مجد الذي خرج من الفقاعة..
تاريخ النشر: 23/04/14 | 20:20أخاله يضحك يفتح فمه على سعة المجهول الذي يحيط به، يتذكر، أمام هول الصدمة التي رسمها لنفسه قبل الآن، مكبّلا بالسلاسل، أرجله مربوطة إلى عصا خامسة في كرسي كالذي جلس عليه معلمونا في المدرسة، كأنهم تابعون لذلك المكان القبيح لا اراديًا. كأنه حبل سري يتغذون منه كقدر الله. يسألونه إن كان يريد شرب شيء ما – قبل أي شيء- يفضلون نوعًا من القهوه الأمريكية المضغوطة واحد منهم كان يدخن فقط، ربما بعد ما حصل صاروا يدخنون جميعًا.
سيجيبهم لا شكرًا ويتذكر “الألمازة” التي تدحرجت في حلقه، فدبت فيه الحياة وأعطته عمرًا إضافيًا. وزملاؤه في جريدة السفير الذين لم يصدقوا هول ما حصل، ليس الاعتقال، بل حضور مجد بينهم بضحكاته ومرحه اللذيذ وطقوسه في التفكير بالأشياء، وقولها على نحو غريب، وتطويع اللغة ومرورها من قاع بطنه إلى حنجرته حتى القول، كأن الأشياء عنده جميعًا تبدأ بكلمة سحرية هي الإرادة. جميعهم خائفون، لا على مجد فقد خبروه رجلاً، خائفون من المجهول المحاط بالجدران التي لا تخرج عن صمت.
يتذكر وجه رجل الأمن الأردني، وقبل ذلك ما حصل معه في نقطة العبور إلى تحقيق الحلم، حتّى الآن هو غير مصدّق، الصدمة الجميلة التي حصلت له تغمره بالفرح، صنع قدره بنفسه، خاطه كامرأة مسنة متمرسة على تمرير جمل من خرم الإبرة. هزمهم جميعًا حين حطم الشباك وخرج سابحًا في مياه عكرة حتى تنفس بيروت.
لقد وجد نفسه طوعًا، جالسًا في حافلة مليئة حتى التخمة بزات خُضر وبساطير حُمر يتجه معهم إلى جهة أقرب إلى قلبه منهم، استطاع في إغماءة عذبة معرفة المسار فنام في الحافلة كانوا يتحدثون بلغة “دفشة”، تساءلوا عن نوع الرغيف في معسكرهم الجديد وطعم البطاطس المقلية، وهل سيسمح لهم بشرب الفودكا هناك، والبنيون المائلون إلى السمرة منهم تساءلوا فيما بينهم هل سنأكل الـ”إليش” كما في أثيوبيا والجهة التي سيسلكونها بعد حيفا، وأي خط حافلة سيستخدمون، وهل عكا شمال حيفا أم جنوبها؟ ضحك في سره في حلمه الجميل الناعم وهمس لنفسه “مساكين هؤلاء.. سيقاتلون غدًا ويفنون عمرهم في الدفاع عن أرض لا يعرفون بلادها في أي اتجاهات تسير!”. في هذه اللحظة عبر إلى بيروت في حلم لن يتحقق فقط بعد أربعين عاما، سيقرأه على صفحات “السفير”، وإنما سيتحقق قريبًا كيف ومتى لا يعرف لكنه متأكد منه.
رفض مجد بجسده النحيل وأفكاره الغريبة العصية على الفهم في أحيان كثيرة، كأن فيلسوفا يتحدث أمام جمع من البشر يعودون بعد خطابه إلى مكتباتهم يتساءلون: “هل فهمنا حقًا ما قاله هذا الشاب؟ “، رفض أن يبقى محاصرًا في تلك الفقاعة، عرف أن إصبعه الطويل كعازف بيانو، ما أن يلامس ذلك السطح حتّى ينفجر ويغدو في بيروت أخت حيفا التي أحبها من أعماق، أعماق قلبه السحيق المليء بالملائكة التي راقصت الناس من كل الجنسيات في شوارع بيروت المتفرعة.
كاميكاز، جاء إلى هُنا غير عابئ بما سيحصل له عند عودته، ترك جسده وأفكاره وقلبه المعبأ بالإرادة والحُب والإيمان على مذبح الحرية، وقدم نفسه قربانًا لكم جميعًا حتّى يدب الإله في أياديكم القدرة على خرق الفقاعات.
لم تتسن لي رؤية مجد، حاولت أن أحدثه عبر المساحة الإلكترونية، لم يجب، بحثت عنه مطولاً في شوارع بيروت ومقاهيها حاولت جاهدةً أن أخمن أين يكون مجد، فتشت في وجوه الجالسين في “ة” قصدت الجميزة “أم نزيه” وأواخر الحمرا “أبو إلي”، بحت في دخيلتي يحب مجد هذا النوع من المقاهي، لكني لمْ أجده. كنت أرغب في احتضان صديقي.. أن أشم في ثيابه ما حمله من هواء الكرمل ورمل شاطئ حيفا وزعتر تلالنا المجدول.. لكني لم أوفق.
مجد، قل لهم يا صديقي أن أظافرنا خدشت غشاوتهم، وفضت وحشيتهم، وأننا لامسنا خد بيروت وقبلناه. قل لهم إننا لا نخافكم، وأننا نحب الحياة، وإن في أحشائنا مستع كبير بعد لِـ”ألأمازة”، قل لرفاقنا أن فقاعة الصابون واهية، وأن فضها أسهل من فض بكارة الأوزون..
أكتب على الجدران التي تحيطك كل أحلامك كأنك تكتبها “للسفير”.
بيروت حمود – عرب48