ما الّذي يحتاجه تلاميذنا في المدارس لاستشراف مستقبل واعد؟
تاريخ النشر: 25/08/20 | 20:56بروفيسور قصي حاج يحيى*
تعدّدت المطالب المتنوّعة ومن جهات عديدة من أجل النهوض بجهاز التعليم العربي في البلاد، إن كانت المطالب كميّة وإن كانت نوعيّة. في الواقع، إنّ جميع هذه المطالب شرعية وباتت متّفقا عليها بالإجماع، وجميعها تصبّ في تطوير جودة عملية التعليم والتعلّم ونجاحها وبالتالي تحسين مخرّجات جهاز التعليم العربي عامّة لخدمة المجتمع ونهضته علميا، ثقافيا وقيميا.
ما من شك أنّ عملية التعليم والتعلّم في كثير من أنحاء المعمورة تمرّ وبوتيرة تسارعيّة في حالات من التحوّلات والتغيّرات المتّصلة بشكل مباشر ووثيق بالتغيّرات التكنولوجية المتسارعة وبتطوّر الثقافة الرقميّة “الديجاتليّة” والتي باتت جزءا من حياتنا شئنا أم أبينا من قبل جائحة الكورونا، وستستمرّ في التطوّر أيضا بعد القضاء عليها بمشيئة الله. لذلك علينا أن نتعامل مع هذه التحوّلات المتسارعة والتي تطرق أبوابنا في جميع مناحي الحياة ومع تداعياتها وفقا لسياقنا الثقافي والاجتماعي والتربوي.
إنّ عملية التعليم والتعلّم يجب أن تكون عملية ديناميكية تتناسب وتتلاءم مع الظروف المجتمعية والثقافية والاقتصادية المحيطة بنا، والآخذة في التغيّر بصورة سريعة لم يسبق لها مثيل من قبل. لا يمكننا القبوع والانتظار أو التروّي في تبنّي هذا المسار بشكل تدريجي و”حلزوني” لأنّنا سوف لا نلحق بعجلة هذا التسارع التّطويري، وسنبقى مكاننا “نلهث” لسنين طويلة دون اللحاق به ويكون قد فات أوان التّقدم في مسار متواز معه مستقبلا.
عملية التعليم والتعلّم في ظل الثقافة “الديجيتالية” هذه والتّطورات التكنولوجية الجديدة تحتّم علينا الاهتمام كثيرا وبصورة معمّقة في كيفية تحضير تلاميذنا وتجهيزهم لمستقبل متغيّر ومتسارع. ولا يفوتنا أنّه في ظل هذه التغيُّرات الحاصلة رأسا على عقِب والجارية بشكل متسارع لا يمكن لأحد مِنّا التنبؤ بعد عشرين سنة من الان بمشيئة الله، ما هي المواضيع وما هي المِهن التي يتعيّن علينا تحضير وتوجيه وإرشاد تلاميذنا إليها. إضافة إلى ذلك، لا يمكن بالطبع أن نُبقي طموح تلاميذنا محصورة ومقصورة على المواضيع الطبية والطبية المساعدة ومواضيع “شبلونية” أصبحت جزءا من روتينية توجيههم الدّراسي ومنظرا ثابتا يطلّون عليه من شبّاكهم وينظرون من خلاله إلى تطويرهم وتطوّرهم الوظيفي “المعتاد” رغم التغيرات الكبيرة الحاصلة من حولهم. صحيح أنّنا نعيش في بيئة وظروف ضبابيّة وفي ظل تهميش وتمييز واضح، إلّا أنّه علينا مواكبة تعليمنا وتعلّمنا بما يتمشّى ويتلاءَم مع الظروف متسارعة التغيُّر من حولنا.
إنّ عملية التعليم والتعلّم في ظل الظروف الجديدة للثقافة الرقمية والتي غزت كل مجالات الحياة، يجب ألّا تركّز على اكتساب المعرفة فقط. فالظروف الجديدة تحتّم علينا التعامل مع المركبّات الثقافية والمهارات الرقمية الآخذة بالتطوّر والازدياد كلّ يوم. والتلاميذ أصبحوا لا يحتاجون إلى اكتساب المعرفة فقط، وإنّما هم بحاجة الى اكتساب وتعلّم مهارات جديدة ومستجدّة تعدّهم خير إعداد للمستقبل المتغيّر بتسارع مستمرّ. إنّهم بحاجة الى مهارات العمل في مجموعات، مهارات حل مشاكل مفتوحة ومغلقة، تعزيز مهارات الفضول والإبداع والاستكشاف (من الطفولة المبكرة)، مهارات التعلّم من النجاحات وتحليل أسبابها وأيضا من الفشل وتحليل أسبابه أيضا! إنّهم بحاجة أيضا إلى التركيز على سيرورة التعلّم وفهمه وليس فقط التركيز على المنتوج (العلامة النهائية أو علامة البجروت مثلا). في ظل الظروف متسارعة التغيُّر، على تلاميذنا اعتبار موضوع الرياضيات كلغة وليس فقط كحل معادلات. على تلاميذنا أن يكونوا على إلمام كافٍ بموضوع الحوسبة في العالم الرقمي (في المرحلة الابتدائية). كما وعليهم الانكشاف على الفنون بجميع أنواعها، وخصوصا الفنون البصريّة والتي تحتلّ حيّزا واسعا من حياتنا بمختلف مناحيها. لكي يتمّ اكتساب هذه المهارات الهامّة لحياة المستقبل، من المهم استغلال التربية المنهجية والتربية اللامنهجية. فالمهارات المطلوبة يمكنها أن تُكتسب أيضا من خلال سيرورة الفعاليات والمشاريع الجارية خارج جدران الصّف وخارج أروقة المدرسة، لا سيّما وأنّ اكتساب المهارات يكون ناجحا من خلال خوض التجربة الحياتيّة والتفاعل والتماهي مع سيرورة الفعالية اللامنهجية أكثر منه بالنسبة للتعلّم عن منتوج الفعالية أو المشروع بصورة نظرية بحتة.
من المهم ألّا نهمّش المعرفة المكتسبة، فهي ركن مهم في عملية التعليم والتعلّم، ولكن من المهم إلى جانب ذلك التركيز على المعارف الأساسية التي تساعد تلاميذنا على استكشاف معرفة جديدة. المعرفة المكتسبة يجب أن تكون أساسا لبلورة معرفة إضافية لهم. ففي كلّ فترة زمنية نحن نرى تقلّبا وتغيُّرا في المواضيع التعليمية المدرسية والتي تتّجه نحو منظومة متعدّدة الاختصاصات والثقافات. من أجل إكساب وتذويت هذه المهارات في مدارسنا، نحن بحاجة إلى معلمات ومعلمين يعلّمون التلاميذ كيف يتعلّمون وكيف يكتسبون هذه المهارات المهمة لمستقبلهم، وهي في المقابل مهمة أكثر للتطور المهني ّ للمعلمات وللمعلمين. في هذه السيرورة من التعليم والتعلّم، على المعلمات والمعلمين أن يشعروا أيضا انهم هم أنفسهم موجودون في سيرورة تعلّم مستمر وفي سيرورة مستجدّة دائما وأبدا.
في الختام نقول: نظرا للظروف المستجدّة من حولنا من الناحية التكنولوجية والثقافة الديجيتالية، فإنّنا لا نعرف ما هي المواضيع التي علينا توجيه تلاميذنا صوبها بعد عشرين سنة كما أشرنا سابقا، ولكننا بتنا نعرف ما هي المهارات المطلوبة التي على تلاميذنا بل وتلاميذ العالم اكتسابها في العشرين سنة القادمة بمشيئة الله، مع مراعاة خصوصياتنا وسياقنا الثقافي. نرجو لتلاميذنا ولمعلمينا سنة تعليميّة موفّقة مكلّلة بالنجاح ومفعمة بالصحة والسلامة. إنّه سميع عليم.
*محاضر ورئيس المعهد الأكاديمي العربي للتربية، الكلية الأكاديمية بيت بيرل