جنوبي.. في الجنوبي
تاريخ النشر: 28/07/20 | 9:39عندما أقرأ كتابًا للمرّة الأولى أشعر أنّي قد كسبتُ صديقًا جديدًا، وعندما أقرأه للمرّة الثانية أشعر أنّي ألتقي صديقًا قديمًا (هذا ما قاله الكاتب والشاعر أوليفر سميث) ولحُسنِ حظّي ألتقيت ب”جنوبي” للمرّة الثانية؛ الأولى حين استلمت نسخة الكترونيّة منه(شخصيًّا، أمقت القراءة عبر الحاسوب وأفضّل الورقيّة) والثانية قبل أسبوعين، حين استلمت نسخة ورقيّة أحضرتها الصديقة نضال من رام الله، وجاءت قراءتها مختلفة بعض الشيء وتساءلت: هل هذا مرتبط بمقولة نظريّة التلقّي الألمانيّة “إنّ قراءة نصّ واحد في زمنين مختلفين لنفس القارئ تؤدّي إلى قراءتين مختلفتين”؟
صدرت رواية “جنوبي” للإعلامي الكاتب رمضان الرواشدة عن دار الشروق للنَّشر والتَّوزيع (تحوي 96 صفحة؛ صدر له روايات: “الحمراوي”، أغنية الرعاة” و”النهر لا يفصلني عنك”، وكذلك مجموعتان قصصيّتان: “انتفاضة” و”تلك الليلة”).
يستهلّ الرواشدة الكتاب بمقولة أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، أبو حيان التوحيدي: “أغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه، وأبعد البُعداء من كان بعيدًا في محل قُربِه، سِرُّه عَلنٌ، وخوفُه وطن”، عتبة نصيّة متينة تصوّر روح الكتاب. نعم، الشعور بالغربة داخل الوطن من أصعب أنواع الإغتراب.
كأنّي بالرواية سيرة ذاتيّة لكاتبها؛ يطلّ بنا عبر ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، متنقّلًا بين إربد ومَعان وعمّان، والتوليفة الاجتماعية والسياسيّة التي سادت تلك الأيّام، آخذًا بعين الاعتبار اللاجئين الفلسطينيّين، عبر قرية ياصيد وبيت محيسر المهجّرة، ليصوّر لنا تداعيات أيلول وأثرها.
يتذكّر طفولته المفقودة في قصيدة “الجنوبي” للشاعر أمل دنقل:
“هل أنا كنت طفلًا!؟!
أم أنَّ الذي كان طفلًا سواي!
هذه الصورة العائلية:
كان أبي جالسًا وأنا واقف
تتدلّى يداي
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجًّا
وعلَّمت القلب أن يحترس..”(ص.23)
عمان كانت خليطًا من أردنيين من الجنوب والشمال، وفلسطينيين لاجئين، نَوَر وغيرهم ، يسكن في نفس الحارة “طفايلة وكركيّين وشوابكة ومعانيين.. وأهالي بلدة محسير الفلسطينيّة، ممّن شُرّدوا عن فلسطين”.
يصف الكاتب التحوّلات الاجتماعيّة، الاقتصاديّة والسياسيّة في المجتمع الأردني من خلال بطله “جنوبي بن سمعان”، طفولته ونشأته على مراحلها، علاقته بأهله وبالسلطة، المرحلة الجامعيّة، النشاط الطلّابيّ والجامعيّ، بحلوها ومرّها، بنجاحاتها، إرهاصاتها وإخفاقاتها، حسب قناعاته. كذلك علاقاته بالمؤسّسة العسكريّة والأمنيّة، مرورًا بهبّة نيسان تسعة وثمانين، تظاهرات جامعة اليرموك، انخراطه في المقاومة ببيروت وغيرها.
يظلّ بطله مُطارداً، مُعذّبًا وغريبًا، كما رأت العرّافة وهي تتفحّص عشرة قروش الطفل، رغم التحوّلات التي مرّ بها، فالبؤس والفقر يلاحقاه أينما حلّ، يمرّ بتقلّبات فكريّة ومعيشيّة رغم نهايته في حضن السلطة الدافئ.
في الرواية الكثير من جلد الذات، يصل أوجه بعنفوانيّة حين يقول مناجيًا أناه: “أنت الآن تعاني الشيزوفرينيا، بين الحنين إلى أيام المعارضة والواقع الذي تعيشه، متمتّعًا بفضلات ما تقدِّمه لك الدولة بعد أن أصبحت جزءًا منها، وتنطق باسمها!.. يا الله كم تغيّرت يا جنوبي! ملعونة هي السلطة، فهي محرقة لكلِّ الطيّبين من الأنقياء مثلك!.. وهي مثل الفانوس أو “الشمبر”، كما يسمّونه في بلدتك الجنوبيّة، يحرق الفراشات التي تقترب منه؛ وأنت رغم أنّك لم تحترق لأنّك بقيت على مسافة مع كلّ الناس، إلا أنك جزء من السلطة!”(ص. 92)
قادني وصف الرواشدة للاعتقال والتعذيب داخل المعتقل إلى لقاءاتي بالأسرى في الآونة الأخيرة، يبدو أنّها متشابهة رغم هويّة السجّان، وتغيّر الزمان والمكان، فالهمجيّة متشابهة، وكما يقول جنوبي: “السجن له طعمٌ آخر: التعذيب له طعم أخر، وقراءة القرآن وهو الكتاب الوحيد المسموح والموضوع في الزنزانة، له طعمٌ آخر!” (ص. 39)
يستند الكاتب إلى أحداث تاريخيّة وقعت في الأردن، كأحداث أيلول الأسود عام 1970 بين الجيش الأردني والفلسطينيّين، ويراها الكاتب نتاج النكبة التي ولّدت تلك الأحداث، أحداث جامعة اليرموك في مدينة إربد عام 1986، كركيزة لسرد ماتع كما فعل الكاتب جمال أبو غيدا في روايته “خابية الحنين”.
أسلوب الرواشدة شاعريّ ولغته انسيابيّة حين يقول:
“فكن اتزاني
فبهاؤك تجلٍ
وتجليك بهاءُ
وأنت توغل في القديم والحديث والآتي
أسكرني الليل بخمر الأرق
وهدّني الشوق بحُمَّى السهاد”(ص.72)
……
“يدي مغلولةٌ
وغِلي معتقٌ
والعتق منك
وأنت المنعتق
والبحر أنت وأنا الماء والقطر السابحُ بلا اهتداء
هدّني التعب
ودهدتني جنية الانطواء.”(ص.74)
إنّها حقًا مناجاة وابتهالات صوفيّة يمتزج فيها الحب والعشق الإلهي بالحب للمرأة، ثمة عطش يسكن عروق الروح التوّاقة لما هو غامض وبعيد ومجهول.
يصف الكاتب بمجهريّة دور المخابرات الأردنيّة وسياسة الملاحقة والترهيب آنذاك: “إنَّ المخابرات أعرف اللي ببطن أُمه”!، “أخذت “إضبارتي” تكبر لدى الأجهزة الأمنيّة”.
يلجأ الرواشدة إلى السخرية السوداويّة القاتلة: “كان أحد الدكنجيّة يغش في البيع والمشترى مع أنّه كان يؤم الناس في الصلاة!”، وكذلك الأمر حين يصف علامات الثوريّة وشعاراتها البارزة “أصبحت علمًا بارزًا: بلحيتي الكثّة، وشعري الطويل، وبنطالي “الجينز” وهي حالة الطلبة اليساريين أيام منتصف الثمانينات”، وحين يعبّر عن مرارته “دخلت السجن أربع مرّاتٍ وفي كلّ مرة كنت تعتقد أنَّ الجماهير ستكون بانتظارك عند خروجك، ليتبيّن لك أنَّ سائق التكسي الذي تركبه…لا يعرف حتى معنى الديمقراطية والحريّة؛ فكلّ ما يؤمن به هو كيف يوفّر الخبز والطعام ورسوم المدارس والكتب لأولاده!”(ص. 77)
للكاتب قدرة على الوصف فأبدع حين وصف أم محمد الكركيّة وطيبتها حين خبّأت جنوبي من الملاحقات الأمنيّة والمطاردات (ص. 37) فجاءني ما كتبه صديقي الأسير كميل أبو حنيش عن أم عسكر النابلسيّة، كم هنّ متشابهات!
استعان الرواشدة باللغة المحكيّة أحيانًا، دون دبلجات ومجمّلات لفظيّة فلاءمت النصّ وجاءت بنيويّة دون أدنى ابتذال، وعلى سبيل المثال: “مونِتنا”، “التْرَك”، “الستيرنغ”، “الرواح”، “الباكورة”، “يطزني إبرة”، “الزينكو”، “زواحيق”، “المطعمجي”، “قريد العش”، “اضبارتي”، “هوشة”، “طوشة”، نقّيفة”، “لطشني كفًّا”، “شرّاني”، “خمّ الدجاج”، “الحسبة”، “الدكنجيّة”، “عملت طرّيشًا”، “الشمبر”.
كذلك حين تناول العادات والتقاليد، صوّر الدبكة الجنوبيّة، الدبكة الشماليّة، “النْزالة”(أهل البيت الأصلي يولِمون للسكان الجدد سدرًا من الكبسة السعوديّة)، الكبسة المعانيّة، المناسف، “المشبّك”، “الحامض حلو”…و”العرّافة النّوريّة”.
يصف نرجسيّة المثقّفين وخيانتهم، “إن كنتَ دون الثلاثين ولم تكن ثوريًا فأنت لا قلب لك، وإذا أنت أصبحت بعد الثلاثين وما زلت ثوريًا فأنت لا عقل لك”!(ص.22)، يُعنوِن الفصل الأخير “آه منكم أيها المثقفون الأوغاد”؛ جائني ما قاله فرانس فانون في مثقّفي السلطة ومثقّفي الاستعمار: “وهكذا ترى الناسَ الذين كانوا في مؤخّرة الكفاح الوطني، الناس الذين لم يشتركوا يومًا في النضال، يصبحون بنوع من البهلوانيّة طليعة المفاوضين في سبيل إيجاد تسوية لا لشيء إلا لأنهم حرصوا دائمًا على أن تبقى الصلة قائمة بينهم وبين السلطة المستعمرة”، وكذلك ما كتبه إدوارد سعيد حول خيانة المثقّف: “إن كانت الحياة الإنسانيّة مقدّسة، يجب ألا يُضحّى بها باحتقار، وإن لم يكن الضحايا من البيض والأوربيين. يجب دائماً على المرء أن يبدأ مقاومته من وطنه ضدّ السلطة، كمواطن يمكنه التأثير؛ لكن يا للأسف، فقد سيطرت القومية المتّفقة، المتقنّعة بالوطنيّة … التي تضع الولاء للأمّة فوق كل اعتبار. في تلك النقطة ليس هناك سوى خيانة المثقّفين والإفلاس الأخلاقي الكامل”.
ملاحظة لا بدّ منها؛ صنّف الناشر الكتاب، كما جاء على غلافه، “رواية”؛ تساءلت إذا الأمر وسيلة تسويقيّة؟ فالكتاب يصلح ليكون سيرنصيّة، روانصيّة، سرديّة أو نص سردي مفتوح وتنقصه الحبكة الروائيّة، تلك التي يجيدها الرواشدة كما لمسنا في رواياته السابقة، فنحن نعيش زمن الرواية!
أنهي بما جاء في صفحة 92: “أهكذا هي نهاية المثقّف من اليسار إلى الناصريّة إلى الصوفيّة إلى حضن السلطة؟!!”
حسن عبادي