زمن الكورونا وثقافة الإستكلاب (الجزء 1)
تاريخ النشر: 05/06/20 | 19:48نفض: رجاء بكريّة
“..كيف ستصفح عن فكرة الإستقواء عليك بعد مرور الجائحة لمجرّد أنّه حارس لم يميّز لون قِناعِكَ وانشغلَ بنبراتِ صوتِكَ الّتي لا تشبهُ إلّا ذاتكَ. وإذ اكتشف أنّك موشوم بماركة العربيّ الّذي لم يقنعوه في مدرسة التّدريب أن يحبّك ولو في إطار مهمّته المؤقّتة، عاداكَ. تفوح هذه الأيّام رائحة بشعة على أبواب المجمّعات التّجاريّة ودون استثناء كلّما تقدّمَتْ منها ساق عربيّ للتزوّد بحاجيّاته،،،،” رجاء.ب
شهور ثلاثة مرّت على انشغال العالم باستفحال جائحة الكورونا، لم يخطر خلالها ببالي ولو للحظة أن أشعِلَ قلمي بجمرِها أو رمادها لسبب بسيط يتعلّق بقناعتي الرّاسخة أن مسبّبات هذه الجائحة في معظمها سياسيّة بحتة. يعلو زئبق إصابتها وينخفض على وتر جلسات التّحقيق الخاصّة برئيس الحكومة، وفبركات أو تصريحات السيّد ترامب، إذا كيف تفسّرون الإرتفاع المدهش لنسبة المصابين خلال يوم واحد وتسلّقهِ برمشةِ إرادة حتّى 64 حالة، يوما على جلسة التّحقيق مع رئيس الحكومة؟ كلّما اكتسب حضورا انخفضت نسبة المصابين حدّ بلوغها الصّفر، وإذ يقلق تقلق معه الكورونا وتبدأ بالتسلّق!
لكنّ ما يشغلني فعلا، جائحة أخرى تقابلُ هذه الجائحة وتسير يدا بيد إلى جانبها على مقاس الأقليّة الفلسطينيّة في الدّاخل، حدّ أنّنا نشعر بالعجز إزاء تفاقمها هي جائحة العنصريّة. تتّسع رقعتها وتجهر برائحتها الدّيتوليّة حدّ أنّك تكره الدّيتول فجأة وتعاديهِ لأنّه أصبح سائلا لتعقيم الجمهور الفلسطيني من رأسه حتّى أخمص قدميه، وأعني الّذي يخرج للمجمّعات التّجاريّة خصوصا في المدن المختلطة للتزوّد بمستلزماته اليوميّة في زمن الكورونا سيّء الذّكر. تستفحل بشاعتها بمعزل عمّن تكون أنت رجل أم امرأة، طفل أم شاب. وتطيح بالكبير والصّغير دون أن يملك أحد ذريعة لمهاجمة أصحابها، فتعليمات الكورونا وقوانين الوقاية والتّعقيم أصبحت ذريعة للإمتناع عن اللّمس والدّفع، لكنّ الإسهام الأخير لأحد حرّاس الجائحة على مدخل مركز التسوّق “بانوراما”، حيفا)) شكّل فارقة في قصم القشّة لظهر البعير، بعيري ونفيري، وتعليمات سلامتهما معا. فمجرّد أن تتخيّل أنَ رجلا ما أو أمراة يقفان أمامك ليجسّا نبض جسدك بآلة غير معقّمة سثيرك بحجم مهاجمة فايروس لعين لا تعرفه هو أيضا لجسدك، ويهاجمانك كما يهاجمك هو حين يشاء لمجرّد أنّك بلا قناع واق سيسوّح دماغك وينزع اتّزان فكرك. وحين ستتلفّت وتجده أمامك مكشوف الأنف والفم ستتذكّر تعليمات الوقاية المُلزِمة وتصاب بحكّة مرض لا تعرف تماما من أين سينقضّ عليك، إنّك تستعيد فجأة عافية تقديراتك لمعادلة التّقارب الخاطئة بين البشر. سوف تستنفر دون تخطيط ولا تقدير، وربّما تستدعي الجيوش السّاكتة زمنا تحت جلدك في سباتها الطّويل. وحالة الإستنفار الّتي أحدّثكم عنها لخمتني بداية في وجهي ثمّ كبريائي. كيف ستصفح عن فكرة الإستقواء عليك بعد مرور الجائحة لمجرّد أنّه حارس لم يميّز لون قناعكَ وانشغلَ بنبراتِ صوتك الّتي لا تشبه إلّا ذاتك. وإذ اكتشف أنّك موشوم بماركة العربيّ الّذي لم يقنعوه في مدرسة التّدريب أن يحبّك ولو في إطار مهمّته المؤقّتة، عاداكَ؟ تفوح، هذه الأيّام، رائحة بشعة على أبواب المجمّعات التّجاريّة ودون استثناء كلّما تقدّمَتْ منها ساق عربيّ للتزوّد بحاجيّاته. لقد فهمنا جيّدا كم انمسخ وجه المكان الّذي كُنّا نعرفهُ أو أنّهُ تعرّى من أصباغهِ الكثيره. والحادثة عينها تضعني، للآن، في حالة استنفار بالغة لا يمكنني المرور عنها مرّ الكرام ولو كرمى لأب الجائحة ونسلها.
هكذا حدث
يوم عيد، عانيت من التهاب حاد في أذني اضطررت معه التوقّف قسرا أمام مركز التسوّق بانوراما للحصول على قطرة من الصّيدليّة. القناع الواقي نسيته في يدي لاضطرابي ووجعي. خطّطت أن أدخل حين اعترضني الحارس مجهّزا بقامة اليوكالبتوس، “لا يمكنك الدّخول” صرخ محذّرا. ترك الرّجل الّذي انشغل بفحص حرارته ودفعني بيديه الإثنتين. وكي أكون صادقة لم أستوعب ما حدث، لم أجترّ فكرة أن يدفعني حارس باب (خَلَق) من المفروض أنّه تلقّى دورة في آداب التّعامل مع الجمهور قبل أن يحتلّ مكانه أمام الباب، لمجرّد أنّي لم أضع قناعا واقيا. حدّقت فيه للحظة ونفضت يديّ في الهواء منعا لالتقاط الفايروس الّذي يتجوّل في كلامه ووجهه. صوته العدائيّ جعلني أشكّ بهويّة المكان الّذي أقصده مرارا للتزوّد بحاجيّاتي. لم يتوقّف، تابع صراخه وسط دهشتي وغضبي، “لا يمكنك الدّخول!” ووضع آلتهُ المضحكة على جبهتي دون أن يعقّمها ليقيس حرارتي. “نعم حرارتي ارتفعت يا هذا لانفعالي الشّديد من قلّة أصلك” كان الحلّ لتماديه أن أصرخ به وأبعده عن طريقي بعد أن ثبّتُ القناع على وجهي. لكنّ الفيلم لم ينته، بدأ بالسّباب والقذع. نثر كلاما تدحرجت معه ألوف الفايروسات الحيّة في شوارع الكرمل دفعة واحدة. ساءلت قلبي بعصبيّة حدّ اختلال توازني، “ما الّذي يستحقّ كلّ هذا الصّراخ والسّباب؟” كان قد ميّز عروبتي ووفق ذلك برمج ردود فعله. تركتُ الصّيدليّة وبحثت عن رئيسه. سألته: لماذا لا تضع حارسا على حارسك المتخلّف أخلاقيّا في مدخل المجمّع؟ لم أفهم، قال. “حارسكَ المصون، يا سيّدي، يطيح بالبشر، يدفع بيديهِ وقدميهِ، يشتم ويسبّ ويبصق، لم لا تخبروننا أنّ كلابا جارحة تحرس مداخل أسواقكم بدل البشر؟ بهت لونه، “ماذا حدث؟”. “ما ستراه الآن في الكاميرا الّتي لا تتابعها أمامك”، أجبت متهدّجة الأنفاس، وأضفت “إسمع، إذا لم تعالج الأمر خلال دقائق سترى أسماءكم في كلّ مكان، وقبل أن أخرج ألجم كلبك الّذي يتربّص بخطواتي” خرجتُ فوجدت الكلب فالتا وبدون قناع واق. سألني، أأنا زبالة؟ ابتسمت، “ليتك تصير بمقامها!” حينذاك عفّر بصاقه وسُبابه الواجهة الزّجاجية وواجهات الدّاخلين والخارجين إلى مركز التسوّق, بصق، شتم، هدّد والتقط صورة لحضرتي داخل السيّارة. فتحت الشبّاك وهمست له، “..أنت أحمق تعرف ذلك، وستدفع ثمن حمقك هذا”، وذهبت. ارتعدتُ من الغضب، وعفّرت الشّارع بسرعتي ووقودي، فمديره لم يلجمه وأنا أخرج وصياحه وشتمه لأصولي أصبح ثقافة تستشري منذ زمن بعيد في دمه ودماء قومه كالماء منذ اختراع قانون القوميّة وسنّهِ بحدّ السّكين على شرعيّة وجودنا على أرضنا التّاريخيّة. نحن أصحاب المكان بتنا ضيوفا وافدين وغرباء على مدن مطوبّة لا تزال بأسمائها العربيّة، وحيفا ليست آخرها
ثقافة الإستكلاب
نادرا ما يحدث، ولكنّها بفنيّة عالية انشقّت عن التّسمية الأم ونزلت من عمق المرايا المسمومة الّتي يميّزنا رئيس الحكومة من خلالها. رافد من روافد “قانون القوميّة” سيّئ الذّكر. استصدر الرّجلُ بركاته، هو وحزبه، من قاعِ الرّفضِ والإلغاء، إذلالا لوجودنا ومسحا لحقوقنا وخرقا لتعريفاتنا القوميّة والمذهبيّة على حدّ سواء. هذا القانون الّذي يعرّب مواطني الدّولة، وأعني يفرزهم وفق أشكالهم، ونبرات أصواتهم، وأسلوب نطقهم للحروف العبريّة. هكذا وبهذه الطّريقة تماما يصطاد حرّاس مداخل المجمّعات التّجاريّة والمؤسّسات بأشكالها وانتماءاتها المرتادين العرب ويمثّلون بقوميّتهم ودمهم غير النقيّ. يشتمونهم، يدفعونهم (بجحاشة) نادرة التّصريف مع أفعال النّبذ والهجاء. يلعنون ويبصقون، وأحيانا يضربونهم. وفي أحايين أخرى يقتلونهم كما حدث للشّاب محمود يونس من عارة عن بعد صفر، وإياد الحلّاق عن بعد حاوية زبالة، فأوقعوه صريعا لمجرّد أنّه لم يضع قناعا على وجهه!
إنّ أسوأ ما يجري هذه الأيّام أن تأخذ المدارس، الّتي تُخرِّج أفواج الحرّاس الفعليّين لتجاوزات الكورونا وتلصقهم على مداخل المؤسّسات والمجمّعات التّجارية تحديدا، القانون لأيديها وتستغلّ الجائحة البائسة ذريعة كي تشتغل فينا بعنصريّة ونقمة. بقلّة أخلاق وغياب لمعايير الثّقافة المجتمعيّة الّتي تفخر بها الدّولة. لقد هدمت منظومة الحراسة كلّ ما عرفناه حتّى الآن عن أسطورة، ” دولة لكلّ مواطنيها” الكاذبة ورئيس الحكومة السّابق الحالي بنيامين نتنياهو هو عنوان هذا التّفسّخ المخجل لشرائح المجتمعات في المدن المختلطة خصوصا. إذ تمّ اقتطاع شريحة العرب في المدن المختلطة خصوصا عبر قانونهِ العنصري، “قانون القوميّة” وجعلهم نهبا لأمزجة حرّاس المداخل والمفترقات، ورغبات الفئة العنصريّة الّتي لا تكف عن المناداة بموت العرب كي تخلو لهم ساحة البشاعة. هو يتحمّل مسؤوليّة زجّ الأخلاق في خندق العتمة والظّلاميّة حين خرج في دعايتهِ الإنتخابيّة كي يحرّض المنتخبين على الخروج والإقتراع لأنّ “العرب يتدفّقون”، كأنّ عصابة من ذوي السّوابق تجتاح الشّوارع والطّرقات ومراكز الإقتراع. لهذا الحدّ كان بشعا أن تصغي إليه وهو يهجّىء تحريضه بفنيّة وتمرّس. هو هو من أعلن في حواره عبر منصّة إعلاميّة عربيّة أنّ نوّاب المشتركة “ولا إشي” وذوّت المفهوم الحداثي السباّق عن دونيّة العرب في دولة استصدرت قرارا برلمانيّا منذ بدء احتلالها أنّ الدّولة ستكون “لكلّ مواطنيها”. هذا الرّجل الّذي يخاطر بأمن اليهود أوّلا لا يهمّه أن يرمي مواطنيه أيضا للذّئاب حين تتزاحم فيهِ وعليهِ المصائب.
لقد داهمني شعور بالخزي والألم حين هاجمني حارسا مدرّبا سليل مدرسة الحراسة
ذائعة الصّيت هذه الأيّام لمجرّد أنّ القناع المزيّف ذائع التّفاهة هو الآخر كان بيديّ ونسيت بفعل عارض صحيّ أن أغمّم به أنفي. الشّتائم الّتي سمعتها التّقذيع، شراسة الحوار وبشاعة الصّوت شطبت صفحي المحتمل عن السّقطات العابرة، كما أنستني المرأة الّتي تسدّد أهدافا بوجه كلّ ذبابة تؤز ّحول وجهها. ببساطة رسمت لي صورة معلّقة الآن على مدخل كلّ مجمّع تجاريّ بالصّوت والصّورة لا تعترف بغير قناعاتها. تزيّف صور البشر العابرين لأنّ كلّ ما يحدث خرّيج مدارس دخيلة على الحقائق وبامتياز..
حيفا، نيسان 020