الحيّ الخطير
تاريخ النشر: 30/06/20 | 10:25في بداية كانون الثاني عام 2009 تأسّس منتدى الكتاب الحيفاويّ، كان اللقاء الأوّل مساء الأربعاء 28 يناير، نناقش خلاله كتابًا كلّ آخر يوم أربعاء من الشهر، يركّزه الطبيب الحيفاويّ أمل جبارين وفي لقائنا الأخير، في مبنى جمعيّة الثقافة العربيّة في شارع المخلّص، تناولنا رواية “الحيّ الخطير” للأديب محمد بنميلود (191 صفحة، تصميم الغلاف للفنّان سومر كوكبي، إصدار دار الساقي اللبنانيّة).
المهندسة نهى مطر: الحيّ-هو المكان (أو المحيط) الذي نقطن فيه؛ وهو أيضاً الإنسان أو الحيوان أو النبات الذين تنبض بهم الحياة، الخطير- بمعنى الخطر الذي به مطبّات قويّة صعبة ، هلاك، ظلمة، تهلكة، وهو أيضاً عظيم الشأن ذو أهميّة، ذو مكانة بارزة، رفيع وشريف. هل بإمكاننا أن نعطي الدّلائل لعنوان الرواية من المَعْنَيَيْن المتناقضين؟ أخذني العنوان أوّلاً للخطر الدّاهم والمحدق بالمكان والأحياء، ولم يأخذني إلى الرّفعة والشأن والمكانة البارزة للإنسان الحيّ الذي يعيش في حيّز الرواية (الذي يصور الواقع أيضاً).
إنّ الرواية لهي صفعة جديدة من واقعٍ مزرٍ متجذّر بالعنف والرذيلة وهضم الحقوق والتسلّط والتجبّر من قبل السلطة المتعفّنة وأزلامها والتي ترسّخ واقع المهمّشين الذين يهربون من واقعهم ومظلوميّتهم محاولين البدء بحياةً أخرى على هامش المدينة، على أمل التجدّد والعيش أفضل. لكن سرعان ما يبدأون صراعاً جديداً من أجل البقاء، صراعاً أقسى وأشدّ ومثبطٌ للعزائم ومغرقٌ بالوحل والفسق والعصابات والحشيش وشرب الكيف والكحول والعنف وشظف العيش والدّعارة.
لكن الى أين الهروب؟ هل ليصبحوا أزلام السلطة ليمارسوا التسلّط والتجبّر على الآخرين من الموقع الجديد دون أن يرفّ لهم جفن؟! أم الهروب إلى خارج الوطن للحصول على حياة أخرى مشتهاة بعيداً عن الوطن المسلوب؟! أم الهروب من الذّات المنحطّة الموبوءة للنهوض بها من أجل تحريرها وتحرير ذوات الآخرين في هذا المجتمع ليرتقوا سويّاً لبناء أمّة حضاريّة تحافظ على حقوق الأفراد وكرامتهم وتحقق لهم الحريّة المبتغاة، وتعلو بهم وتثقفهم دون أيّ تمييز من ناحية: العرق، الّلون، الدين، الطّائفة، الموقع الاجتماعي، الغنى، الفقر….
وهنا لفتني: هل اختفى دور المثقفين والعارفين؟ هل تخلّوا عن أفكارهم لكي يحقّقوا مآربهم بعيشة مريحة ومناصب رفيعة؟ أم أنّهم انحازوا للسلطة وصاروا من أزلامها وبهذا فقدوا الدّور المنوط بهم لرعاية وتثقيف وتحشيد الناس ليثوروا على واقعهم والبؤس الذي يرزحون تحت عبئه!
لقد لطمتني الرواية بهذا الواقع المرير، وبكونها مليئة بالسوداويّة وكأنّ الأمل مفقود للنجاة الجماعيّة بالمجهود الجماعي.
إنَّ شخصيّات الرواية، لا بدّ أنّها موجودة وقائمة على أرض الواقع، لكن تكثيف حضورها بصفاتها السلبيّة في رواية واحدة عدد صفحاتها ليس بكبير، رأيت فيه نوع من جلد الذّات والسوداويّة المطلقة مع التنويه بتسطيح نضوج وتطوّر الشخصيّات والمصير الذي آلت اليه.
في القسم الأوّل من الرواية بمشهديّة فضّ مراد لبكارة الكرتونة التي تخصّ خاله، بُثّ فيّ أملٌ ما، بحيث كدتُ ألمس بصيص نورٍ ما… سرعان ما انطفأ وحلّ مكانه سردٌ وتوصيف لشخصيّات صعبة وتصرّفات قاسية يائسة وبائسة تغطّي عجزها بشرب الكيف وتخدير العقل والروح والمتع اللحظيّة التي سرعان ما تفضي إلى ذات الواقع مرّة أخرى وبأشدّ فظاظة.
لا تخلو الرواية من نسمة تفاؤل بأنّ الحياة مع أهل الحيّ وبين ثناياه هي النعمة والملاذ والملجأ الأخير ليس فقط للعيش به، إنّما للهروب منه ومن سجن الدولة أيضاً. إنّ المكان الذي نعرفه ونعرف ناسه هو المكان الآمن والأكيد الذي نشعر بالانتماء إليه.
وعلى أمل أن يتحقق حلم مراد بتجييش السجناء وبنفث القوّة بعقولهم أن بمقدورهم السيطرة على السّجّانين وبذلك يتحقّق الهرب من الواقع المزرى المفروض عليهم إلى فضاءٍ أنقى وأنظف، من أجل البدء بعيش الحياة بكرامة كما الشعوب المتحضّرة.
كلّي أمل بتغيّر هذا الواقع المرير على أرض الواقع لكي نكتب تاريخنا من جديد باندفاعيّة وفرح بالحصول على الحريّات والحقوق في أوطاننا، ونرتقي درجة – الحيّ (الإنسان) الخطير ذي الشأن والمكانة.
الصيدليّ عماد زريق: هذا الكتاب عبارة عن لائحة اتهام وصرخة مدوية بوجه النظام الحاكم؛ انطلقت من الحي الخطير في الدار البيضاء لتصل إلى الصحراء الليبيّة مرورًا بجبال ورزازات وجبال الاوراس لتلتقي مع صرخات محمد شكري في “الخبز الحافي ” ومع صرخات ابراهيم الكوني في “من أنت أيها الملاك” ومع صرخات الآخرين من الأدباء الامازيغ الذين وعلى مدى سنوات طويله وكتابات عديده جاهدوا ولا يزالون يجاهدون من أجل إعادة مكانة شعبهم المسلوبة وكذلك للمطالبة بحقوقه المنهوبة ولرفع شأنه المهمّش، لهذا دعي أدب هؤلاء أدب الهامش؛ بنظري لن نبالغ إن دعونا أدبهم بأدب المقاومة؛ لأنّ من يقاوم البطش والحرمان والتجويع والتهميش والاعتقال والاغتيال ليس أقلّ شأنًا ممّن يقاوم الاحتلال.
الحي الخطير هو ذلك المعتقل الرهيب الذي أوجدته السياسة المبرمجة والتي أعدّ لها بعناية فائقة في سراديب المخابرات الحكومية وربما أبعد من الحكومية. لقد وضع النظام الحاكم نصب عينيه أن يبقى الحي على حاله إلى الأبد يغمره الفقر والمرض والإهمال والإجرام والدعارة والمخدرات مستخدما كل ما أوتي من قوه ووسائل ودائما شعاره الغاية تبرّر الواسطة.
في هذا المحيط ولد وترعرع مراد ولما حاول أن يجد طريق خلاصه عبر كتب خاله الماركسية (كان خاله سيلقى نفس المصير لو كانت كتبه ناصريّة أو بعثيّة أو دينيّة أو قوميّة)جاء اغتيال الخال صفعة مدوية أثنته عن طرق النضال البديلة فالتحق بالعصابة، كغيره من أبناء حيّه مقتنعا حتى النخاع بأنه “ولد مكسورًا منذ البداية والذي حدث كان يجب أن يحدث دون ندم على شيء أو توبة أو طلب للغفران من أحد.”
أكثر ما أوجع مراد بنظري هو ظلم ذوي القربى فممارسات أهل الحي جمعت ما بين العصابات المتناحرة والتي تغتال بعضها البعض وكذلك المتعاونين مثل العروسي والقايد والشيخ وهنالك المخبرين. لقد كانت هنالك لحظه وحيدة بدت فيها سمات التغيير وهي لحظة اتفاق مراد مع عبد الرزاق؛ وهما ألدّ أعداء الأمس؛ على التخطيط للهروب من السجن؛ إلّا أنّ هذا التحالف جاء متأخّرا حيث أبعد عبد الرزاق إلى سجن آخر.
لقد تميّز نصّ الرواية بالدمج بين الخيال والواقع حيث صوّرت الاشياء بتفاصيلها الدقيقة، أمّا الشخصيات فكانت شبه حقيقيّة ترتبط بالواقع ارتباطا وثيقا.
اللغة كانت سلسة شاعريّة متحديّة وكانت مطعّمة بكلمات وتعابير محليّة نحن في الشرق لا نعرفها.
هنالك من قال أن استخدام الكاتب للكلمات البذيئة لم يكن موفّقًا ولم يكن في صالح العمل الأدبي،
انا أختلف مع ذاك الرأي لأنّ الكلمات هي عربيّة، ووجدت لتستخدَم في اللحظة المناسبة وها هي اللحظة قد أتت؛ فلا يجوز أن تحاكم الضحية(ايها القارئ المحتج) لأنها كُتبت بالبُنط العريض لتصف ما فعلوا بها بالضبط وأن تعمى عن محاكمة الجزّار على فِعلته؛ نعم لك كل الحق أيها المراد أن تقول ماذا وكيف فعلوا بأهل حيّك باللغة والعبارات التي ترتئيها والتي” تفشّ الخُلق”.
أنا بانتظار “الحيّ الخطير2″ حيث يجد فيه مراد طريقه خارج السجن لنجده ناضجًا صلبًا مجرّبًا حاشدًا طاقات جديده ستجبر لا شك المخازنيّة على تغيير سياستها وتعاملها مع أهل الحيّ الخطير.
أخيرًا عزيزي مراد؛ أذكّرك بأن لا وطن آخر لك وإذا كانت وجهتك خارج هذا الوطن فأقرأ؛ ولك متّسع من الوقت في السجن، اقرأ ماذا يقول لك الطاهر بن جلون في كتابه ” أن ترحل”!
المحامي فيكتور مطر: أود أن أضيف بأنّ الرواية هي أشبه باليوميات، ترصد وتدوّن الحياة اليومية الرتيبة في حيّ تعيس في المغرب، أهله “يعيشون في المدينة بمنطق البادية وزمنها الفلاحي المنبسط إلى ما لا نهاية” (ص 132). وهذه الرقعة التي تقع فيها الأحداث ليست من مخيلات بنميلود ولا من كوابيسه، إنه حي واقعي، على هذه الأرض وليس من مجرّة أخرى. وعالمنا العربي، وللأسف، مليء بمثل هذه الأحياء!
الرواية هي اجتماعية سياسية بامتياز، ففيها لمسنا التمرد على الواقع السياسي والاجتماعي سيّما الجانب الديني منه، لا بل وحتى الشق الخرافي/الشعوذي أيضاً (…مات…من حيث لا يدري؛ لم ينفع دواء ولا قرآن ولا بخور- ص71). وكلامه عن الزيف والنفاق في الأيمان قوله (ص 151): “كانت تنتابه هذه النوبات الإيمانية… وخصوصاً بداية كل رمضان حين كانت تنتاب الحيّ كاملا موجة مفاجئة من الإيمان الغامض”، يعزّز الاستنتاج أنّ بنميلود متمرّد على المجتمع المنافق تمرّدَه على السلطة الفاسدة.
في روايته، يصف لنا الكاتب الحي حيث يولد أهله في دوامة لا نهائية من التعاسة فيفصّل لنا (ص77) تحرّك أحدهم “…ناقلا الجذوع من مكان إلى آخر دون استراحة دون أن يكون لذلك لزوم، كمن ينفّذ عقوبة سماوية لا نهائية”. بهذا التوصيف، ينقلنا الكاتب، برؤيتي المتواضعة، إلى كتاب البير كامي “أسطورة سيزيف” التي أخذها كامي من إحدى الأساطير الإغريقية الرائعة التي تحكي عن سيزيف، ملك كورينثوس الماكر، الذي استطاع أن يخدع إلَه الموت ثانتوس حين أغواه بأن يجرّب الأصفاد والأقفال، وحالما جرّبها قام سيزيف بتكبيله ليوقف بذلك موت البشر، مما أثار عليه سخط الآلهة، فعاقبه زيوس بأن يعيش حياة أبديّة يقضي خلالها في عمل غير مجدٍ؛ دحرجة جلمود صخر صعوداً إلى قمة جبل حتى يعود للتدحرج نزولا إلى الأسفل مراراً وتكراراً حتى الأزل!
كامي، كما صاحبنا بنميلود، استفاد من تلك الأسطورة ليتساءل: هل من حياة عبثية تُفرض على الأنسان أصعب من تلك؟ أوليست حياة البشر تشبه ذاك الشقاء الذي فرض على سيزيف؛ ذلك الروتين اليومي الذي نعيشه بكل الأعمال اليومية التي نكرّرها المرة تلو الأخرى دونما غاية واضحة نصل إليها؟ ثم تطرح الأسطورة تساؤلا وجيهاً على شاكلة: ألا يمثّل الموت في هذه الحالة خلاصاً للإنسان من هذا الملل السرمدي؟
هنا أرى بعض اقتراب بنميلود من فكر كامي، إذ يرى كامي أنّ اسطورة سيزيف لا تعكس مأساة الأنسان في عبثية الحياة بقدر ما تعكس لنا تحديه وكفاحه المستمر. سيزيف، وبرغم المشقة الهائلة اللانهائية والمتكرّرة التي يعيشها، لم يختار أن يضع حداً لحياته فينهي هذا العقاب الأبدي، بل اختار بشجاعة أن يتحدى قدره وأن يمضي قدماً في مواجهة هذا المصير البائس. وكما يعلّمنا سيزيف، فليس من الضروري أن يصل الإنسان إلى هدف في حياته وأن يحقق منجزات- أيّاً كانت. إذاً، فالمعنى عند كامي يتمثّل في إعطاء قيمة لكلّ ما نفعله في حيواتنا من أعمال أو اتخاذ مواقف، صغيرة ومتواضعة كانت أم كبيرة. وفي حالة “الحي الخطير” يكون التفكير المتتالي نحو الأفضل وحتى التخطيط المتكرر للهرب(من السجن الصغير أو الكبير) هو هو الموقف! وهذا الإحساس بأن الحياة لذاتها هي الهدف بعينه، هو هو الطاقة التي يزودنا بالقدرة على البقاء والاستمرار ودحرجة صخرتنا/صرختنا اليومية دون كلل، حتى لو كان هذا العمل “السيزيفي” مقرون بالملل.
الشاعر عبد الباسط إغبارية: سعدتُ أن تناولنا في منتدى الكتاب في حيفا/فلسطين هذه الرواية؛ كنت قد اقترحت الرواية كونها بنظري متكاملة ببنائها التقني ،ولكونها رواية تجاوزيّة في هذا النوع من الكتابات، وهي في هذا مقارنة مع الكبير شكري أقرب إلى زنزانة المرزوقي منها إلى تذكرة الرايس، بل وتذهب أبعد من المرزوقي ليس فقط بالإشارة إلى الدماميل والقروح، بل بواجب تسويف وعي ينسف واقع الضيم الاجتماعي والسياسي والعرقي والمناطقي، وحيث أنّ النجاة ستكون حليفة من عاش الهرب بسجنه وآمن باحتمالية حدوثه. الرواية قنبلة إشكاليّة، فكان هنالك من وافقني وتعصّب وتماهى معها إلى أبعد الحدود، وكان هنالك من تركها جانبا خاصة مع التقدم في عرض شخصية خازن جهنم العربي. في ظروف غير كنّا سنعتقد أنّ الرواية تتناول واقعا من كوكب آخر، لكن زياراتنا للمغرب الحبيب، وروايتي شكري الخبز والشطار، كانت قد عرّفتانا بأن هذا الواقع ممكن، خاصة وأنه شبيه لواقع المخيمات الصفيحيّة للاجئين من أبناء شعبنا الفلسطيني مباشرة بعد النكبة والحروب، لكن الكاتب تجاوز شكري وكان بالشجاعة بأنّه أشار إلى أذرع الشر والتسلط، من مخزن ودين وجهل وحثالة وعنصرية عرقية ومناطقية، إضافة إلى أنّ الرواية فيها ما بعد البراءة وسذاجة خال مراد الى أهمية وعي الظلم وبمفهوم أنّ السائر بقلب الغابة يستصعب عدّ أشجارها، وقد يكون الحلّ أحيانا كثيرة هو حرق الغابة كي يتسنى إعطاء فرصة لبذار غير بذار الشوك أن تطلع وتزاحم وتسمق.
المربيّة مهى خوري: تنتقد الرواية واقع المجتمع العربي في ظل الأنظمة القمعية الموجودة ليس فقط في المغرب بل بكثير من الدول العربية. نظام ينتهك حقوق الانسان، حيث يعيش المهمّشون في بؤس وشقاء، ولهذا السبب يتّجه الشباب والاولاد حتى إلى الانحراف بشتى الطرق وتتجه معظم النساء إلى بيوت الدعارة لنيل لقمة العيش وإطعام اطفالهن.
الرواية مبنيّة على الظلم والكآبة، لغة الشخصيات المعجونة بالفقر والعنف والجريمة والدعارة كانت لغة لاذعة في الرواية.
تظهر الدولة كعصابة تزرع عيونها وقوادها داخل أحياء الصفيح لتمارس الارهاب والغطرسة المميتة في الحي الذي لا تنفع فيه الافكار ولا المبادئ ولا القيم، ما ينفع الانسان هو قدرته على الفتك أو قدرته على تجنب الطعنات القاتلة.
اقتنع بطل الرواية في النهاية بأنّه ينتمي إلى عالم الجريمة مع أنه كان يخطط للهرب من السجن ولكن خطته لم تنجح.
المحامي حسن عبادي: تنقص الكتاب الحبكة الروائيّة، وشخصيّاته سطحيّة دون عمق، واستعمال الألفاظ البذيئة(على حدّ تعبير حفيدي ماهر)، والجرأة وحدها لا تصنع أدبًا. نجح الكاتب، وبجرأة لا يُحسد عليها، بتعرية المجتمع وتشخيص الفروق الطبقيّة داخله، والغوص في قاعه من رشاوى، إجرام، القوي يأكل الضعيف، الدعارة ، الفساد، الإتاوات والخاوة، وغيرها من ظواهر تناولها. رأيت الكتاب كنصّ سردي مفتوح يصوّر حيوات المقهورين والمقموعين في المغرب، فالفقير يولد مكسورًا منذ البداية، تُخضعه السلطة ليطأطئ رأسه في الشوارع، خانع راضٍ بحالته وكأنّها قسمة ونصيب، يرعبه القانون والملك والله ويجعلونه يؤمن أنّ ثلاثتها واحد أحد!
يصف الكاتب حياة الفقر والشارع الذي يفصل أكواخ حي أبي رقاق وبين فلل السويسي وقصوره، بين الفقر والغنى الفاحش، بين مرقد الحثالة والجنّة! عالمه مقسّم إلى أغنياء وفقراء، أسياد وأقنان، أذكياء ومغفّلين، نبلاء وحثالة، فبيوت الفقراء دون مكتبة ولا مصباح…ولا أمل!! أوجدوا القانون و”العدالة” الموهومة لحماية حكم الأغنياء والأسياد والحفاظ عليه، لا غير، مستعينين بالوشاة والأعوان والمنتفعين من أصحاب النفوس الرخيصة.
يصوّر الكاتب الدولة بالعصابة الكبرى؛ تكدّس الثروة من عائدات كلّ تجارة ممكنة، “من الحشيش إلى السمك إلى الملح إلى الصلاة إلى الأعضاء البشريّة إلى الفوسفات إلى البصاق إلى الزعفران والغاسول والصابون البلدي والسجائر والكحول إلى العوازل الطبية والقوادة في صورتها السياحية المشرقة اللّيكْسْ”(ص.32) فإمّا أن تنضم إلى عصابة الدولة وإمّا أن تنضمّ إلى عصابة أخرى تؤسّسها. هذا هو قانون الغاب…صراع البقاء على رِجل واحدة!
يتناول الكاتب بحرقة وضع المرأة، فهي ضحيّة الاغتصاب والاستغلال والتهميش…والدعارة، تتنقلّ من بلدة إلى أخرى حاملًا أو طريدة أو هاربة لا يُعرف لها أصل أو فصل، لتعيش الحضيض.
برع الكاتب في الوصف، وكأنّي به يتجوّل بكاميرة ذات عدسة على الطراز الحديث، خاصة وصفه للبنية التحتيّة للحيّ وللنهر على أسماكه وأنواعها: البوري، النُّون الأفعواني، الباغْباغ، السبّيبّي وغيرها.
صوّر الكاتب بُعبع الدين والتخويف باسمه للسيطرة على أيّة معارضة للسلطة فيصفون المُعارض بالملحِد الذي “لا يصوم رمضان” والكافر لمقاطعته ونبذه باسم الدين والملك! واعتبروا التفكير بالتحرّر كفرًا.
كما وصوّر النزوح من القرية إثر سلبهم أراضيهم فحلموا بحياة أفضل وبالثراء السريع ليصدمهم واقع مرير، سحر المدينة الموعود وحلمها البرّاق يحوّله إلى حرفيّ يمتهن كلّ شغلة؛ كمهنة الكوّاي أو الخيّاط أو الخرّاز أو الصبّاغ أو النجّار أو الخضار أو السفناج أو الصياد أو البناء أو الشوّاف أو العطار أو حارس الفيلات والسيارات أو الحمّال أو الخدمة في البيوت…أو حفر القبور وحراسة المقابر الخ…”(ص. 131) ولكن عقولهم وأرواحهم ظلّت هناك، ظلّوا فلاحين مزارعين رعاة دون أراضٍ ومحاريث ومواشٍ!
ما أصعب الحياة حين يكون الحلم أن تكبر لتصير زعيم عصابة لتفتخر بشهادتك التخرجيّة من السجن “حسب عدد سنوات الحبس ونوع الجنحة الجنائيّة والوشم”! وتصبح الفلوس هي الشريفة العفيفة الوحيدة التي يثق في شرفها كلّ الرجال!!
راقت لي سخريته السوداويّة القاتلة؛ فالسجن أرحم من الحيّ، ويحميه من انتقامات عصابات الحشيش ويقدّم له الطعام والسكن وبابًا يغلق بالمزاليج والأقفال! وتصل أوجها حين يصف با موحة/زعيم العصابة رجلًا معقولًا صالحًا متدينًا لا يخلع الجلباب الأبيض ولا تترك يده سبحة التسبيح، فيقول: “كان يأمر أولاده بالقسط والعدل وعدم الغشّ في بيع الكيف، كما أنّه ظلّ محافظًا على الصدقة والزكاة من أرباح تلك التجارة فلا يضام عنده مظلوم ولا يرجع بيته محتاج دون أن ينال طعامه وكساءه…وكيفه”!(ص. 79)
أنهي بحلم مراد: “أنا أيضًا سأهرب بطريقتي. إمّا أن أصير فردًا في عصابة الدولة، وإمّا أن تصير الدولة وكلّ العالم أعدائي. إمّا أن تمنحني الدولة ذلك الشرف، شرف متعاون ولص مرخص له يأخذ أتعابه كلّ شهر أو كل يوم أو مرة واحدة في العمر، وإمّا فأنا الذي سأمنح للدولة شرف عداوتي حتى النهاية” (ص. 183).
من الجدير بالذكر أن الكتاب صدر بالتعاون مع مشروع “آفاق لكتابة الرواية” بإشراف الروائي جبّور الدويهي، المنطلق من الصندوق العربي للثقافة والفنون الذي يسعى لدعم مواهب روائيّة شابّة ومواكبتها وتمكين قدراتها الروائيّة والإبداعيّة.
حسن عبادي