دعاءٌ مُستجاب/ بقلم الكاتبة جميلة شحادة
تاريخ النشر: 15/08/20 | 19:12يا الله! ألطف بنا. يا الله! لماذا استجبتَ لدعائها؟ بهذه العبارات كانت سحر تخاطب الله كلَّما اشّتدتْ أوجاع أمها وعجزتْ عن تخفيف ألمها. كانت تشعر سحر بعد مرض أمها أنها المسؤولة الأولى عن إدارة شؤون المنزل، ولا سيما أن عمل والدها كان يضطَّره لأن يقضي جلَّ النهار وجزءا من الليل خارجه. كانت سحر في كثير من الأحيان تشعر بأنها وأخواتها الثمانية، مسؤولات عن إصابة أمها بالمرض الخبيث، لكن الغريب أنها حرّرت أخاها نبيل من هذه المسؤولية؛ ولعل ذلك يعود الى نشأتها وتربيتها في مجتمع بطريركي تسوده العقلية الذكورية والثقافة الشرقية المتخلفة، تلك الثقافة التي تفاضل بين الذكر والأنثى منذ لحظة الولادة بل وما قبل الولادة، وتربي الذكر على حب التملك والسلطة والهيمنة وكبت المرأة، وتربي الأنثى على الخضوع والكبت فتجعل منها إما امرأة خنوعة، تشعر بالدونية وبشعور الضحية لنواميس مجتمعها؛ وإما امرأة “مسترجلة” بنظر مجتمعها لأنها نفضت عن فكرِها غبار الخنوع والخضوع ونهضت لتناضل من أجل نيل حقوقها. او لعل ذلك يعود الى حنو سحر على أخيها الصغير ابن السبعة أشهر، وشعورها نحوه بشعور الشفقة وشعور الأمومة.
سحر الابنة البِكر لوالديْها والبالغة الثانية والعشرين سنة، لم تتردد بالتوقف عن متابعة دراستها الجامعية لمدة عام عندما اشتد المرض على والدتها وتهور وضعها الصحيّ، رغم انها في السنة الأخيرة لدراستها، سنة تخرجها مهندسة كهرباء من المعهد التطبيقي التخنيون في حيفا. لقد عاشت سحر طفولة سعيدة في ظل والديها وجدّها وجدتها وأعمامها وزوجاتهم وأبنائهم الذين يسكنون في بيوت متجاورة في ذات الحي. لم ينغّص حياتها وحياة عائلتها شيء. فعائلتها تعيش في بُحبوحة، وتنعم بالترابط الأسري، وأحلام والديْها اتشحت باللون الوردي تجاه مستقبلها ومستقبل أختيْها، أسيل وهديل. غير أن هذه الأحلام أخذ لونها يبهت شيئا فشيئا بنظر أمها كلّما تمخّض حملها عن مولودة أنثى؛ حتى تلاشى اللون الوردي نهائيا عن أحلام الأم بقدوم المولودة رقم 9. كانت الأم بعمر التاسعة عشرة عندما أنجبت سحر التي لوّنت حياتها وحياة زوجها بكل ألوان السعادة. كان من الممكن أن تدوم هذه السعادة لو اكتفتِ الأم بولادة أربع بنات فقط، لكنها لم تكتفِ وراحت تحمِل كل سنة أو سنتين على أمل أن يرزقها الله بمولود ذكر، يكون ولي عهد زوجها. هذا بالرغم من أن زوجها لم يصرّح لها ولو لمرة واحدة، عن رغبته بأن يكون له مولود ذكر؛ فهو يحبها ويحب بناته. الا أن أم سحر كانت تقول لنفسها: ما دام يوافق على دخولي في الحمل كل مرة؛ فهي إشارة مبطّنة لي بأنه يريد مولودا ذكرا، وينتظر قدومه؛ ولا سيما أن تلميحات أمه وزوجات أخوته عن خلفته البنات في كل مناسبة أصبحت تنغص عليه وعليها.
كانت أم سحر تقرأ خيبة حماتها وسلفاتها منها لخلفتها البنات على تقاسيم وجوههن، وتسمع عن الذنب الذي لم تقترفه في صمت كلامهن، لكنها ظلت صابرة، وأوصدت باب قلبها على حزنها المشوب بالغضب، وأحكمت إغلاقه خشية خيانة مشاعرها لها وتسللها للخارج. ظلت صامدة وصابرة، الى أن سمعتْ ذات يومٍ صراخ حماتها في ساحة الدار، فخرجت تستوضح الذي حدث. كانت حماتها تمسك بيدها اليسرى كتف الطفلة قمر ابنة الخمس سنوات وتهزها، وبسبابتها اليمنى تلوّح أمام وجه قمر موبخة إياها على تطاولها على ابن عمها ولكمه على وجهه. حثّت أم سحر خطاها باتجاه حماتها، وعندما وصلتها سحبت ابنتها اليها، ضمتها لحضنها ونظرت الى حماتها باستهجان. استشاطت الحماة غضبا وصرخت: هذا ما خشيناه! أن تصبح البنت ولدا في غياب الولد يا أم البنات.
دخلت ام سحر الى بيتها وهي تخنق دموعها في محاجرها، تحسّست الجنين في بطنها، ثمّ رفعت يديْها الى السماء بالدعاء قائلة: “اللهم اجعل ما في رحمي ذكرا سليما معافى من كل عاهة وبلاء، اللهم كحّل نظري برؤيته ولو لأيام معدودات، ثم اقبض روحي واجعلني في ذمتك وفي جوارك يا أرحم الراحمين.
*****************************************
بقلم، جميلة شحادة، كاتبة وقاصة من الناصرة.
15.8.2020