العنف باق في مجتمعاتنا
تاريخ النشر: 19/06/20 | 8:51اجتمع يوم الأحد الفائت وفد من ممثلي المواطنين العرب مع المستشار القضائي لحكومة اسرائيل، أفيحاي مندلبليت، وذلك لبحث عدة قضايا تتعلق بتقصير الشرطة الاسرائيلية ونيابات الدولة في معالجة ومواجهة ظواهر العنف وحالات القتل المتزايدة في القرى والمدن العربية.
بادر إلى الاجتماع رئيس اللجنة البرلمانية الخاصة لمكافحة العنف في المجتمع العربي النائب منصور عباس، وشارك معه رئيس القائمة المشتركة النائب ايمن عودة، والنائب اسامه السعدي، وثلة من رؤساء البلديات ومجالس القرى العربية، والشيخ كامل ريان رئيس “مركز أمان”.
وحث المشاركون المستشار القضائي وطالبوه بأن يدفع الحكومة باتجاه اقرار خطة عمل واضحة وشاملة وملزمة، على أن يشارك في وضعها نواب من المشتركة ورؤساء مجالس محلية وقيادات أخرى؛ كما واتفقوا على ضرورة عقد جلسات عمل مستقبلية مع ممثلين عن النيابة العامة للدولة وعن وزارة الامن الداخلي ومع باقي الجهات الحكومية التي لها علاقة بهذه القضية الحارقة وعليها واجب مواجهة الجريمة على تنوّع مصادرها.
قد لا يراهن الكثيرون على فائدة هذا الاجتماع وبعضهم سيتفّهونه وسينتقدون من بادر اليه ومن شاركوا فيه؛ لكنني، على عكسهم، أراه، رغم مجيئه متأخرًا، خطوة ايجابية في الاتجاه الصحيح وبادرة لنهج عمل سليم؛ فلطالما ناديت منذ سنوات طويلة بضرورة التواصل منهجيًا مع جميع العناوين الحكومية والقضائية، لا سيما مع من يرسم منهم وينفذ الخطط والسياسات تجاه المواطنين العرب وتجاه مؤسساتهم الرسمية والمدنية، مثل المستشار القضائي ووزير الامن الداخلي ورئيس المحكمة العليا وغيرهم من أصحاب هذه المواقع والتأثير .
ليس أمامنا، كمواطنين في اسرائيل، مفرّ؛ فنضالنا من اجل حقوقنا المدنية، بكل الوسائل المتاحة ومن على المنابر وفي جميع الميادين، فرض وواجب؛ بينما تقع، بالتوازي، على عاتق القيادات الجادة، مهمة حماية الناس والذود عن سلامتهم الفردية وضمان الأمان في بلداتهم. ولا يكفي أن نلغي هذه الفرص ونرفض تجريبها، مرارًا، فقط بسبب قناعتنا بان جميع هذه المؤسسات الاسرائيلية عنصرية بشهادات وبامتياز، ولن تسعفنا أو تتعاطى مع مشاكلنا بشكل ايجابي وحقيقي.
لا للشرطة، لا للعنف، فما الحل؟
لا يوجد حل لقضية العنف وحالات القتل في واقعنا الحالي؛ فأنا لا أرى من وكيف سيفعل ذلك ! ولذا سننام وسنصحو في حضن حالة “اجتماعية” مستديمة، كالتعلم والزواج أو كالترمل والمرض، وسيبقى القتل رفيق شوارعنا والعنف شرطي مدارسنا ومجالسنا وفراشنا، إلى أن نتغير نحن وتتغير الأحوال.
قد ينتقد البعض هذا التشاؤم وهذا اليأس، لكنني مقتنع باننا اذا لم نقر بعجز مجتمعنا وقصور مفاعيله السياسية والاجتماعية والدينية والتربوية، وفشلهم في مواجهة هذه الآفة، ستستمر ارواحنا بالتنفس في بقع الضوء الشاحبة، وسيُحكم من يسمون، مجازًا وخطأ، بخفافيش الظلام قبضاتهم على حناجرنا المرتجفة ويمضون في تسيّدهم على حاراتنا الخائفة.
لا نقاش حول واجب الدولة ومؤسساتها في محاربة الجريمة المستفحلة بيننا، ولا حول دورها في معاقبة الجناة وضرورة ردعهم، ومسؤوليتها عن معالجة مسببات هذه الظاهرة الخطيرة، ولا جدال انها لم تفعل ذلك عن قصد وتنفيذًا لسياسات عنصرية تستهدف حصانة مجتمعنا وأمن مواطنيه واستقرارهم السلمي؛ بيد أن ذلك، رغم صحته، لا يبرر فشلنا الداخلي في مواجهة ظواهر العنف كما تتداعى في عدة اشكال وفي مواقع تخضع لسيطرتنا بشكل مطلق؛ ولا يبرر ايضًا فشلنا في ايقاف نزيف الدم وتحجيم عدد عمليات القتل التي تحصل مثلًا على خلفية ما يسمى بشرف العائلة، أو بسبب عادات الثأر القبلي البغيضة وما شابهها.
ستبقى الحكومة الاسرائيلية المسؤولة الأولى والأخيرة، عن كل الجرائم عندنا وخاصة عما تقترفه عصابات الجريمة المنظمة؛ ولكن سيبقى، في نفس الوقت، التساؤل حول دور مؤسساتنا المحلية، مثل المجالس والبلديات، ضروريًا ومبررًا؛ والتساؤل حول مساهمة ودور المؤسسة التربوية موجعًا؛ والتساؤل حول تأثير المؤسسة الدينية مقلقًا ومستوجبًا. فاذا فتشنا عن دور هذه المؤسسات سنجده، في أحسن الأحوال، هامشيًا، وفي بعضها سنجد انها تساعد، اما بصمتها واما بفعلها في ترسيخ ظواهر العنف وفي استفحالها.
لا يكفي مقال لتغطية هذه المسائل بكل تفرعاتها؛ وعليه فسأتناول هنا قضية قتل النساء، على أن نعالج غيرها في مقالات قادمة.
معهن الحياة اشرف
سيستمر قتل النساء ما دامت معظم عقول الرجال مريضة ومعظم عقول النساء أسيرة؛ فهنيئًا لك يا نهر الشرف الزائف. ها هم الحفّارون يهيّئون لك جداول الدم وطين الهوية البائسة.. وهنيئًا لك يا أيها الموت العاهر، فلك ما لنا ولك الكتائب والمجاهدون: بناة العزة/الوهم وحماة الشرف المخبأ في شقوق أكعابهم/حوافرهم، أسياد التخلف والرياء، كهنة بابل والربع الخالي. أضرب أيها السياف الشرقي حتى البطر أو، يا ليت، حتى التعب!
عن أي شرف تتحدثون ايها القتلة ؟ فكلما ذبحتم زهرة وبقر “مأمور العفة” بطنها، لأنها رفضت تعاليم القبيلة وما عادت تحتمل خرافات الهزيمة، أبكي على ماضٍ مات في الرواية لكنه بقي حيّا في خيام صدوركم؛ وأندب حاضرًا يحمي ذكورًا دسّوا عقولهم بين أرجلهم فسكرت رجولتهم على حافة شواربهم المنتصبة، وصارت اراقة دماء الحرائر عندهم أرخص من “عفطة عنز”.
لن نعفي شرطة اسرائيل من مسؤولياتها عن الجرائم بحق النساء، لكننا نعرف أن هذه الفظائع المقترفة في بلداتنا، بمعظمها، هي وليدة ثقافة مجتمعاتنا وميراثها من زمن “هند وليلى”. فلا يكفي لوأدها تنديد الرجال بها ولا صراخ بعض النساء ضدها ولا شجب المؤسسات الخجول. علينا أن نقف على مسبباتها الحقيقية ونكشف بجرأة عن مصادرها ومن يغذيها أو يتواطأ من اجل تخثيرها؛ فاذا أردنا أن نصير شعبًا يمقت القتل الرخيص في المفارق، لنبدأ بتعليم أولادنا كيف عليهم أن يحموا “الغانية والزانية من الضرب المبرح في الشوارع” أو كيف “يؤذن للمغني أن يرتل آية من {سورة الرحمن} في حفل الزواج المختلط”
فمن منا لا يعرف أن القصة تبدأ في البيوت وحين تفرح القبيلة بمولودها الذكر وتندب حظ الأنثيين؟ ومن منكم لم يشارك باشعال شمعة الاحتفاء بذكاء طفله وهو يستعرض عاريًا وبحفاوة، نزولًا عند الحاح العائلة، “رجولته الصغيرة” لأنها ضمانة مستقبلهم والشهادة على نقاء الجنس؟
ومن منا، بالمقابل، ينسى زخات الارشاد والتنبيه والتعنيفات إذا ما قفزت بنية، في عمر حبة الطل، وبان، لا سمح الله، طرف فخذها، أو إذا تحركت ولم تحافظ كالكبيرات العفيفات على التصاق الساق بالساق؟ أتتذكرون كيف أصبتم بمشاعر الحرج والعوج وكأن هذه الطفلة المسكينة الغضة كانت على حافة ارتكاب جريمة أو رذيلة.
انه مجتمع مريض حتى التعب، ولا يعرف كباره معنى البراءة ولا الخير في تدليل الطفولة الانثى، فكيف إذا تقمرت خدودهن أو إذا تكعّبت صدورهن أو علت النهود؟
المشكلة، بنظري، ليست فقط في ذكورية هذا المجتمع، بل بكون عقول أكثرية ذكوره سقيمة بلوثة تدعهم يحسبون ان الاناث عالات على الحياة وانهن مناجم للقلق، فيجب التخلص منهن اما بالتزويج وإما بالخنجر.
فمهما كابرنا وانكرنا، تبقى الحقيقة مدفونة في بطون المعاجم الضاجة بالمعاني التي تقرّع المرأة وتعيبها؛ فهي عورة وناقصة العقل حتى لو أبلت في دفاعها عن الوطن وذلك لأن الحسناوات، عند العرب، لا يرفعن أحجبتهن إلا إذا غابت الفحول.
ستبقى اسرائيل ذريعة سهلة ومشجباً يعلق عليه مجتمع عنين متخلف قصوره وعجزه ورياءه، وستبقى السكاكين مخبأة في صدور ابناء القبيلة وفي دفاتر المدرسة وفي مواعظ المساجد وفي تعاليم الكنيسة.
الداء داؤنا، وهو عربي وشرقي أصيل، حتى اذا أسميناه بخبث وحشي، الشرف؛ وسيبقى وضعنا بائسًا إلى أن يصير شرفنا معلقًا على “كافات” كرامتنا الانسانية وعند اقدام حرّيتنا، وليس، كما يعتبره العرب اليوم، جرحًا في خواصر الحرائر، أو سرًا دفينًا بين سيقانهن.
يتبع ..
جواد بولس