العظماء 8 مارتن لوثر كينغ
تاريخ النشر: 21/06/20 | 7:52بقلم: علي هيبي
توطئة:
المظاهرات الضخمة والصاخبة التي عمّت في كبرى المدن الأميركيّة مؤخّرًا، وعبّرت عن الغضب الأسود الساطع والناصع البياض ضدّ العقليّة الأميركيّة العنصريّة البيضاء، واحتجاجًا على الساديّة في قتل الشابّ الأسود “جورج فلويد” والتي ما زالت تسيطر على التوجّهات العنصريّة والاستكباريّة في الأوساط الرسميّة الحاكمة وأذرعتها الأمنيّة، وما زالت تستسهل الضغط على الزناد والقتل، عندما يكون المشتبه به لمجرّد الاشتباه من المواطنين السود أو من أيّ أصول أو أقلّيّات أخرى في الولايات المتّحدة الأميركيّة، “أشهر ديمقراطيّة وزعيمة العالم الحرّ” كما يظنّ المنتفعون من “ديمقراطيّتها وزعامتها وحرّيّتها”، وعندما يكون المشتبه به لمجرّد الاشتباه عربيًّا فلسطينيًّا في إسرائيل “الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط” التي ما زالت تملك “احتلالًا إنسانيًّا” كما يرى اليمين العنصريّ المتطرّف الحاكم في إسرائيل.
هذه المظاهرات كشفت زيف الديمقراطيّة المشوّهة في كلا الدولتيْن المتحالفتيْن “على المرّة” والشرّ فقط، لأنّ تحالفهما يخلو من أيّ حلاوة وخير، وقشعت ضباب التضليل الإعلاميّ والتنكيل الفعليّ الذي تمارسه الدولتان بحقّ مواطنيهما وبحقّ المستضعفين والفقراء والملوّنين والشعوب، وبحقّ الحريّة والمساواة والعدالة والكرامة وكلّ القيم الإنسانيّة التي آمن بها العظماء الأفاضل فاغتيلوا بيد الأذلّاء الأراذل، وجعلتني تلك المظاهرات أقدّم الكلام عن المناضل الأسود “مارتن لوثر كينغ” أحد أولئك العظماء والذي شهدت الولايات المتّحدة بعد اغتياله في سنّ التاسعة والثلاثين مظاهرات هائلة شملت حوالي 100 مدينة كبرى في سائر أنحاء الولايات المتّحدة وولاياتها، وذكّرتني بتوهّج بشرته السوداء وقوله الناصع: “بعض الأشخاص سينبذونك لأنّ نورك أشدّ سطوعًا ممّا يتحمّلون، هكذا هي الدنيا، فلتواصل إشعاعك!”.
ليس المطلوب من هذه المظاهرات الحاليّة أن يكون هدفها إنزال “ترامب” وحجره في جحر تحت الأرض، بل المطلوب دفن العقليّة الرأسماليّة والعنصريّة الأميركيّة التي يمثّلها هذا المتوحّش والعقليّة العنصريّة الصهيونيّة في إسرائيل التي يمثّلها العنصريّ الفاسد “نتنياهو” في قبر واحد وفي سابع أرض، لا تقوم لهما قائمة من بعد، كي يتحقّق الحلم الذي حمل رؤاه “مارتن لوثر كينغ” طوال مسيرته النضاليّة: “لديّ حُلم بأنّه في يوم ما سيعيش أطفالي الأربعة في شعب لا يكون الحكم فيه على الناس حسب ألوان جلودهم بل بما تنطوي عليه أخلاقهم”، والحلم الذي كان من حقّ ياسر عرفات أن يراه: “أحلم بدولة فلسطينيّة، إنّ من حقّي أن أحلم”.
إنّ بعض الظنّ إثم:
ثمّة من يظنّ أنّ وصول “براك أوباما” الأسود ذي الأصول الأفريقيّة إلى كرسيّ الرئاسة الأميركيّة انتصارًا لقيم العدالة وإنجازًا للمساواة بين المواطنين الأميركيّين التي حمل لواءها “مارتن لوثر كينغ”، ليس هذا الأمر حقيقة صحيحة بل هو تزوير للحقيقة، وليس من علاقة بين الاثنيْن إلّا الأصل الأفريقيّ واللون، فَ “براك أوباما” ابن المؤسّسة الحاكمة وما هو إلّا “برغي” فيها وهو ربيب الحزب الديمقراطيّ الحاكم لأعوام طويلة والممثّل لآلة السياسة الأميركيّة التي ارتكبت الجرائم بحقّ الشعوب، وهو لا يختلف كثيرًا من حيث التوجّه والسياسة عن الحزب الجمهوريّ الذي أوصل قبل “أوباما” الرئيس “جورج بوش الابن” وبعد “أوباما” الرئيس الحاليّ “دونالد ترامب” الشيطانيّ المتوحّش، وقد هاجم “مارتن لوثر كينغ” الحزبيْن سنة 1957 من جانب النصب التذكاريّ للرئيس الأميركيّ “محرّر العبيد” ومنصف الجنوب الأميركيّ الفقير “إبراهام لنكولن”، لأنّهما تنكّرا لمنح السود كمواطنين أميركيّين حقّ الانتخاب، هذا هو “أوباما” وحزبه ومؤسّسته الحاكمة الملطّخة بدم الشعوب والأبرياء الذين دافع عنهم المناضل “مارتن لوثر كينغ” ممثّلًا لأماني الملوّنين والفقراء والمظلومين وحقوقهم، لأنّه منهم، وهو الذي اغتيل من يد بعوضة قاتلة عاشت في المستنقع الآسن لتلك المؤسّسة العنصريّة الحاكمة، سواء كانت من الحزب الديمقراطيّ أم الجمهوريّ وسواء كان من يرأسها ويديرها أسود أم أبيض، “فكلاهما جحشان على مربط واحد” كما قال الرئيس السوفييتيّ “خروتشوف” والرأسماليّة “كالجحش إن جاع بوكل جلاله” كما يقول مثلنا العربيّ الشعبيّ! فهل التشابه باللون والعرق يكفي! فما التشابه بين “مارتين لوثر كينغ أو مالكولم إكس” و “كولن باول” محتلّ العراق! وما التشابه بينهما وبين “كوندليزا رايز” صاحبة مشروع الشرق الأوسط الجديد! وما التشابه بينهما وبين “نيكي هايلي” ممثّلة السياسة الأميركيّة القذرة في الأمم المتّحدة في عهد الرئيس القذر! كلّهم ذوو بشرة سوداء ومن أصول أفريقيّة، ولكنّهم يختلفون اختلاف النقيض عن النقيض في الطويّة والأخلاقيّة والإنسانيّة، إنّ المماثلين للمناضل الأسود “مارتين لوثر كينغ” في الطويّة والخلقيّة والإنسانيّة هم المناضلون السود: “مالكولم إكس” وَ “محمّد علي كلاي” وَ “أنجيلا ديفيز” والمهاتما “غاندي” وَ “تشي جيفارا” وَ “نلسون مانديلّا” وَ “هوشي منّه” وَ “جميلة بوحيرد” وَ “جمال عبد الناصر” والإمام “الحسين بن عليّ” وكلّ من وقف ويقف الآن في الشوارع والميادين والساحات لكبح جماح العنصريّة والتمييز في مدن الولايات المتّحدة الأميركيّة ومدن العالم بغضّ النظر عن لون بشرته أو دينه أو عرقه أو جنسه أو قوميّته. ألسنا أخوة في الإنسانيّة نعود لآدم وآدم من تراب! ألسنا من التراب إلى التراب نعود!
طفولة تتألّم، تربية نضاليّة وشباب يتوثّب:
ولد في الخامس عشر من يناير سنة 1929، عاش 39 عامًا واغتيل في الرابع من أبريل سنة 1968، العظماء يموتون صغارًا بسبب عظمتهم وربّما للون بشرتهم إن كانوا سودًا من أصول أفريقيّة! ولد في مدينة “أتلانتا” في ولاية “جورجيا” لعائلة ذات أصول ريفيّة في الجنوب الأميركيّ الفقير والمظلوم، الأب “مايكل” الذي عرف فيما بعد بِ “مارتن لوثر كينغ الأب”، والأمّ “ألبرتا”، وقد كانت “أتلانتا” نموذجًا يعكس صورة بشعة للتفرقة العنصريّة، فصل عنصريّ، مدارس للبيض وأخرى للسود، صبيّ يبكي ويتساءل ويحار لأنّ أقرانه البيض ينبذونه، أب أبيض يمنع ابنه صديق “مارتن” الذي تربّى على حبّ الجميع من اللعب معه، في وجدانه تثور كراهية لكلّ شيء أبيض، يرافق أباه في حانوت الأحذية فيُطلب من أبيه عدم الجلوس في الأماكن المخصّصة للزبائن البيض، يرفض الأب ويترك الحانوت غاضبًا والطفل حائرًا، فالوالد كان “أبًا بكلّ معنى الكلمة” وكان قائدًا للمسيرات الغاضبة المطالبة بالحريّات والحقوق المدنيّة للسود، في الحافلات المقاعد الأماميّة للبيض والخلفيّة الباهتة للسود، التفرقة العنصريّة سيّدة الموقف، والطفل ينمو وينمو إحساسه معه ليصل إلى الإدراك الكامل والشباب المتوثّب نحو الحريّة والحقوق الأساسيّة للناس في الحياة الكريمة، في سنة 1955 وفي مدينة “مونتغمري” فتاة سوداء عمرها 15 عامًا، ترفض إخلاء مقعدها في الحافلة لراكب أبيض، وهذا كان يعتبر مخالفة تنتهك قانون المدينة، ألقي القبض عليها وسجنت، في العام نفسه “روزا باركس” سيّدة سوداء عمرها 42 عامًا وحامل استقلّت الحافلة وجلست في الصفّ الأوّل للعودة إلى منزلها بعد يوم عمل شاقّ، صعد ركّاب بيض فطلب منها السائق مرارًا إخلاء مقعدها فرفضت وظلّت جالسة، تمّ القبض عليها لمخالفتها قانون المدينة وحوكمت بدفع غرامة ماليّة وتكاليف المحكمة، التفرقة العنصريّة البيضاء الظالمة في موادّ القوانين، والنقمة السوداء المظلومة والمشروعة تزيد والأحاسيس تخالج الرؤوس السوداء والإدراك ينمو ويتكامل.
كان لا يمكن لهذا الإدراك أن يكتمل عند الشابّ الجامعيّ بدون تلك الطفولة المتألّمة، وقد صاحب الإحساس بالألم تربية إنسانيّة، مسيحيّة ونضاليّة استمدّها “مارتن” من أمّه التي كان لموتها تأثير كبير على أحاسيسه لدرجة أنّه فكّر في الانتحار، لأنّ تربية الأمّ كانت بداية تشكيل وعيه لنيل حقوقه في المساواة والعدالة والحريّة فتعلّمه “لا تدع هذا يؤثّر عليك (وهي تقصد التفرقة والتمييز ضدّ السود، ع. ه) بل لا تدع هذا يجعلك تشعر أنّك أقلّ من البيض، فأنت لا تقلّ عن أيّ شخص آخر”. من هنا يبدأ الوعي، ومن كلمات أبيه ومواقفه الرافضة للتفرقة العنصريّة ونضاله أيضًا، وهو الذي ربّى ابنه على محبّة الجميع ووفقًا لمبدأ التسامح المسيحيّ: “أحبّ أعداءك واطلب الرحمة لمن يلعنونك وادعُ الله لأولئك الذين يسيئون معاملتك”. ولا شكّ أنّ لدراسة اللاهوت والفلسفة دورًا هامًّا في صقل وعيه الذي كان يميل للكراهية والعنف وهو طالب جامعيّ، نتيجة لما رأى بأمّ عينه من إذلال لإخوته المواطنين السود في كافّة مجالات الحياة وتفاصيلها، ويلمس بأمّ يده القوانين المجحفة بحقّ هؤلاء الأبرياء المظلومين، فالتربية الدينيّة المسيحيّة تشكّل جانبًا من وعي الشابّ الثائر “مارتن”، الذي كان يؤمن ويقول: “لا يستطيع أحد ركوب ظهرك إلّا إذا انحنيت”.
ثورو وغاندي:
أصبح الشابّ “مارتن لوثر كينغ” أحد أكبر الزعماء الأميركيّين السود تأثيرًا وإلهامًا، وأكثر المنادين بالنضال السلميّ واللاعنف: “يجب أن تكون الوسيلة التي نستخدمها بنفس نقاء الغاية التي نسعى إليها”. بعد عذاب الطفولة وآلام الصبا وأحاسيس الغضب وعنفوان الشباب المتمرّد صار يؤمن بأنّ إلغاء التفرقة العنصريّة والفصل والتمييز ضدّ السود لن يتأتّى بالعنف والشغب والتكسير إثر أحداث ديسمبر سنة 1955، صار يؤمن بأنّ: “الشغب هو لغة مَن لا يُسمعون”، لن نستطيع القول عن “مارتن” في شبابه، لأنّ كلّ حياته شباب وتوثّب للحريّة وثورة على الظلم، كان يؤمن وكثيرًا ما يردّد: “الظلم في مكان ما يمثّل تهديدًا للعدل في كلّ مكان”، لقد شهد هذا الشابّ الحكيم، الصبور واللطيف تحوّلًا جذريًّا في نظرته وفي منهجه وقيادة الكفاح الممنهج والمدروس لتحصيل الحقوق المدنيّة للأفارقة الأميركيّين بعد القضاء على التفرقة العنصريّة والعقليّة اللاإنسانيّة الظالمة والفاسدة التي تتأسّس عليها، ولا شكّ في أنّ ثمّة أثرًا وتأثيرًا كبيريْن للفيلسوف “هنري ثورو” الذي آمن بالعصيان المدنيّ وسلوك المقاطعة لكلّ الشركات التي تمارس العنصريّة والحكوميّة منها بالذات، وكان “مارتن” قد قرأ معتقداته الفلسفيّة والفكريّة فآمن بها وساهمت في ندائه الشهير “النضال بالمقاطعة”، مثل مقاطعة الركوب بالحافلات سنة 1965 لمدّة 382 يومًا في مدينة “مونتغمري”، وكان حوالي 70% من ركّابها يوميًّا من السود الفقراء الذين لا يملكون السيّارات الخاصّة، فخسرت الشركة كلّ أرباحها ذلك العام.
وكذلك تأثّر “مارتن” بشخصيّة الزعيم الهنديّ “المهاتما غاندي” وأسلوبه النضاليّ الهادئ إثر زيارة له في الهند سنة 1959 فتعلّم منه ومن خلفه “نهرو” مبادئ السلام والنضال السلميّ أو السلبيّ وسجن سنة 1960 مثل ما سجن غاندي بسبب الاحتجاج السلميّ، وتحت شعار “غاندي” التاريخيّ “اللاعنف” انتصرت الهند في النهاية على الانتداب الإنجليزيّ فتحرّرت واستقلّت ومنحت المناضل “مارتن” جائزة “نهرو” للسلام الدوليّ، ومن ثمّ تسلّم جائزة “نوبل” للسلام، وكان أصغر من تسلّمها سنة 1964، قبل اغتياله بأربع سنوات.
مسيرة سوداء وصاخبة بالسلام تنتهي باغتيال أبيض ودمويّ بالرصاص:
لإيمانه بالنضال السلميّ والمقاومة السلبيّة آمن بِ: “ليس السلام هدفًا بعيدًا نسعى إليه بل هو كذلك وسيلة نصل بها إلى هذا الهدف”، وهذا ما عناه “مارتن” بنقاء الوسيلة والغاية، ولذلك آمن بإمكانيّة إشراك التلاميذ والأطفال في المسيرات الاحتجاجيّة المسالمة: “ليس لدينا بديل سوى الاحتجاج، وقد أظهرنا لسنوات طويلة صبرًا مذهلًا وأعطينا أحيانًا إخواننا البيض الشعور بأنّنا نحبّ الطريقة التي نُعامل بها، اليوم نأتي لنتخلّى عن ذلك الصبر الذي لا يجعلنا على أيّ شيء من الأمل في الحريّة والعدالة”، في سنة 1963 وفي زمن حكم الرئيس “جون كنيدي” هاجمت قوى الأمن بالسلاح والكلاب البوليسيّة الشرسة مظاهرة سلميّة للسود سدّوا فيها الطريق العامّ، كان “مارتن” قائدًا لهذه المظاهرة فسجن إثرها انفراديًّا، وأعلن الرئيس “كنيدي” حالة الطوارئ ومنعت قوّات الأمن أيّ مظاهر للاحتجاج والمقاطعة والعصيان. وفي مظاهرة للأطفال، وتحت عيون الكاميرات وعلى مرأى أقلام الصحافيّين صُوّرت الكلاب الشرسة وهي تنهش أجساد الأطفال الأبرياء، وفي صلاة يوم أحد تمّ إلقاء قنبلة على كنيسة زاخرة بتلاميذ سود، ووقعت ضحايا من القتلى والجرحى بين اليافعين، وكان الظرف مهيّئًا لأعمال العنف والانتقام، ومع ذلك قام “مارتن” بالتهدئة رغم المصاب المفجع، بعد وعود رسميّة بإجراء تحقيق عادل وتغيير في التعامل، لكنّها لم تنجز فقال “مارتن” قوله الشهير معبّرًا عن غضب السود: “ديْن مستحقّ لم تفِ أميركا بسداد الحقوق، ومع ذلك أعطت الزنوج شيكًا أُعيد وقد كُتب عليه إنّ الرصيد لا يكفي لصرفه”.
حياة صاخبة طافحة بالحركة الدائمة والنضال الدؤوب والعلاقات مع المناضلين السود: المناضل “مالكولم إكس” زعيم المسلمين السود وغيره، الذين عانوْا هم أيضًا من التفرقة نفسها في أميركا. يقال أنّ “مارتن” سافر ما بين 1957 – 1968 أكثر من 6 ملايين ميل، ما يعني أنّه كان يتكبّد مشاق السفر يوميًّا حوالي 1600 ميل ليفضح السياسة الأميركيّة وقوانين التفرقة العنصريّة المنتهجة ضدّ جزء كبير من المواطنين الأميركيّين أنفسهم، فقط لأنّ لون بشرتهم ليس أبيض، ولإيصال صوت المظلومين ورسالته النضاليّة إلى شعوب العالم وقياداته ليكسب تأييدًا لحركته ولحقوق السود المدنيّة والإنسانيّة، لقد تحدّث خطيبًا حول قضايا السود أكثر من 2500 خطاب واعتقل 29 مرّة، منها حالات كان يزجّ به مع القتلة والمجرمين، وتعرّض للاعتداء الدمويّ 4 مرّات، منها حالات تمّ فيها إلقاء القنابل على بيته، وفي إحداها نُسف بيته بالديناميت ممّا عرّض زوجته وأولاده لخطر جسيم، وهو أوّل رجل أسود يحظى بلقب “رجل العام” وفقًا لمجلّة “التايم”.
لديّ حُلم:
كان لاختيار مكان الخطاب أهميّة عند “مارتن” فأمام نصب الرئيس الأميركيّ “لنكولن” ألقى خطابه الشهير “لديّ حًلم”، خطابه التاريخيّ الذي يعتبر وثيقة من وثائق النضال السلميّ واللاعنف، ويعدّ مرجعًا هامًّا من مراجع النضال الإنسانيّ من أجل نيل الحقوق المدنيّة والمساواة ومن أجلّ قيم العدالة والحريّات العامّة، وقد كانت هذه العبارة القصيرة ملخّصًا لذلك الحلم الكبير: “لديّ حُلم بأنّه في يوم من الأيّام سيستطيع أبناء العبيد السابقين الجلوس على تلال “جورجيا” الحمراء مع أبناء أسياد العبيد السابقين على منضدة الإخاء”. لهذا الحُلم، الواجب المقدّس ولهذا الحُلم، الحقّ المقدّس كرّس “مارتن” حياته القصيرة والعريضة والمشرّفة والتي بدأها بِ: “الإيمان هو أن تأخذ الخطوة الأولى حتّى إن لم تستطع رؤية الدرج كلّه”. ويموت موتًا مشرّفًا، وهو في ميدان النضال وهو في أعلى درجات الكرامة، إلى أن ألغي هذا الفصل العنصريّ المقيت، سنة 1968 بتوقيع الرئيس “ليندون جونسون” على قانون الحقوق المدنيّة الذي يضمن المساواة والعدل بين جميع الأعراق والألوان في الولايات المتّحدة الأميركيّة، ليحظى السود بحقّ الانتخاب وسائر الحقوق بعد رفع الشعار النضاليّ “أعطونا حقّ الانتخاب”.
لقد تحقّق الحلم وانتصر “مارتن لوثر كينغ” العظيم، بعد مسار شائك وشاقّ وعظيم من التفاني والتضحيات، وبعد ترأسّه لكثير من الحركات المناوئة لسياسة الفصل العنصريّ الرسميّة، ولكنّه لم يتوقّف عند هذا الحدّ بل انطلق للنضال ضدّ الفقر وضدّ الحرب الأميركيّة الدنسة في “فيتنام” عندما: “تخطّت قوّة أميركا العلميّة قوّتها الروحيّة فوجّهت الصواريخ وضلّلت الناس” على حدّ تعبير “مارتن” الذي يعكس بشاعة الطمع الرأسماليّ المادّيّ على حساب روحانيّة القيم الإنسانيّة، وقد ربط بين الاثنتيْن، لأنّ الحرب والإنفاق عليها يزيد الفقراء بؤسًا: “لم أستطع الصمت في مواجهة هذا التلاعب الوحشيّ بالفقراء لأنّه يأتي وقت يكون فيه الصمت خيانة وقد أتانا هذا الوقت في حرب فيتنام”، لقد حاول الرئيس “جونسون” مقايضة السود الحقوق المدنيّة وحقّ الانتخاب بموافقتهم على حرب فيتنام، وطلب من “مارتن” أن يصمت ولا يقول رأيه منها جهارًا فأبى وناضل من أجل إنهائها، ولقد عبّر “مارتن” عن هذه الحرب بقوله: “إنّ أحد أكبر ضحايا الحرب في فيتنام المجتمع الأميركيّ العظيم الذي سقط في ساحة الحرب”. وظلّ على هذا حتّى اغتياله اغتيالًا مبرمجًا يوم 4/4/1968، برصاصة موجهّة إلى حنجرته التي لم تنفكّ عن النداء بالحقوق المشروعة، وكانت آلة صوته النابض بالحقّ والحرّيّة ومصدر الخطورة في دعوته الكفاحيّة ضدّ التمييز والفصل والتفرقة. القاتل “جيمس إرل راي” متعصّب ومجرم أبيض قتل الشخص ولم يقتل الحلم الساطع قتل الجسد ولم يقتل الروح الوثّابة للنور، يُرسل إلى مدينة “ممفيس” حيث كان يستعدّ “مارتن” للمشاركة وإلقاء كلمة في مظاهرة تأييد لإضراب عمّال النظافة، ضغط القاتل على الزناد الوحشيّ فتناثر دم “مارتن” ومع هذا الدم المتناثر تفجّرت المظاهرات الغاضبة في 100 مدينة أميركيّة واشتعلت النيران في 620 موقعًا، واستدعي لحفظ النظام 60000 من الحرس الوطنيّ لضبط الأمن، ومن أتون ثقل المصيبة وضخامة الجريمة النكراء جلجل صوت زوجته المغنّية “كوريتا سكوت كينغ” داعيًا إلى عدم العنف والتوقّف عن هذه الأعمال التي تسيء لنهج “مارتن” السلميّ وإلى روحه النضاليّة الطاهرة، وكانت جنازته في مدينة “إتلانتا” يوم 9/4/1968، وشاركت فيها “جاكلين” زوجة الرئيس “جون كنيدي” الذي كان قد اغتيل هو الآخر قبل سنوات قليلة من اغتيال “مارتن”. وحوكم القاتل بالسجن 99 عامًا لا تساوي قلامة ظفر لطفل أسود، ولا يمكن أن تقارن بلحظة واحدة خالدة من حياة المناضل العنيد.
التواضع الخلّاق والمعطاء:
“إذا أردت أن تغيّر العالم فاحمل قلمك واكتب”، “واعلم أنّ الحرّيّة لا يعطيها الظالم طوعًا، يجب أن يطالب بها المظلومون”، ولذلك آمن “مارتن” بأنّ الإنسان المظلوم: “ليس فقط سيحاسب على ما يقول، بل سيحاسب أيضًا على ما لم يقل حيث كان لا بدّ له أن يقول”، هذا ما كان يقوله ويؤمن فيه، أمّا ما كتبه في فبراير 1968 وأراده فنموذج للتواضع الخلّاق الذي أعطى كلّ شيء ولم يطلب إلّا ذكر ما أعطى: “لو كان أيّ واحد منكم على قيد الحياة يوم رحيلي، فلا أريد مراسيم جنائزيّة طويلة، وإذا سألتم أحدًا ليلقي كلمة تأبين، فقولوا له أن لا يجعلها طويلة، وقولوا له أن لا يذكر أنّني حاصل على جائزة “نوبل” للسلام، لأنّ هذا ليس مهمًّا، وقولوا له أن لا يذكر أنّني حاصل على ثلاثة أو أربعة مئة من الجوائز الأخرى، لأنّها ليست مهمّة، وقولوا له أن لا يذكر المدرسة التي داومت فيها، لكن بودّي أن يذكر أحد الأشخاص في ذلك اليوم أنّ “مارتن لوثر كينغ” قد سعى إلى تكريس حياته لخدمة الآخرين، وأنا أودّ أن يقول أحد الأشخاص في ذلك اليوم أنّ “مارتن لوثر كينغ” قد سعى إلى محبّة غيره، وأريد منكم أن تقولوا في ذلك اليوم، أنّني قد سعيت إلى أن أكون على حقّ في مسألة الحرب، وأريد أن يكون بمقدوركم أن تقولوا في ذلك اليوم، أنّني قد حاولت أن أطعم الجياع، وأودّ أن يكون بمقدوركم أن تقولوا في ذلك اليوم، أنّني قد حاولت في حياتي أن أكسو العريانين، وأودّ أن تقولوا في ذلك اليوم، أنّني قد حاولت في حياتي أن أزور المسجونين، وأودّ أن تقولوا في ذلك اليوم، أنّني قد سعيت إلى محبّة البشريّة وخدمتها.
مخرج بعبرة ليست فنيّة فقط:
يمكن أن ينشغل السينمائيّون الآن بإنتاج فيلم روائيّ أو وثائقيّ عنوانه “إعدام مثلّث على الطريق السريع أميركا – إسرائيل”، أو تسمية الفيلم “أريد أن أتنفّس”، آخر صرخة للضحيّة السوداء، لم يطلب “فلويد” مستقبلًا أبيض لأولاده، ولم يطلب كثيرًا قبل أن يموت، فلو حكم عليه بالإعدام لتأجّل التنفيذ مدّة أشهر على الأقلّ، وكان يُطلب منه ما يريد كمطلب أخير، ولكنّ الإعدام كان سينمائيًّا بامتياز، فاللحظات التي فصلت بين صرخته وموته لا تكفي لأكثر من التنفّس الذي لم يظفر به، ممّا يجعل حبكة الرواية محكمة وميلودراميّة ويجعل نهاية الفيلم مثيرة للإحساس بالفجيعة المأساويّة على الطريقة التراجيديّة الإغريقيّة القديمة تثير في المشاهدين الشفقة والفزع ولكن ليس على مصير “أوديب” الدنس بل على مصير الإنسانيّة المقدّسة.
العنصريّة مستفحلة في البلديْن: أميركا وإسرائيل اللذيْن يربط بينهما شارع التفرقة العنصريّة في “مينيابوليس” والتمييز العنصريّ في القدس القديمة وقرية عارة، فالحقد الأعمى ضدّ كلّ ما هو أسود هناك وضدّ كلّ ما هو عربيّ هنا حقد واحد، والعقليّة العنصريّة واحدة وسهولة الضغط على زناد الرِجْل أو المسدس واحد هو الآخر، والضحايا هم الضحايا، فَ “مصطفى يونس” العربيّ من عارة المثلّث وَ “إياد الحلّاق” الفلسطينيّ من القدس العربيّة المحتلّة وَ “جورج فلويد” الأميركيّ الأسود من “مينيابوليس”، دماؤهم حمراء وإن اختلف لون البشرات، والإحساس بالحزن والفقدان واحد وإن اختلفت اللغة، والبكاء الأسمر الفلسطينيّ والبكاء الأميركيّ الأسود هو البكاء نفسه والأمّ هي الأمّ والدموع هي الدموع وإن اختلفت الديانات. ويمكن لهذا الفيلم أن يكون مثيرًا ذا أثر في نفوس المشاهدين إذا انتهى بالفاعل المجرم وهي العقليّة العنصريّة الحيوانيّة التي تحبّ لوحشيّتها القتل وتتغذّى على دم الناس الأبرياء إلى حبل الإقصاء عن هذه الدنيا أو وراء قضبان الزمن، أمّا الأشخاص المجرمون الذين نفّذوا بالفعل خطّة تلك العقليّة فهم مجرّد ثلاث بعوضات نمت وترعرعت على مستنقع العقليّة العنصريّة الأميركيّة البيضاء الآسنة والصهيونيّة المتطرّفة في الحقد، ولذلك يمكن استخدامهم في خلفيّة الفيلم كحشرات مسمّمة وسامّة.
ومن الجميل والعظيم أن تكون منتجة هذا الفيلم هي “الطاهرة الإنسانيّة”، ومخرجه فلسطينيًّا أميركيًّا أسود يحمل اسم “محمّد كوثر كينغ”.