“رواية السيرة” باعتبارها أدبا عالميا عبده حقي
تاريخ النشر: 14/06/20 | 9:30“رواية السيرة” Biofiction بداية هي نوع أدبي غير أنها تنطلق من سيرة حقيقية. وهي ترتكز على ما أسماه كولم توبين مؤخرًا ب”الخيال المتأصل” والذي يمنح السرد الروائي مصداقية غامضة تلامس في بعض الأحيان ازدواجية الواقع والخيال . وبالتالي فروايات السيرة تقع على مفترق طرق العالم الحقيقي والعوالم المحتملة. ومن المفارقات أنها تجسد في كثير من الأحيان في نفس الوقت الحقيقي والممكن. لكن ما غاياتها باعتبارها ناقلات لإنتاج عوالم ووسيطا بين تجارب الآخر الثقافي المتصارع أحيانًا؟
لقد ابتكر المؤلفون الرواد مثل روبرت جريفز ، وتوماس مان ، وأرنا بونتمبس ، وزورا نيل هورستون ، ومارجريت يورسنار ، وويليام سترون هذا الشكل الأدبي خلال القرن العشرين. وبالتالي فقد صارت رواية السيرة معروفًة بشكل أفضل منذ أواخر الثمانينيات فضلا عن إصدارات أخرى مشهورة لمؤلفين مثل جور فيدال وغابرييل غارسيا ماركيز ومارغريت أتوود و بيتير غيري و وهيلاري مونتيل وبيير ميشون على سبيل المثال لا الحصر.
هل هذه الطفرة في روايات السيرة التي تعيد إحياء الماضي الحقيقي وتعرضه في رؤية معاصرة هي مجرد إشارة إلى أننا نسعى إلى تطوير صورة متماسكة عن عوالم القرون الماضية أم أنها بالأحرى محاولة لإعطاء شكل ما جديد للرؤية أو التواجد في الحاضر؟ أم أنها تعزز مفاهيم جديدة وتعلمنا دروسًا جديدة في المستقبل؟ وبالنظر إلى الاهتمام الأكاديمي المتزايد ب”رواية السيرة” ( نلاحظ على سبيل المثال أنه تم نشر خمس قضايا موضوعاتية مكرسة لروايات السيرة منذ عام 2016) وإن المرحلة التالية ستتمثل منطقيا في استمرار الحوار العالمي حول هذا الموضوع واستكشاف جوانب هذا الجنس السردي في قارات مختلفة وبلغات مختلفة.
لقد استندنا إلى تصور ديفيد دامروش للأدب العالمي كشكل للقراءة وليس كمجموعة مختارة من الأعمال الملائمة وأيضًا مع مراعاة تحذيرات إميلي أبتر ضد النسيان لعدم قابلية العديد من المفاهيم والتجارب لترجمة مشروعنا الذي يندرج ضمن امتدادات منهج توماس أو.بيبي باستعمال خصوصيته وتقاطعاته مع ما هو عالمي كنقطة انطلاق لتحديد الاتجاهات والطفرات الإنتاجية في الأدب العالمي.
وباعتبارنا مخلصًين للتراث الإنساني “بيلدانغ” Bildung الذي أسس ما يسمى ب”ويلت ليتيراتور” Weltliteratur منذ بداياته (مثلما تم التأكيد على ذلك من خلال أعمال ثيو داهن ، ديفيد دامروش ، جلال قادر ، أوتمار إيت ، والعديد من الآخرين) فإن مقاربتنا تهدف إلى فهم أفضل لطريقة كل سرد ذاتي يعلمنا ويوضح عالمنا المشترك وقيمه. نحن مهتمون أيضًا بعملية ترجمة ما لا يمكن ترجمته من خلال استخدام السرد خاصة في حالة نوع السرد المستوحى من التفاصيل التاريخية بهدف إعادة تشكيل الماضي المألوف وغير المألوف إلى الروايات التي يتردد صداها في الزمن المعاصر.
لذلك اقترحنا التمحيص في هذه القدرة التأسيسية لرواية السيرة فيما يتعلق بالرؤية المعاصرة للعالم من عدة زوايا نظر مكملة ومنها :
الأولى وربما هي الأكثر أهمية أن هذه التصورات تتطرق إلى تحديات التمثيل بين الثقافات: إن كاتبا من أي بلد وبأية لغة قد يصبح موضوعًا لروايات السيرة في لغة أخرى مثل “ببغاء فلوبير” التي كتبها جوليان بارنس أو “سيد بيطرسبرغ” التي كتبها د .م كوتز أو “الأيام الثلاثة الأخيرة لفرناندو بيساوا” التي كتبها أنطونيو طابوتشي أو “الأيام الأخيرة” لستيفان زويج التي كتبها لوران سيكسيك أو “جيرترود” التي كتبها الشاعر والروائي المغربي حسن نجمي إلخ.
أما المظهر الثاني للصورة التأسيسية المنبثقة من الشخصيات العالمية التي شكلت خريطة العالم كما نعرفه من خلال مغامراتهم في جميع أنحاء العالم – المستكشفين والمترجمين .. إلخ. – كأبطال لروايات السيرة مثل “الإسكندر” التي كتبها كلاوس مان أو “مساحو العالم” التي كتبها دانييل كيلمان أو مغامر الحظ ..إلخ
بعد ذلك خططنا للتركيز على الأصول غير المتجانسة لرواية السيرة . يمكن العثور على هذه الجذور في الرواية الطليعية على غرار موضوعات الحرب وكذلك في أعمال مثل” حيوات متخيلة” للمؤلف مارسيل شوب (1896) وأورلاندو لفرجينيا وولف (1928) و ” سعي إبن رشد” للكاتب خورخي بورخيس (1947) أو في الاستكشافات السابقة لأدوار الهوية وإعادة التدوير الثقافي والتي تشهد على تنوع تأثيرات الثقافات التي كانت في طليعة ظهور هذا الجنس السردي .إن النبش في الإرث الحداثي الذي كرسته رواية السيرة في الحداثة وما بعدها يمكن أن يسلط الضوء على طبيعة تهجينها وانفتاحها على العالم عبر التوافقات العالمية التي تجد فيها منبعها.
لقد تطورت رواية السيرة بشكل خاص خلال ثلاثينيات القرن العشرين ولكنها ظهرت كجنس سردي مستقل بفضل المحفز الذي شكلته مرحلة ما بعد الحداثة. وقد اكتسبت اعترافًا أوسع بفضل الصرامة النظرية لما بعد الحداثة. وبالتالي فإنها تتجاوز حاليًا حدود منطق ما بعد الحداثة. فقد تأثرت إبداعاتها الرائدة وأدوارها مع الحدود بين الحقيقة والخيال وإعادة تشكيلها للتاريخ إلى حد كبير بفكر ما بعد الحداثة ، لكنها بدأت أيضًا في الكشف عن آليات جديدة للرموز التي تنحرف عن هذا النموذج وتعيد اكتشاف الحساسيات الحداثية أو الفيكتورية (نسبة لحقبة فيكتوريا ملكة ابريطانيا العظمى) . نفترض أن استكشاف العلاقات المعقدة لرواية السيرة مع ما بعد الحداثة سوف يسلط الضوء على مرونة هذا النوع بمرور الوقت ويكشف عن قدرته على الحوار في العصور الأدبية المختلفة.
لقد أسهمت “رواية السيرة” إلى جانب أفلام السيرة على سد الفجوة بين التقاليد الأدبية والثقافة الشعبية وبالتالي دمج وجوه شخصيات عالمية في الوعي الثقافي لدى الأجيال الجديدة. وتشكل مشاركة الروايات الحديثة وأفلام السيرة في عودة وإعادة تقييم الأيقونات الثقافية العالمية جانبًا آخر من التساؤلات التي نقترحها.
تساهم روايات السيرة في الأدب العالمي من خلال معالجتها الدقيقة والواقعية والشخصية جدا للأساطير الوطنية والسياسية. كما أنها تخلق ضميرًا متعاطفًا ومتفردا فيما يتعلق بالتجارب الفردية المتعلقة بالحرب أو الصدمة التاريخية أو الثورات الاجتماعية مثل رواية “الجنود” للكاتب سالاميس أو “ضيف العشاء” بقلم غابرييلا يبارا أو “بارنيل” بقلم براين ج. كريجان) لكنها تسلط الضوء أيضًا على دور اللايقين والاستقلالية والمسؤولية في تشكيل “الحقائق” التاريخية. يمكن أن يتخذ التموقع السياسي لرواية السيرة أيضًا شكل البحث عن الريادة النسوية (على سبيل المثال في رواية “أرتيميسيا” التي كتبتها أنا بانتي أو الغوص في حياة الشخصيات النسائية الغامضة على غرار رواية “غرفة أخرى” بقلم أليسيا جيمينيز بارتليت . وجلها تحاول المعالجة المباشرة لمواضيع ما بعد الاستعمار التي تضع أيضًا رواية السيرة في حوار عالمي حول كيفية التغلب على العجز الجنسي.
إذا كانت رواية السيرة تشكل رؤية للعالم فليس فقط من خلال قدرتها على تجاوز الحدود الثقافية ولكن أيضًا بفضل الكشف عن التطورات الموازية عبر مساحات شاسعة. وتزامنا مع الروابط عبر الوطنية التي هي جزء من ديناميكيات رواية السيرة ندعو المساهمين لاستكشاف أفق تنوع هذا الجنس الأدبي وهو التنوع الذي يقودنا إلى ما هو أبعد من الغرب على سبيل المثال في الروايات التي تعيد إحياء النماذج الثقافية المؤسسة على رغبة عالمية مثل الإمبراطورة الأخيرة والإمبراطورة أوركيد التي كتبها أنشي مين أو رواية سمرقند التي كتبها أمين معلوف أو “العلامة” التي كتبها الروائي المغربي سالم حميش.
أخيرًا قد تسهم رواية السيرة في المستقبل في ولادة ديناميكية عالمية على المستوى النظري أيضًا حيث نرى فيها كذلك تجاوزًا للحواجز اللغوية. كما يظهر تاريخ مصطلح “رواية السيرة ” Biofiction (الذي اخترعه الناقد الفرنسي آلان بوزين في عام 1990 ووظفه أيضًا الكاتب ذو النزعة الأنجلوفونية النمساوي الأصل والألماني الهوية مارتن ميدديك وفيرنر هوبر في عام 1999 وتبقى العديد من الأعمال الأكاديمية باللغة الفرنسية حتى الآن غير معروفة في النظريات الأنجلوفونية مؤخرًا والعكس صحيح.