قراءة نقدية في مسرحية “زهور وعقارب” للكاتب العراقي (صبَّاح الأنباري)
تاريخ النشر: 26/08/20 | 9:57
أ. ولاء نافذ شحادة
غـــــــزة/ فلسطين
يختلف التأويل النصي تبعًا لاختلاف مرجعيات القرّاء الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والأدبية، وغيرها، فيحمل النص ما يحمل من المعاني التي تخضع لتفسيرات وتحليلات ووجهات نظر مختلفة ومتعددة لا يحدها زمان أو مكان، وبذلك يخرج النص الأدبي من دائرة المبدع إلى دائرة المتلقي، الذي يصبح شريكه في بلورة الرؤية والفكرة، فمن المتلقي الساكن إلى المتلقي النشط اليقظ، ومن النص المغلق المبهم إلى النص المفتوح الواضح، ولا ينبغي للمتلقي أن يُثقل النص الإبداعي المكتوب بنصوص متخيلة لا تنتمي إلى مستواه، إنما عليه أن يخلق حالة من التماسك والربط بين المستوى السطحي الظاهر، والمستوى العميق الباطن.
يعتمد “المسرح منذ نشأته على التلاعب بين الخفي والظاهر، وعلى الظلمة التي على حين فجأة تقدم معنى” ، وإن الرهان على وجود المسرح ليس غايته “تصوير العالم إنما الرد على وجوده الحقيقي بوجود كلامي” ، وقد جسّد الأنباري في مسرحيته “زهور وعقارب” جدلية لا يحدها زمان أو مكان بعينهما، إنما تمتد هذه الجدلية بكل قوة وتجبر، ألا وهي جدلية العلاقة بين السلطة (النظام الحاكم) والفن، فالنظام الحاكم متسلط وقمعي ومراوغ، ويعمد دومًا إلى تزييف الواقع، وترويض المواطن وتدجينه، وحرفه عن المسار الصحيح، أما الفن فهو حرٌّ طليق، يريد انعكاس الأشياء بحذافيرها تمامًا كانعكاسها في المرآة، فأدخل الكاتب في مسرحيته الفن في صراع مع الحكم ومثّل ذلك عبر شخصية الأب والذي هو مثال التسلط والقوة الحاكمة، وشخصية الفنان والذي هو مثال للإنسانية بمتطلباتها الحياتية ومقوماتها الوجودية.
إن العالم الأول الذي يطلُّ على المتلقي بأي عمل أدبي هو العنوان، والذي له علاقتان أساسيتان وهما: علاقته بالنص، وعلاقته بمتلقي النص، فعن علاقته بالنص فإنه يعطي فكرية أولية ومبدئية عن محتوى النص، وأما عن علاقته بالمتلقي فإنه يشكل العتبة الأولى له تلك التي إما أن تدفعه إلى الولوج في النص الأدبي أو تركه له.
عنوان المسرحية (زهور وعقارب) صُبَّ في قالب المفارقة، فأتى صورة للتناقض بين ما هو كائن (حالة الواقع الراهنة)، وما يجب أن يكون على طبيعته وأحقيته الأصلية، وإن عبارة العنوان المفارقة حققت وظائف جمالية، كالتشويق والإغراء والوصف وإعمال ذهن المتلقي، ودفعت به للولوج في النص المسرحي واستنطاق دلالاته وفك رموزه من خلال هذه الثنائية الضدية بصورة قصدية جزئية تحيل إلى الكلية القصدية، وإن هذه الثنائية فتحت باب التساؤلات أمام القارئ، ومنها: ما المقصود بالزهور؟ وما المقصود بالعقارب؟ ولماذا عطف العقارب على الزهور؟ ولماذا أتى اللفظان نكرة وليس معرفة؟ إن هذه التساؤلات المتتالية تنم عن حالة الغموض والإبهام التي تعتري العنوان، وإن هذا الإبهام ينطوي على دلالة أن العالم الذي سيقدمه الكاتب هو عالم مبهم يحارب وعي وإدراك وإرادة من هم على أرض الواقع، ولا شك أن هذا الإبهام لن يزول إلا بالقراءة وتقدم الحدث شيئًا فشيئًا إلى أن نصل تدريجيًا للمقصود.
العنوان جملة اسمية ثنائية معطوفة جمعت بين لفظين متضادين نكرين، وتنكير الأسماء جعل العنوان حمّالًا لأوجه دلالية مختلفة مما وضع القارئ في دائرة لا متناهية من التأويلات والتفسيرات، وبما أن العنوان ذو علاقة بمضمون المسرحية سواء بشكل جزئي أو كلي، ندرك أن المسرحية ستقدم لنا عالمًا متشابكًا يقوم على الثنائيات الضدية، والتي تشكل صراعًا مفتوحًا لا حسم له. قد تكون الزهور رمزًا للجمال، أو رمزًا للهشاشة والضعف، أو رمزًا لرفاهية الحاكم، أو رمزًا لحالة الزيف التي تدعيها السلطة تجاه المواطن، وقد تكون العقارب رمزًا للشر والتسلط، أو رمزًا للقوة والثورة على الواقع ورفضه، أو رمزًا للحماية ودفع الشرور كما ورد في التراث العربي القديم، وأخيرًا قد يكون العقرب رمزًا لإعادة ترجمة الواقع من جديد، أي إعادة قلب لموازين القوى في السلطة الحاكمة، وبؤرة انطلاق نحو عالم متحول عن العالم السلطوي المعروف. إن كل هذه التأويلات تدفعنا إلى الولوج في النص المسرحي وتقديم رؤيتنا النقدية حوله.
بدأ الكاتب مباشرة في تحديد المكان في النص المسرحي؛ لما له من علاقة وطيدة بمضمونه، وإن هذا التحديد يجعل الأحداث تسير بشكلها الصحيح، وتستمر بتفاعلها داخله، كما أنه يبرز المستوى الاجتماعي والثقافي للشخصيات التي تسكنه، فجعل الأحداث تدور في (القصر) -قصر الأب- وقام بوصفه بما فيه من أثاث وديكور، فنجد الوصف في هذا النص “صالة مؤثثة بأثاث فخم، تزين جدرانها لوحات زيتية غاية في الجمال. تطفأ الأضواء. موسيقا، ومؤثرات غرائبية، وإضاءة غير ثابتة تبرق عدة مرات قبل أن نسمع صرخة نوار”، وهناك أماكن برزت أثناء الحوار بين الشخصيات، كالمشفى، وصالة العرض، وهي أماكن تتشكل عبر مخيلة القارئ، وتسمح له بربط دلالتها مع المكان الرئيس؛ لتوليد دلالات أخرى لم تكن تظهر لو انعدمت العلاقة بين تلك الأماكن. والقصر هو مكان مغلق، والانغلاق دليل التسلط ودليل الخوف والرهبة من السلطة المسيطرة على عامة الشعب، وشهد المكان ثنائية الإضاءة (النور/ الظلام) والتي رافقت العمل المسرحي من أوله إلى آخره، وأعطت عنه الجو العام تمامًا مثلها مثل الديكور أو الأشياء البارزة، وهي ذات تأثير غير مباشر يسهم في بلورة الفكرة وتصوّر المعنى، فضلًا عن ثنائيات أخرى سنتطرق إليها لاحقًا أثناء التحليل، وقد يرمز الظلام إلى الغموض والاستبداد، وقد يرمز النور إلى العدل والحرية، وهذه الجدلية تؤكد أن التناقض متلاحم داخل المسرحية تلاحمًا تامًا. وعن علاقة المكان بالشخصيات أيضًا تُرجمت في علاقة ضدية (علاقة انتماء واتصال/ علاقة تنافر وانفصال)، ففي علاقة الانتماء والاتصال تمثلت في محاورة الأب للمرأة عن كيفية وصول اللوحة السحرية إلى بيته كونها تمتلك صالة عرض للوحات الفنية، وفي علاقة التنافر والانفصال تمثلت مع الابن نوار في فعل اللدغ فلم يتحقق له الأمان في قصر والده، والقصر أيضًا كان رمزًا للاستبداد والاستغلال والتحوير والترويض بالنسبة لعامة الشعب والبسطاء من الناس كالخدم، وهو مكان يُحتقر فيه الفن والإبداع.
وقد عمد الكاتب إلى إيصال فكرته عبر نسق سحري لا ينفصل عن الواقع، إنما يبحث في طرق تغييره، ومثّل ذلك من خلال لوحة فنية جمعت بين متضادين وهما (الزهور والعقارب)، ومن خلال العقرب كان يتحقق فعل اللدغ على مدار العمل المسرحي بدءًا بالابن نوار ومرورًا بالخادم وانتهاءً بلدغ الأب، وانطلاق اللوحة الفنية من الواقعية السحرية لم يأتِ عبثًا، إنما هو مشهد يشتبك مع الواقع السياسي والاجتماعي، ويندمج عبر خيال المؤلف؛ ليكتشف من خلالها المتلقي قضايا مختلفة، كالعنصرية، والاستغلال، وتزييف الواقع، وقمع الحريات، فعكست تلك اللوحة جوًا من السحر والغموض نظرًا لأبعادها الخفية غير المعلنة، وبذلك يمكننا أن نعتبر اللوحة أنها مسرح الحياة الذي يعج بالثنائيات والصراعات والرمزيات، فصُبت الفكرة ذات الواقع الملوس في قالب غير واقعي مُتخيل، واعتُبرت المحرك الرئيس للحدث والدافع به للأمام، فنجد الخادم يحاور نفسه عبر النص الآتي: “الخادم : فهمت سيدي (يخرج الأب ثانية) يا إلهي لا أعرف كيف حدث لي هذا.. أنا (بتأكيد) أنا أتوهم مثلهم؟ (صمت. يفكر) يخيل إلي أني لم أكن أتوهم.. بل.. أن شيئًا ما في الصالة هو الذي بعث في نفسي هذا الوهم.. ترى.. ما هو.. ها؟.. ما هو؟ آ.. تذكرت.. اللوحة (يلتفت إلى اللوحة. يصرخ) لا (يغطي عينيه بيديه ثم يبعدهما ببطء. يدقق النظر) عجبًا ما هذه اللوحة الغريبة المفزعة (يدقق النظر أكثر) ويلي.. أي قدرة تمتلكها هذه العقارب العجيبة (يصمت) لكن العقارب ليست كائنات غريبة كما يقول سيدي (يفاجأ) ها.. ما هذا؟.. إنها تتحرك (يدقق النظر) تتحرك بالفعل.. من يصدق أن عقاربًا في لوحة كهذه يمكن أن تتحرك بهذه الطريقة (مندهشًا) انظروا انها تحاول الهجوم على الزهور”.
وعن الزمن، فإن العمل المسرحي يقدم لنا زمنين: زمن يرجع إلى زمن سابق يقدم لنا الآن على خشبة المسرح أو نقرأه الآن وهو تجربة فعل تحقق في زمن ما ونقله الكاتب إلينا عبر نصه، والزمن الثاني هو زمن العرض الذي يخضع لتغيرات الإرشادات المسرحية والتي قد تقدم لنا نصًّا ثانويًا، ومن تلك الإرشادات: التبدل الزمني الذي يحدث فترة العرض كانقلاب الليل والنهار، أو تجدد الأثاث، أو التغير الزمني المترجم في الحوار بين الشخصيات، فنجد ذلك في النص المقتبس: “المرأة : (تحاول التذكر) آ.. تذكرت.. لقد جاءني مدير منزلك وأراد لوحات عن الطبيعة بضمنها لوحات زهور.. وعلى عادته دخل إلى المستودع.. وفتش عن اللوحة التي ترضيك فوقع اختياره على هذه اللوحة”.
وعن الشخصيات، برزت الشخصية الرئيسة ممثلة في شخصية (الأب)، ذلك السلطوي المتفرد في قصره وخارجه، والذي يحاول أن يزيف الواقع والأحداث ويدّعي التمويه في فعل (اللدغ) متخذًا من ابنه سديد الاتهام الأول كنوع من التنصل أو التهرب، فلننظر إلى هذا المشهد الحواري بين الأب وابنه سديد: “سديد: أبي.. أنا لم ألدغ شقيقي حتى تحدثني بهذه الطريقة. الأب: بالتأكيد.. أنت لست عقربًا أو أفعى.. أنت اكبر من ذلك بكثير (بأمر) اسمع.. أنا أعرف أنك الوحيد الذي يستطيع أن يدبر لعبة الظلام. سديد: أبي.. أرجوك.. لا تحدثني بهذه الطريقة.. واسمح لي أن أقول لك أنك صرت تتوهم كثيرًا. الأب: أتوهم؟ هل تريدني أن أكذب عيني وأصدقك أنت؟ سديد: لست مضطرًا يا أبي. الأب: بل مضطر أن أقول لك انك كاذب (سديد لا يرد) وأنك أنت من خطط للإيقاع بأخيه ( سديد لا يرد) وانك أنت من خطط للإيقاع بأخيه (يسمع طرقا على الباب) ادخل”، فصور لنا النص حالة التناقض التي تعتري شخصية الأب وحالة افتقاده للاتزان، فإصراره على إدانة ابنه (سديد) وتأكيدها، يشير إلى استحالة هذه الإدانة واستحالة القصاص من الابن لو كان هو الفاعل أصلًا، وهذا إيحاء لاختلاط الحقيقة بالزيف والادعاء، ومحاولة مراوغة الحدث في سبيل بقاء ممارسة التسلط والشر، بل خدمتهما في دائرة حركية واحدة، بمعنى أوضح إدانة ولا إدانة، ونذكر أن الأب في هذه المسرحية كان مصدر الرؤية أي لُب الفكرة، وهو المعنى الكامل لتجاوز الواقع وخرق قوانينه، أما بقية الشخصيات هي الواقع بذاته أي برمّته، فحصل التناقض بين شخصية الأب وباقي الشخصيات (سديد والخادم والفنان والمرأة) كما ظهر ذلك مع التقدم بالقراءة، فشعرنا بالانفصال بينه وبينهم؛ ليؤكد لنا الكاتب أزمة الواقع وتضارباته المتناقضة.
ولو نظرنا إلى فعل (اللدغ) وهو المحرك الأساس في المسرح، نجد أن لها تأويلات مختلفة، فقد يكون لدغ العقرب للابن ثم الخادم إشارة لتخلص الشعب من سم السلطة القمعي، وتأكيد العامة على أحقيتها في الحرية وامتلاك الأشياء لا سلبها منها، وتحقيق إرادتها لا قمعها، فاستمرار فعل اللدغ شكّل ثنائيات متصارعة (امتلاك/ سلب)، (سلطة/ شعب)، (قدرة/ عجز)، وغيرها، ولاحظنا أن فعل اللدغ يتم في الظلام وذلك لأن السلطة الحاكمة تفضل أن يبقى الناس في حالة تعتيم وتظليل –عمى- ولا تريد لهم أن يعرفوا بعضًا من مساوئ الحكم القذر، وكأن اللدغ في الظلام هو اليد الخفية التي تتصرف في الخفاء ضد المواطن وحرياته. وقد يكون لدغ العقرب لـ(الأب) نهاية المسرحية وإصرار الأب على التخلص من اللوحة إشارة لانهيار الحكم الاستبدادي صاحب تلك المرحلة، لكن الانهيار هنا جعله الكاتب بيد (الأب) نفسه، فعندما ساءت به الظروف ولم يستطع مراوضة الفنان أو تدجينه في تغيير العقارب إلى فراشات أو إعطائه مقابل كل عقرب مبلغ مالي، فإنه أحس بالخطر القادم عليه كأن يولد فنانون أمثال هذا الفنان، وهذا التأويل يُعزى إلى طبيعة العقرب التي في أسوأ الظروف تقوم بلدغ نفسها بنفسها من خلال إفراز مادة سامة لها، فهي تفضل الموت على البقاء ضعيفة أو مهزومة، يقول الأب محاورًا اللوحة: “أنا اعرف أنك لا تسمعينني فما أنت إلا لوحة صماء.. وأن عقاربك هذه لا تستطيع لدغي.. هل فهمت أيتها الفاجرة.. (يصرخ بها) هل فهمت (يصرخ أعلى) هل فهمت (اللوحة لا تجيبه فيتقدم منها غاضبا) إذن الفظي أنفاسك الأخيرة (نسمع الأصوات والمؤثرات الغرائبية نفسها.. ونرى الإضاءة تخفت قليلًا ثم تطفأ ليبرق الضوء عدة مرات خلال تقدم الأب وتراجعه أمام اللوحة.. وما أن يظلم المسرح حتى نسمع صرخة الأب.. تفتح الإضاءة خافتة على المسرح.. نرى الأب في وسط الخشبة ماسكًا يده.. متألما غير مصدق ما حدث.. يستمر وقوفه وتحديقه باللوحة لفترة وجيزة.. تختفي بقعة الإضاءة من عليه تدريجيًا مع الموسيقى لتضاء اللوحة في الوقت نفسه تدريجيًا أيضًا مع الموسيقى.. تستمر الإضاءة مركزة عليها مدة قصير قبل أن يسدل الستار”. وأخيرًا قد يكون لدغ العقرب إشارة تنبيهيه لأن يستفيق الحاكم من غفلته ويتنحى عن سلطته، ويترك العامة تمارس حقها في الحياة بعيدًا عن التفرد والقمع، فالعقارب تشبه الشعب المظلوم لكنها تشبه مطالبه أكثر، والحقائق التي يخفيها الحاكم ولا يريدها أن تتحقق من أجل استمرار رفاهتيه، وبقاء هيمنة نفوذه، لذا هي تلدغه أو تعكر عليه صفوه ليل ونهار كناموسه غير المنطقي.
وفي سياق آخر لشخصية أخرى وهي المرأة (وداد) صاحبة صالة عرض للوحات الفنية، نجد النص: ” المرأة: أقنعت الفنان بعدم عرضها لاختلاف أسلوبها عن الأسلوب الذي رسم به الفنان بقية لوحاته. الأب: أقلت لاختلاف أسلوبها؟ المرأة: نعم”، إن اختلاف الأسلوب هنا يعبر عن اختلاف الحكم السياسي وتغير في أدوات النظام الحاكم، والمرأة هنا رمز للرقي السياسي والاجتماعي والجمالي والإنساني، لذلك نفرت من وجود اللوحة في معرضها وتخلصت منها وهو إشارة إلى إيمانها بحريتها، وأن اللوحة تتنافى مع جمال المرأة وطهرها، وتتنافى مع اسمها (وداد) الذي معناه الود واللين في ضديته مع فعل العقرب.
وفي سياق آخر وأكثر أهمية، نأتي إلى شخصية الفنان الذي رسم اللوحة ورفض رفضًا قاطعًا لمحاولات الترويض والتدجين التي صدرت من الأب له لتغيير العقارب إلى فراشات، فلننظر إلى هذا الحوار الدائر بين الأب والفنان: “الفنان : حين تكتمل اللوحة وتعرض للناس فأنها تصبح ملك مرحلتها.. لا ملك الفنان الذي أنتجها. الأب: هذا يعني أنك تريد رفع ثمنها. الفنان : الإبداع لا يعادله ثمن مهما كان الثمن باهضًا. الأب : لكل شيء في هذا الوجود ثمن. الفنان: إلا الإبداع. الأب: افهم من هذا انك لا تريد إبطال السحر من اللوحة (الفنان لا يجيب) أجبني دون لف أو دوران.. هل ستغير هذه العقارب أم لا؟ الفنان : بصراحة (يصمت) لا”، فالرفض كان إشارة لاستمرار الفن في تأدية دوره من أجل الحرية، وأن الفن الصريح والصادق لا مكان له عند المتسلطين، وفي رؤية أخرى عمد إليها الكاتب وهي محاولة إيصال فكرة للفنانين الذين يبيعون أعمالهم للسلطة من باب التملق وكسب رضاهم وودهم ومن باب التكسب أيضًا، وتحذيرهم من تحويل الفن والإبداع على اختلاف أشكاله إلى تجارة ونفاق، ومحاولة شراء الفنانين وتسيرهم أداة طيعة بيد السلطة، فيخاطب الأب الفنان قائلًا: “الأب: السحر الذي مارسته في هذه اللوحة وفجرته فيها من خلال العقارب لا من خلال الضفادع كما هو معتاد، وهذا أمر لم يقدم عليه أحد من الذين سبقوك”، فالضفادع هنا من خلال السياق قد تكون رمزًا للفئة المتملقة من الناس وفئة الفنانين المزيفين، أشباه الفن لا أبطاله، فالاختلاف من الضفدع إلى العقرب إشارة إلى التغيير الحاصل في المعطيات على الساحة السياسية بعد فترة من الزمن، فلكل مرحلة زمنية رمز يعبر عن حالتها، والانتقال من الضفدع إلى العقرب يشير إلى موت زمن الفنان الموالي للحاكم وظهور فنان حقيقي يرسم بأدواته الواقع كما هو على حقيقته، وقد يكون هنا الفنان شاهد وضحية في نفس الوقت، لكن هنا يأتي دور الضحية بالإيمان المستقبلي بالأمل في الانتصار وتغيير الواقع وإعادة ضبطه من جديد بدليل رفضه لتغير اللوحة من العقارب إلى الفراشات.
وفي أسماء الشخصيات فإن الكاتب لم يسمِّ الأب باسم كتسميته لأبنائه (سديد ونوار) رغم أنها برزت كشخصيات ساكنة لا تملك أدنى رأي في حضور والدها، وذلك لعموم وشمول شخصية الأب وتواجدها في كل زمان ومكان، وعن الأبناء فكأنه اعتراف لهم بسلطتهم فهم ورثة الأب في الحكم وأنهم النخبة التي تقود الطبقة العامة، وإن غياب اسم (الطبيب، والفنان، والخدم، ومدير أعمال المنزل)، فيه شيء من الاستخفاف والتهميش ومعاملتهم كرقم يسهل استبداله أو التخلص منه متى ما أراد الأب، وإعطاء المرأة اسم (وداد) ربما جاء في سياق إبراز مكانتها وقيمتها وأهميتها في المجتمع، وإكمالًا لدائرة التناقض. وغاب عن الشخصيات الرسم البدني فلم يرسم أحدهم رسمًا بدنيًا سوى مدير المنزل وكان الرسم أيضًا فيه نوع من التسلط والتخفي، وإن وجود الرسم البدني للشخصيات كان سيضفي بعض دلالات مهمة تسهم في إنارة النص أكثر.
المصادر والمراجع:
• الأنباري، صبّاح: مسرحيات طقوس صامتة، مسرحية زهور وعقارب، وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة- شركة عامة، بغداد، طـ1، 2000م.
• الجندي، يسري: نحو تراجيديا معاصرة ملاحظات، الهيئة المصرية العامة للكتب، القاهرة، 2006م.
• رينجير، جان بيير، قراءة المسرح المعاصر، ترجمة: إبراهيم، حمادة، مراجعة: الصبان، رفيق، وزارة الثقافة، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، 2004م.
أ. ولاء نافذ شحادة
غـــزة/ فلسطين