذا لو رأيت أم إلياس؟ غير أنّي لم أشأ أن أثقل على حسن. تتواصل مهاتفاتنا ونتحادث في الأدب والثقافة، ثم تأتي مرحلة الكورونا. شهور لم يتسنّى لأحد الخروج من البيوت، إلى أن جاءت أخيراً الفرصة. لم يعد محظورًا على الناس التجوال . اقترحت على حسن:
– ماذا لو أخذتنا جولة في وادي النسناس لكي نزور أم إلياس؟
لم يمانع ورحّب بالفكرة. وهتف قائلاً:
– ستجد أم إلياس أمام بقالتها. تنقر الكوسا وتفرط أوراق الملوخيّة.
خُيّل إلي لحظتها أنّ أم إلياس مثل سائر الأمهات والجدات الفلسطينيات اللواتي أمضين أعمارهن في العمل ولا وقت فراغ لديهن وإن وجد الفراغ سيخترِعن أي عمل مهما كان.
أهاتف حسن ذات يوم. أجده في مكتبه:
– ما رأيك أن نقوم بهذه الجولة بعد الثانية والنصف ظهراً.
– لا بأس. سأجهّز نفسي.
مرّت الدقائق ثقيلة، حتى صار بوسعي مهاتفته في الموعد. يطالعني وجه حسن المبتسم على الدوام، وفي خلفيّة الصورة كان بمقدورك أن ترى المكان. شهق القلب سعادة. ها هي حيفا!!! ووادي النسناس تحديداً . البيوت، البقالات، المقاهي، المارة والسيارات. يواصل حسن سيره ويشرع في شرح معالم المكان وأتابع المشهد بشغف. وبعد لحظات سيأتي المشهد بصورة امرأة سبعينية ضاحكة الوجه تفترش مدخل بقالة للخضار، تنهمك في تفريط أوراق الملوخية ..
هتف حسن باحتفاء:
وهذه هي أم إلياس التي حدّثتك عنها.
يقترب المشهد. يكشف رويداً رويداً عن ملامح وجه لامرأة فلسطينية تبتسم من أعماقها، تُبهرني أم إلياس بطلّتها البهيّة. أُصغي لصوتها ولهجتها الحيفاوية وهي ترحّب بي: أهلا يا ابني .. أهلاً يا حبيبي .. الله يفرج عنك وعن جميع الأسرى إلي معك. إنشا لله بنشوفك عندنا في حيفا عن قريب.
أتبادل معها عبارات المجاملة المألوفة، وكان وجهي في زاوية الشاشة يتراقص فرحاً.
حسن يبتعد عن أم إلياس، يلج بقالة الخضار فتتراءى أمامي أصنافاً للخضار والفواكه. ثمّة أصناف لم أراها أو أتذوّقها منذ سنوات طويلة . يصل المشهد عند شاب داخل البقالة:
هذا إلياس.
يقف إلياس أمامي. يحادثني. ويتمنّى لي وللأسرى الحرية. يغادر حسن البقالة. يعود ثانية إلى أم إلياس. تواصل تنقيب أعواد الملوخية. ثم استعرضت أمامنا طبقاً من الكعك المنزلي. تتمنى أن نتذوّق مثل هذا الكعك في بيتها عن قريب.
نودّع أم إلياس. يغادرنا وجهها المبتسم والطافح بالبهجة . يقف حسن في قلب الشارع. نواصل حديثنا فيما عدسات عيوننا تحاول أن تختزن ما يمكنها من مشاهد قبل أن نغلق الشاشة.
انتهت الجولة. لُذت لصمتي. عشر دقائق لا غير في جولة أشبه بالحلم لحيفا ووادي النسناس. لم يسعنا الوقت بالمزيد. كانت مجرد لحظات مسروقة من بين فكّي الزمن. كنّا على موعد مع حيفا ووادي النسناس وحسن وأم إلياس. أحقًا كنّا في حيفا قبل لحظات ونحن الذين لم يتسنى لنا يوماً أن نراها؟ وإذا بالسجن الذي صُمِّم ليقصينا عن الحياة الطبيعية، هو ذاته من مكّننا من رؤية حيفا. لقد أهدانا السجن حيفا، وبعضاً من أهلها الطيّبون المنزرعون بكل شموخ وإصرار في بلدهم ولم يفت في عضدهم كل إجراءات القمع العنصرية.
أما أم إلياس فقد كانت تختصر المرأة الفلسطينية التي تمتد جذورها عميقاً في البلاد.
لم تكن أُم إلياس مجرّد امرأة تبيع الخضار في بقالة، كانت رمزاً يختصر التاريخ ويذكّر كل من يهمّه الأمر في أزمنة البلاد وتقلّباتها. أم إلياس ابنة حيفا. تقف في وادي النسناس مثل شجرة باسقة معمّرة وتُحادث أسيراً في سجون الاحتلال. وكانت ابتسامتها تنبئ بكل معاني الأنفة والعزّة والكبرياء … ويا أم إلياس. واصلي هذا الحضور. فوحده إصرارك وإصرار أهل حيفا وباقي أخواتها من مدن فلسطين ما يبعث على الأمل بأنّ لنا موعد مع الحريّة. وأنه لن يكون مصير الغرباء العابرون سوى الاندحار والرحيل كما رحل غيرهم.
لقد كانت هذه اللحظات التي التقينا من خلالها على هامش أثير الزمن من أسعد اللحظات في عمر أسير أنهكه القيد. وكان بمقدورنا استرداد حيفا ولو في ومضة حلم لمعت على حين غرّة في أعماقنا. ومن حقنا أن نقول أن حيفا هي من أجمل المدن على الإطلاق.
ويا صديقي حسن شكراً لك على هذه الجولة. لقد أهديتنا حيفا على طبق من سعادة وفرح. فمن منّا كان الأوفر حظاً في اقتناص الفرح: أنت أم أنا …. أم أُم إلياس … أم هي حيفا التي كان لها حظٌ أن تلتقي أبناءها وعشّاقها ولو للحظة في الأثير.
فهنيئاً لحيفا التي جمعتنا على عشقها. وهنيئاً لها ولوادي النسناس الذي تقف فيه أم إلياس كقلعة شامخة، تبتسم، تنجز أعمالها … ساهمة في البعيد، وكأنها تحدس في أعماقها صدى الأزمنة، وأنّها امتداد لامرأة كنعانية توقد تنّورها للخبز، وتجمع بقول الأرض، وترقب الأحبة العائدين من البحر.
ولا أملك إلا أن أقول لك ما قاله راشد حسين:
أحببت، فيك الكبرياء لأنها … مأخوذة من كبرياء الكرمل
دامت لنا حيفا وكرملها وساحلها. ودمت يا حسن ودامت أم إلياس ودام لنا أهل حيفا.
بقلم الاسير الفلسطيني الكاتب كميل ابو حنيش