العظماء (13) السجين نيلسون مانديلا
تاريخ النشر: 27/08/20 | 10:07بقلم: علي هيبي
إلى أفريقيا السوداء:
قد تكون أفريقيا وطنًا واحدًا غير منفصل إلى دول وشعوب، كما رأى “جيفارا” في أميركا اللاتينيّة، ليس فقط لسمرة بشرة سكّانها أو لكونها كتلة جغرافيّة واحدة، وليس فقط للتشابه في ظروف الإقليم والمناخ، وليس للتقارب الاجتماعيّ والاقتصاديّ والمعيشيّ بين شعوبها في العادات والتقاليد والظروف الحياتيّة وموارد العيش ومصادر الرزق، ليس لكلّ ذلك بل لأنّها تشكّل وحدة إنسانية واحدة ويابسة واحدة وتاريخًا واحدًا وتعاني من ظلم استعماريّ “أبيض” واحد، يجعل أفريقيا كلّها وحياة سكّانها كلّهم حياة سوداء بائسة وثرى أرضها أسود قاتمًا بسبب الظلم “الأبيض” الأوروبيّ والتفرقة العنصريّة ذات القوّة “البيضاء” المقيتة ونهب الثروات والموارد، وانتزاع الحريّة والكرامة والاستقلال، لقد وصفت أفريقيا بالسوداء لكثير من الأسباب، لكنّ رزوحها على كافّة أقطارها وشعوبها وثرواتها تحت وطأة الاستعمار الأوروبيّ وظلمه الأسود لهو أبرز الأسباب. إنّها وحدة سواد الوقوع تحت طائلة الظلم! لقد عبّر الثائر “توماس سانكارا” (1949 – 1987) الذي لُقّب بِ “جيفارا الأسود” والذي أصبح أوّل رئيس لجمهوريّة “بوركينا فاسو”، عبّر – وليس من وقت بعيد – عن بشاعة ما تلاقيه شعوب القارّة جميعًا من استغلال مبرمج وغزو منظّم باسْم الدين الذي ترعاه الإمبرياليّة لنموّها، إذ تنهب مواردها وثرواتها ليصبح الأفارقة على حدّ سواء عبيدًا للمال والاستغلال، ولذلك دعا الأفارقة إلى تجاهل الديون الغربيّة وعدم دفعها ورفض إملاءات البنك الدوليّ، اليد الاقتصاديّة الشرسة للاستعمار الكولونياليّ والإمبرياليّ ولاستعباد الشعوب الفقيرة وتركيعها، لقد آمن “سانكارا” بضرورة الاعتماد على الذات الأفريقيّة فقال: “نحن )وهو يعني كلّ الأفارقة شعوبًا ودولًا( ننتج ما يكفي لإطعامنا جميعًا، ولكن بسبب افتقارنا إلى التنظيم فنحن مضطرّون للتسوّل للحصول على المعونة، وا حسرتاه! إنّ هذه المعونة تغرس في نفوسنا موقف المتسوّلين”.
لن يتغيّر اللون الأسود في بشرات الأفارقة، ولكنّ ليلهم الاستعماريّ الأسود بدأ ينجلي عن نهار استقلال وحريّة وكرامة مشرق وساطع وناصع البياض، وعمّا قريب سينجلي بالكامل. إلى أفريقيا السوداء حيث ثوّارها العظماء: “نيلسون مانديلا” (1918 – 2013) في جنوب أفريقيا، “باتريس لومومبا” (1925 – 1961) في الكونغو، “أميلكار كابرال” (1924 – 1973) في غينيا، “أوغستينو نيتو” (1922 – 1979) في أنغولا، “توماس سانكارا” (1949 – 1987) في بوركينا فاسو، “المهدي بن بركة” (1920 – 1965) في المغرب، “أحمد بن بلّة” (1916 – 2012) في الجزائر وَ “جمال عبد الناصر” (1918 – 1970) في مصر.
أفريقيا البائسة تجذب الثوّار:
وجد الثوّار من القارّتيْن المستعبدتيْن: آسيا وأميركا اللاتينيّة في أفريقيا المستعبدة من الألم إلى الألم في شمالها إلى جنوبها، من الجرح إلى الجرح في شرقها إلى غربها مناخًا مناسبًا للكفاح وميدانًا رحيبًا للثورة وامتدادًا عالميًّا إنسانيًّا لرفض الظلم والظالمين، فليس للظلم وطن وليس لمقاومته وطن، فيه أفادوا لانتصار الثورات في الأقطار الأفريقيّة ومنه استفادوا لاكتمال تطوّرهم الفكريّ والسياسيّ بالممارسة والانخراط المباشر في حياة المظلومين، ولانتصار أوطانهم وثوراتهم، لماذا تستهوي أفريقيا، القارّة السوداء ثوّار العالم!
وجد فيها “غاندي” بداية طريق حياته النضاليّة، لذلك كرّس من حياته وكفاحه أكثر من عقديْن من الزمان، في جنوب أفريقيا حيث مزارع الفقر والقصب ومصانع البؤس والسكّر، حيث الظلم والتفرقة العنصريّة واضطهاد العمّال الأجانب، حيث تتحكّم وتسيطر أقليّة بيضاء دخيلة بأكثريّة سوداء أصيلة بنت ترابها، وجد فيها نموذجًا حيًّا للظلم والعنصريّة، ومنها انطلق إدراكه لمقاومة التفرقة العنصريّة والظلم عن طريق اللاعنف والعصيان والمقاطعة، وحقّق إنجازات هائلة للعمّال الهنود والبوير والصينيّين وغيرهم من الرازحين تحت نير الفقر والمرض والبؤس، ومن المقاومة فيها تعلّم كيف يقاوم الاستعمار البريطانيّ بأسلوب المقاومة السلميّة “اللاعنف” وينتصر وتحظى الهند باستقلالها وحريّتها وكرامة سكّانها.
يقول العظيم “نيلسون مانديلا”: عن “فيدل كاسترو” العظيم: “خلال فترة السجن كان “فيدل” مصدر إلهام وصمود”، وصارت كوبا الاشتراكيّة صديقة النضال ضد الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا “صديقتنا كوبا ساعدتنا على تدريب شعبنا وزوّدتنا بسلاح مكّننا من المضيّ في نضالنا”، هذا ما صرّح به الرئيس “نيلسون مانديلا”. أمّا علاقات “كاسترو” بأنغولا فكانت أقوى فعلًا وأشدّ أثرًا، إذ أرسل حوالي 35 ألف مقاتل كوبيّ لمساعدة ثورتها بقيادة المناضل الشاعر “أوغستينو نيتو” (1922 – 1979) أحد مؤسّسي الحركة الشعبيّة لتحرير أنغولا، والذي أصبح بعد الانتصار أوّل رئيس لجمهوريّتها. كان لِ “كاسترو” بصفته مناضلًا ومكافحًا ثائرًا، ومن ثمّ بصفته رئيسًا لدولة كوبا الاشتراكيّة علاقات مع كلّ المناضلين والثوّار الأفارقة ومع معظم قادة الدول أيضًا، كان يحظى باحترام جميع الأفارقة من البسطاء والفقراء، وذلك لموقفه الأمميّ في مسيرة الكفاح الإنسانيّ ضدّ الظلم والاستعباد ولمساندته الثوريّة في طريق مقاومتهم ضدّ الفصل العنصريّ والاستبداد الإمبرياليّ ولنيل الحريّة والاستقلال والحياة الإنسانيّة الكريمة.
“جيفارا” يرى في أفريقيا حلقة الإمبرياليّة الضعيفة وإمكانيّات الثورة فيها كبيرة، فيمضي إلى الكونغو كينشاسا، “جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة” فيما بعد، حيث كان هذا البلد يرزح تحت نير الاستعمار البرتغاليّ، ليقدّم خبرته في حرب العصابات، وفيه المناضل الأفريقيّ العظيم “باتريس لومومبا” الذي اغتالته المخابرات البلجيكيّة والأميركيّة سنة 1961، وقد قال “جيفارا” إثر الاغتيال: “إنّ قتل “لومومبا” يجب أن يكون درسًا لنا جميعًا”، وبنى علاقات أخويّة وثوريّة مع قادة الثورة الأفريقيّين العرب، فاستفاد من تجربة المقاومة الشعبيّة والعسكريّة في صدّ العدوان الثلاثيّ سنة 1956، واستفاد من تجربة الإصلاح الزراعيّ في مصر، لقد كانت الثورة المصريّة بقيادة “جمال عبد الناصر” كما قال: “مصدر إلهام لي”، ومن الثورة الجزائريّة وجبهة التحرير وقائدها المناضل “أحمد بن بلّة” ضدّ الاستعمار الفرنسيّ طلب المساعدة، فوافق “بن بلّة” بلا تردّد على طلب “جيفارا” بتزويد الثورة الكوبيّة بالسلاح، وعلاقات ثوريّة في غينيا بيساو وقائد ثورتها المناضل العظيم “أميلكار كابرال” الذي اغتيل بأيادٍ عميلة للمخابرات البرتغاليّة سنة 1973.
هنالك وطني:
يهجر “جيفارا” كراسي الحكم المرموقة والمناصب العليا، بعد انتصار الثورة الكوبيّة بقيادة حركة “26 يوليو” بعقله المدبّر وكفاحه المسلّح وقيادته العسكريّة. يذهب إلى وطن جديد حيث ثمّة ظلم واستبداد وشعوب مقهورة، فقيرة، جاهلة ومريضة بفعل وباء الآلة الاستعماريّة الرأسماليّة المهيمنة على الأوطان والناس، تنهب الأرض والثروات وتسيطر على أسباب الحياة والكرامة، آلة مجرمة لا تتورّع عن ارتكاب المجازر الدمويّة وحروب الإبادة ضدّ الشعوب الأفريقيّة الفقيرة والبسطاء الراغبين بالتحرّر والاستقلال الوطنيّ والحياة الكريمة، هذه الآلة المجرمة تقتل في تلك الشعوب كلّ أمل مشرق وكلّ إمكانيّة للعمل النضاليّ والثورة. ولكنّ الأمّل في المستقبل المشرق بالحريّة والرغبة في الحياة الكريمة تتفاعل مع الدماء التي تغلي، ومرجل الثورة لا يهدأ في الصدور والضمائر والوجدان، والثوّار قافلة تسير ثائرًا إثر ثائر مهما نبحت الكلاب وعوت الذئاب وعلت أصوات عواء باطلها الاستعماريّ، سيبقى دويّ الثورة ونداء الثوّار أعلى وأشدّ سطوعًا لأنّ الثورة ضدّ الظلم والاستعباد والاستبداد لهي الحقّ المبين.
نيلسون يحرّر الظالم والمظلوم:
لم يكن اسمه “نيلسون” في البداية، بل سمّاه أبوه “روليهلاهلا” وتعني باللغة الأفريقيّة “المشاكس”، فلعلّ أباه كان ذا حسّ عميق ورؤية بعيدة المدى إلى ما سيصير عليه ابنه في المستقبل، ويبدو أنّ المعلّمين البيض في المدرسة الابتدائيّة، ولصعوبة في نطق الاسم أو لعنصريّة في عقولهم السوداء التي تنعكس من ألوانهم البيضاء لم يستطيعوا لفظ الاسم فأطلقوا عليه “نيلسون” واشتهر بعدها باسْم المناضل الأفريقيّ الأسود العظيم “نيلسون مانديلا” الذي ناهض حكم الأقليّة العنصريّة البيضاء في بلاده جنوب أفريقيا، ولكن من المهمّ أن نعلم أنّ اسمه التقليديّ كان “ماديبا”، يطلق الاسم على العظيم المبجّل في القبيلة، لقد ذكّرني ذلك بالروح العظيمة “المهاتما غاندي”. ويا لمحاسن الصدف واللغات والمعاني والمشترك الكفاحيّ الإنسانيّ!
عندما تكتب عن مارد أفريقيّ أسود اسمه “نيلسون مانديلا” تتهيّب الكلمات وتصبح السطور أشدّ نورًا وسطوعًا، أمام هذه القامة السوداء السامقة والمهيبة، حتّى الصفحات البيضاء غير قادرة على حمل هذه العظمة السوداء التي استلهمت النضال والمقاومة من عظماء سابقين وألهمته لكلّ ثائر نهج هذا الطريق وستبقى تلهمه إلى الثوّار من الأجيال القادمة حتّى تنتهي كافّة أشكال الظلم والعنصريّة والاستغلال الرأسماليّ وينتهي استعباد الإنسان لأخيه الإنسان وينتهي التعامل بين الناس على أساس ألوانهم أو أديانهم أو أجناسهم وانتماءاتهم المتنوّعة، يا لعظمة هذا الثوريّ الإنسان، يخرج من سجن طال لأكثر من ربع قرن، بل لسبع وعشرين سنة بالتمام والكمال (1962 – 1990) ليعيش ظروف حرب أهليّة متصاعدة بين السود والبيض، يخرج ليفاوض ظالمه ومغتصب حقّه ومن استعبد شعبه ونهب ثرواته القوميّة، مع “فريدريك دي كليرك” الرئيس الأبيض الأخير للعنصريّة في جنو ب أفريقيا، في سنة 1994 تنتهي المفاوضات وكان على طاولتها إنهاء حكم “الأبرتهايد” والإعلان عن انتخابات، وانتهى فصل طويل أسود من حكم البيض في جنوب أفريقيا، امتاز بمأساويّة الحديد والنار والسجن والعذاب والتمييز العنصريّ وبمعاناة البؤس والفقر والنهب والسلب والإذلال وكلّ ما هو مخجل ومقزّز في الدنيا للإنسان، يخرج من سجنه الطويل لم تحنِ ظهره السنون ولم تلن قناة ثورته ولم تغرِه إغراءات سجّانيه العنصريّين بمقايضة الإفراج عنه بترك المقاومة وعودته إلى قبيلته، وبعرض “دسم” آخر يرفض فيه العنف وينبذ الكفاح لقاء حرّيته الشخصيّة، لكنّ “مانديلا” يجد العرض عَظْمة جرداء لا يقدم عليها إلّا الكلاب، يخرج من السجن ليكون أوّل رئيس أسود “ابن بلد” رئيس منتخب من كلّ الجنوب أفريقيّين، لأوّل مرّة ابن تراب أفريقيا السوداء رئيسًا، ولولاية واحدة لا يقبل غيرها، (لو أنّ معظم الحكّام العرب يسجنون على مقدار سنوات حكمهم كان يجب أن يعيشوا ثلاث حيوات، كلّ حياة 100 عام يقضونها في سجون تحت الأرض وفي زنازين الذلّ لأنّهم بلا أيّ كرامة، ولا يمكن أن تكون سجونهم ذات كرامة وعزّ ومجد وعظمة وخلود كسجن “نيلسون مانديلا”)، يخرج من سجنه الطويل ليدافع عن سجّانيه لإزالة الأحقاد التي تراكمت على مدى الحكم الأبيض الرهيب، ومن أجل الوئام الوطنيّ يعمل جاهدًا للقضاء بالكامل على الصراعات العرقيّة، ويكون أوّل قراراته إنهاء العنف ودستور وطنيّ جديد ومؤسّسات لحقوق الإنسان ومكافحة للفقر وإصلاح زراعيّ يضمن حياة ذات أمل وكرامة للناس وتوسيعًا للرعاية الصحّيّة، يخرج من سجنه، وكما جاء في كتابه/ سيرة حياته “رحلتي الطويلة في طريق الحريّة” ليعلن توًّا بعد الإفراج عنه: “مهمّتي الآن تتمثّل في تحرير الظالم والمظلوم معًا”، لأنّه كان يؤمن من صميم وجدانه الوطنيّ وضميره الإنسانيّ بحريّة الإنسان: “أنا لست حرًّا حقًّا إذا أخذت حريّة شخص آخر، فالمظلوم والظالم على حدّ سواء قد جُرّدا من إنسانيّتهم”، مع اختلاف في سبب التجريد ومضمونه. وفي هذا العظيم عظمة إنسانيّة ونقاء شاهق لا يطاولهما سحاب يطاول سماء عالية.
طفولة تبرعم وأحاسيس تختلج:
تعود جذوره إلى قبيلة ومُلك، جدّه من سادة القبيلة وأبوه زعيم محلّيّ وأمّه أميّة ولكنّها ترسله إلى مدرسة مسيحيّة، فيها يصبح اسمه “نيلسون”، في البدايات عاش حياة الطقوس والعادات ورعى الماشية كما رعاها السيّد المسيح في أرض الجليل، في مجالس القبيلة كان يصغي لأحاديث معادية للإمبرياليّين، وقد كان يشعر في البداية أنّ المستعمرين محسنون وليسوا ظالمين، وفي الوقت نفسه كان يصغي لصوت والده حول “ضرورة التمرّد بفخر والإحساس بالعدالة”. تقضي التقاليد بالختان في سنّ السادسة عشرة، سنّ الانتقال من الطفولة إلى الرجولة.
كان طالبًا متفوّقًا وذكيًّا في بدايات التعليم ومراحله الأولى، وبتأثير من أمّه التي اعتنقت المسيحيّة صار يتردّد إلى الكنيسة كلّ أحد، حتّى صارت المسيحيّة جزءًا من كيانه ووجدانه، خاصّة بعد أن بدأ يتعلّم في مدرسة مسيحيّة، تعلّم فيها اللغة الإنجليزيّة والتاريخ، ومن هذه الدراسة بدأ يحبّ تاريخه الأفريقيّ وينمو فيه حبّ بلاده. كلّ هذا مقدّمة للمرحلة المقبلة في الثانويّة والجامعة، ومرحلة أولى في تكوّن شخصيّته كطالب مناضل وفعّال ضدّ الظلم. في المرحلة الثانويّة، في معهد ” كلاركبري” وهو مؤسّسة على النمط الغربيّ للطلّاب الأفارقة السود، بداية الاختلاط أدّت إلى تغيير في طبيعته المنغلقة، بدأ يلاحظ ويحبّ، أحد معلّميه من قبيلة “كوسا” يكسر قالبًا اجتماعيًّا ويتزوّج فتاة من قبيلة “السوتو”، فيعجب بتمرّده، يحبّ لأوّل مرّة فتاة ويرافقها إلى الحدائق، ويمارس الرياضة والملاكمة بالذات، يحبّ الفنون ويتعلّمها في كليّة “النخبة السوداء”، يقدّم شخصيّة “أبراهام لنكولن” في مسرحيّة دراميّة، وتابع في دراسة اللغة الإنجليزيّة والتاريخ الرومانيّ والسياسة، وظلّ على حبّه للتاريخ الأفريقيّ، وصار عضوًا في “جمعيّة الطلبة المسيحيّين”، التي احتجّت على رداءة الطعام، فاضطرّ لترك الدراسة بلا شهادة، والأهمّ هنا بدأ اتّصاله بأصدقاء من حزب “المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ” المناهض للإمبرياليّة والعنصريّة، لكنّه ظلّ بعيدًا عن النشاط الظاهر وخوفًا من التورّط. كلّ ذلك قبل سنة 1940، قبل انتقاله إلى “جوهانسبرغ”.
وشباب وجامعة واحتجاج:
سنوات العقد الرابع الأولى من القرن الماضي شهدت تحوّلًا على الطريق النضاليّ، في سنة 1940 طُرد من الجامعة مع صديقه “أوليفر تامبو” لمشاركتهما في احتجاجات طلّابيّة ضدّ التمييز العنصريّ، (ولكن لا بدّ من قصّة تدلّل على هدوئه وذكائه وإنسانيّته، أوردها لأنّها أعجبتني وفيها دلالات على عمق شخصيّته الرصينة، وللترويح عن النفس. في مقصف الجامعة يحمل طبق طعامه ويأتي ليأكل بالقرب من مدرّسه الأبيض العنصريّ “بيتر” الذي كان يكرهه، يقول المدرّس: “أنت تعرف يا نيلسون أنّ الطير والخنزير لا يجلسان على طاولة واحدة! وبكلّ الهدوء قال الإنسانيّ الأسود: لذا أنا مضطرّ لأطير بعيدًا عنك! فغضب المدرّس وكظم وأضمر شرًّا، في اليوم التالي سأل المدرّس مانديلا: إذا كان أمامك كيس للمال وكيس للحكمة فأيّهما تختار؟ وبلا تردّد قال: أختار كيس المال! فقال المدرّس بسخرية: لو كنت مكانك لاخترت كيس الحكمة! ردّ مانديلا: كلّ إنسان يأخذ ما ينقصه! فاستشاط المدرّس غضبًا وأزمع انتقامًا من طالبه وكتب له على أسفل ورقة الامتحان “غبي”! أخذ مانديلا الورقة وقرأ وظلّ هادئًا وبنبرة مهذّبة قال: أستاذ بيتر لقد أمضيت على الورقة باسْمك ولم تضع علامة!) ومن هذه القصّة تعلّم العظيم درسًا عظيمًا، “إيّاك ثمّ إيّاك! أن تسمح لأحد أن يسرق منك ثقتك بنفسك واعتزازك بهويّتك حتّى وإن كان أستاذك الذي بيده تقييمك أو رئيسك الذي بيده طردك من العمل”.
وفي سنة 1941 كان له أوّل احتكاك مع الرأسماليّة حيث عمل حارسًا ليليًّا في مناجم الفحم ورأى بأمّ عينه ظروف العمل ومعاناة العمّال، وطُرد من العمل لأنّه اُعتبر هاربًا، وكان له أوّل لقاء مع ناشط في حزب “المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ” اسمه “والتر سيسولو”، ساعده في إيجاد وظيفة يقتات منها في مكتب للمحاماة، وعلاقة جديدة مع “غور ريديبي” عضو حزب المؤتمر والحزب الشيوعيّ، وأوّل صديق له من البيض، وأوّل احتجاج وتظاهر ناجح، إذ يشارك في مقاطعة الحافلات لارتفاع أسعارها، وهناك في “جوهانسبرغ” يتابع تعليمه بالمراسلة ليصبح محاميًا سنة 1942، ويتابع نشاطه السياسيّ. ويتكوّن المناضل العظيم شيئًا فشيئًا وتتبلور شخصيّته بفعل القراءة والتثقّف والتجربة الواقعيّة والاحتكاك مع الثوريّين والوطنيّين والشيوعيّين، ويشتدّ ساعده الكفاحيّ ويصلب عوده الثوريّ على درب الشرف والنضال والكرامة والحريّة والانتصار.
وتستمرّ المسيرة الكفاحيّة ما بين (1943 – 1962) ينضمّ رسميًّا لحزب “المؤتمر” بعد مواجهته المباشرة بالعنصريّة في فترة الدراسة الجامعيّة، وبعد تأثّره بأفكار “سيسولو” وصديقه القديم “تامبو”، ولقاءات مع قائد الحزب “ألفريد كسوما” وبالثوريّ الأفريقيّ “أنطون لمبدي”. ولكلّ من هؤلاء تأثير على فكره السياسيّ والكفاحيّ، ومن احتكاكه بالعمّال الهنود الذين جاء “غاندي” ليدافع عنهم في “الترانسفال” تأثّر بنهج اللاعنف وبأفكار “نهرو” زعيم الاستقلال الهنديّ، وكذلك اطّلع على كتابات “ماركس وإنجلز ولينين وستالين وماو تسي تونغ” وتأثّر بالفكر الماركسيّ وخاصّة بالماديّة الجدليّة وآمن بها حتّى النخاع، وبخاصّة بعد استعداد الاتّحاد السوفييتيّ بدعم حركات التحرّر والحركات الثوريّة المناهضة للعنصريّة. وصار عضوًا في اللجنة التنفيذيّة في رابطة الشبيبة التابعة لحزب المؤتمر في سنة 1944، وفي العام ذاته تزوّج من الناشطة في الحزب “إيفلين ماس”، في سنة 1947 انتقلت قيادة حزب المؤتمر بسبب وفاة رئيسه إلى “بيتر ميدا” الذي كان أكثر اعتدالًا من سلفه الراديكاليّ، الذي لم يرغب بالتعاون الكفاحيّ مع الآخرين من أجانب وشيوعيّين، لكنّ “ميدا” كان يؤمن بالتعامل مع الشيوعيّين والبيض أيضًا، الذين يناضلون من أجل حقوق السود المدنيّة، في الوقت نفسه صعد إلى الحكم سنة 1948 الحزب الوطنيّ اليمينيّ ذي النزعة العنصريّة وقام بتشريع القوانين العنصريّة ضدّ السود. هذه هي الفترة التي بدأ فيها يتكوّن القائد القادم لحزب المؤتمر، صار أكثر تأثيرًا وشعبيّة، بعد دعوته لمزيد من النضالات والإضرابات والاحتجاجات كردّ على ممارسات الحكومة والحزب الوطنيّ العنصريّ، وقد قاد “مانديلا” المسار بتأثّر من أسلوب التنظيم الذي سار عليه “غاندي” والعمّال الهنود في “الترانسفال”، ولكن بنهج أكثر راديكاليّة وثوريّة.
حملة التحدّي ونقطة تحوّل بعد شاريفيل:
تحرّر “مانديلا” من كثير من الأفكار المسبقة، وآمن بالعمل الجبهويّ الثوريّ بعد أن تولّى رئاسة الحزب في “الترانسفال”، وبالاعتماد على سعة ثقافته الفكريّة في المصادر الماركسيّة والثوريّة واتصالاته مع قادة العمّال الهنود، ولأوّل مرّة يكسر نظرته السلبيّة عن الشيوعيّين، ويستعدّ للعمل بشكل جماعيّ إيمانًا منه بأنّ كلّ الجهود والجداول الكفاحيّة يجب أن تصبّ في نهر ثوريّ واحد هو الانتصار على العنصريّة ونظام “الأبرتهايد”. في سنة 1952 خطب أمام حشد هائل من 10 آلاف للدعوة والتحريض على المقاومة فيما عُرف بِ “حملة التحدّي” أمام نظام الفصل العنصريّ فسُجن إثر هذا النشاط في سجن “مارشال”، لمدّة 9 أشهر وبأعمال شاقّة، أوّل تجربة له في المعتقل السياسيّ، ربّما تكون تمرينًا وتمهيدًا قصيرًا لسجن طويل، في هذه الآونة تصاعدت الاحتجاجات الشعبيّة، إذ وصل عدد المنتسبين للحزب إلى 100 ألف، ازدادت الاعتقالات الجماعيّة يرافقها سنّ قوانين صارمة بمنع الاحتجاج والإضراب. “لا شيءَ في السجن يبعث على الرضا سوى شيء واحد هو توفّر الوقت للتأمّل والتفكير”، هذا ما استنتجه “نيلسون مانديلا”، حتّى للسجن ثمّة فوائد! تزايد التشديد العنصريّ في القوانين والممارسات ضدّ الكفاح الشرعيّ للأفارقة وتصاعدت معه حدّة الاحتجاجات ونشاط الخلايا المسلّحة، حتّى وصلت الأوج في إقدام الحكومة العنصريّة على تنفيذ مذبحة “شاريفيل” سنة 1960، حيث أطلقت الشرطة العنصريّة النار على المتظاهرين وسقط مئات القتلى والجرحى، وحظرت الحكومة كلّ نشاطات حزب المؤتمر وألقت القبض على “مانديلا”، وفي سنة 1961 يفرج عنه ويعود للمقاومة السرّيّة. كانت هذه المذبحة نقطة تحوّل في الفكر والنهج النضاليّ عند “مانديلا” فمن السلميّة واللاعنف المفعميْن بروح “غاندي” إلى الكفاح المسلّح وحرب العصابات اللذيْن لم يؤمن بغيرهما “جيفارا”.
بعد خروجه من السجن آمن بتنظيم النضال والتقسيم إلى خلايا وتوصّل إلى أن لا بديل عن المقاومة المسلّحة. منع “مانديلا” من الاجتماع بأكثر من شخص واحد، ومع ذلك كان يتنقّل متخّفيًا وينظّم الخلايا القتاليّة لتصبح الفروع الحزبيّة خلايا سريّة للمقاومة المسلّحة، على طريقة حرب العصابات بـتأثير ممّا قرأه عن حركة “26 يوليو” التي قادها “كاسترو”، وممّا آمن به وكتب عنه وعمل به “جيفارا” في كوبا، وَ “ماو تسي تونغ” في الصين إبّان الثورة الوطنيّة. “رمح الأمّة” هي الحركة المتشدّدة التي أقامها “مانديلا” بالتعاون مع الشيوعيّين التي انفصلت في البداية عن حزب المؤتمر، ولكن بتأثيره وشخصيّته استطاع أن يحلّ الخلافات بين الفصائل المختلفة التي يوحّدها الكفاح ضدّ النظام العنصريّ، لتصبح هذه الحركة الجناح العسكريّ لحزب المؤتمر، ويستمرّ الكفاح السياسيّ والعسكريّ يرفد أحدهما الآخر على المستوى الأفريقيّ والعالميّ.
وجولة نضاليّة سياسيّة في أفريقيا:
وعلى مستوى النشاط في الساحة السياسيّة وكسب التأييد الأفريقيّ المعنويّ والإمداد العسكريّ يوفده حزب المؤتمر في سنة 1962، مندوبًا عنه إلى مؤتمر “حركة الحريّة في شرق ووسط وجنوب أفريقيا”، في العاصمة الأثيوبيّة “أديس أبابا” ويلقي كلمته بعد الكلمة الافتتاحيّة للرئيس الأثيوبيّ “هيلاسيلاسي”، تعبيرًا عن تأييد جنوب أفريقيا السوداء في نضالها ضدّ الفصل العنصريّ الأبيض، ومن هناك ينطلق إلى القاهرة فيلتقي الزعيم العربيّ “جمال عبد الناصر” ويحظى بتأييد كامل ودعم غير محدود ويعجب بالإصلاحات السياسيّة للثورة المصريّة، ومنها إلى تونس واللقاء بالرئيس “الحبيب بورقيبة” ويحظى بمساعدة ماليّة لشراء الأسلحة، ومثلها من الرئيس الغينيّ “أحمد سيكوتوري” والرئيس الليبيريّ “وليام توبمان”، وإلى المغرب ومالي وسيراليون. في الجزائر الثوريّة المنتصرة على الاستعمار الفرنسيّ، لا يحظى بالـتأييد المعنويّ فقط بل بالاستعداد الثوريّ للمساعدة في ترتيب دورات تدريبيّة لأعضاء الجناح العسكريّ لحزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ.
محامٍ في المحكمة مناضل في السجون:
“أدركت هناك (يقصد السجن) أنّه يمكنني مواصلة القتال حتّى في قلعة العدو”، هذا ما قاله “مانديلا”، السجن كخارجه ميدان نضال وقتال، صارت السجون أمرًا اعتياديًّا في حياة “مانديلا” فقد سجن واعتقل لمرّات عديدة منذ 1952، ولعلّها كانت تمهيدًا لفترة السجن الطويلة التي قد تكون أطول تجربة لسجين في التاريخ، والأهمّ أنّ أبرز ما في مسيرة “مانديلا” الكفاحيّة ليس رئاسته للجمهوريّة فيما بعد، وليس فيما سبق من نضالات ومقاومة سلميّة أو مسلّحة، إنّ هذه الفترة الممتدّة من 5/8/1962 حتّى 11/2/1990، سبعة وعشرون عامًا من السجن المتواصل هي أعظم الفترات الكفاحيّة التي جلبت الشهرة والعظمة والخلود للمناضل “نيلسون مانديلا” ولعّل فترة سجنه كانت أشهر سجن في التاريخ البشريّ، مع أنّ السجناء الفلسطينيّين عانوْا وما زالوا يعانون فترات طويلة في السجون الإسرائيليّة الأشدّ عنصريّة من سجون “الأبرتهايد” التي ستزول حتمًا بزوال الاحتلال العنصريّ الإسرائيليّ كما زالت سجون “الأبرتهايد” بزوال نظام فصله العنصريّ.
عندما مثل أمام المحكمة لم يقبل بأحد أن يدافع عنه، بل قبل فقط باستشارة قانونيّة من أصدقائه المحامين، كان خطابه/ دفاعه أمام المحكمة إدانة صارخة لنظام الفصل العنصريّ وعرضًا لنضال حزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ الأخلاقيّ ضدّ العنصريّة، وقد وصف حالته في المحاكمة بالقول: “أثناء محاكمتي دخلت قاعة المحكمة بملابس “الكوسا” المصنوعة من جلد النمر، وقد اخترت هذا الزيّ لأُبْرز المعنى الرمزيّ لكوني رجلًا أفريقيًّا يحاكم في محكمة للرجل الأبيض، وكنت أحمل على كتفيّ تاريخ قومي وثقافاتهم، وكنت على يقين أنّ ظهوري بذلك الزيّ سيخيف السلطة من ثقافة أفريقيا وحضارتها”. فحكم عليه بالسجن خمس سنوات، بتهمة التخريب! هذا المناضل الفذّ الذي يكترث لحياة البشر ويناضل من أجل عمار العالم والإنسانيّة يتّهم بالتخريب من مخرّبي وطنه! هذا الرجل المسالم الذي سعى على مدى سنّي حياته لإرساء أسس السلام والمحبّة يتّهم بالعنف من أكثر الأنظمة عنفًا وبطشًا! هذا المواطن الجنوب أفريقيّ يتّهم بالدخول إلى بلاده سرًّا من حكومة هجينة غريبة اللون واللسان واليد! هذا الرجل المظلوم الذي يكافح الظلم يتّهم بقلب نظام الحكم من نظام قلب حياة الجنوب أفريقيّين جميعًا وحوّلها إلى جحيم دمويّ! وقبل أن ينهي فترة خمس السنوات، صدر عليه حكم بالسجن المؤبّد سنة 1964، بداية جديدة مريرة ومثيرة في آن، رحلة نضال وعزيمة وصبر استمرّت أكثر من ربع قرن، تحوّل خلالها “مانديلا “إلى أيقونة للحرّيّة، ورمز للكفاح الدؤوب الذي لا يكلّ وللنضال الثوريّ الذي لا تلين له قناة ولا يُدار فيه ظهر لعدوّ، لا شيء إلّا الإقدام حتّى يخاف العدوّ ويُدير ظهره وينسحب مهزومًا وخائبًا. وتابع مرافعته: “في غياب الضمانات القانونيّة فإنّ عبارة “المساواة أمام القانون”، بالصيغة التي يراد تطبيقها علينا، تصبح عبارة لا معنى لها بل إنّها مضلّلة، فجميع الحقوق والامتيازات التي أشرت إليها هي حِكر على البيض، ولا نتمتّع بأيّ منها! ولا أعتبر نفسي ملزمًا أخلاقيًّا ولا قانونيًا بطاعة قوانين سنّها برلمان لا يمثّلني، إرادة الشعب هي الأساس لسلطة الحكومة، وهذا مبدأ معترف به عالميًّا باعتباره مبدأ مقدّسًا في جميع أنحاء العالم المتحضّر، ويشكّل الركيزة الأساسيّة للحريّة والعدالة، ومن المفهوم لماذا ينبغي أن يكون المواطنون الذين لهم الحقّ في التصويت، وينبغي أن يكون مفهومًا كذلك لماذا ينبغي أن نتّخذ نحن الأفارقة موقفًا يجعلنا غير ملزمين أخلاقًا ولا قانونًا بطاعة القوانين التي لم نسنّها، ولا ينبغي أن يتوقّع منّا أن تكون لنا ثقة في المحاكم التي تطبق هذه القوانين! إنّني أكره ممارسة التمييز العنصريّ، وتؤيّدني في كراهيتي تلك الغالبيّة الساحقة من البشريّة التي تمقته أيضًا، إنّني أكره التنشئة المنهجيّة للأطفال على التحيّز ضدّ الملوّنين وتؤيّدني في كراهيتي تلك الغالبية الساحقة من البشريّة هنا وفي الخارج، وأكره الغطرسة العنصريّة التي تفرض حقّ استئثار أقليّة السكّان بالأشياء الجيّدة في الحياة، وتحشر أغلبية السكّان في وضع من التبعيّة والدونيّة، وتجعل منهم عبيدًا، لا صوت لهم، يعملون حيث يؤمرون ويتصرّفون حسبما تأمر به الأقليّة الحاكمة، وتؤيّدني في تلك الكراهية الغالبيّة العظمى من البشر في هذا البلد وفي الخارج. وليس بوسع هذه المحكمة أن تفعل شيئًا لتغيّر بأيّ حال من الأحوال الكراهية التي أحسّ بها، والتي لا يمكن إزالتها إلّا برفع الظلم واللاإنسانيّة التي سعيت إلى إزالتهما من الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في هذا البلد”.
حتّى محاكم الظلام مظلمة مثله، فبالنظر إلى مضمون تلك المرافعة سنرى الإنسانيّة والعدالة تتدفّق من حروفها في صالح المظلومين، وبالوقت نفسه تتدفّق حقدًا وكراهية للفصل العنصريّ وسلطته وحكومته وقوانينه ومحاكمه التي لا تختلف عن حكومته، سيقضي “مانديلا” مدّة الحكم المؤبّد، وسيخرج منه هو والعدالة منتصريْن، وسيكون هنالك بالتأكيد مهزوم واحد هو نظام “الإبرتهايد” العنصريّ. سينتصر “الأسود” الإنسان على “الأبيض” اللاإنسان كما انتصر الدم على السيف وكما انتصرت القلّة على الكثرة في كثير من المعارك الإنسانيّة. يخرج المناضل العظيم “مانديلا” بطل الصراع المنتصر على الفصل العنصريّ، بعد نضالات كثيرة في السجون وفي خارج السجون، وبعد ضغوط دوليّة وحملات إنسانيّة لم تعد تطيق وحشيّة هذا النظام الدمويّ والقمع العنصريّ، ليصبح رمزًا عالميًّا للكفاح والثورة من أجل دحر العنصريّة وانتصار السلام والعدالة وتحقيق الحريّة والكرامة الإنسانيّة. يكفيه فخر أنّه في اليوم العالميّ لِ “نيلسون مانديلا” تقترن النداءات لإطلاق سراحه بحملة تنديد عالميّة بحكم “الأبرتهايد” البغيض.
معاناة السجون وصلابة المواقف:
إذا وصفت شاعرتنا الفلسطينيّة، شاعرة المقاومة “فدوى طوقان” حياتها برحلة جبليّة، رحلة صعبة، فإنّه يحقّ لِ “مانديلا” وصف رحلته مع السجون برحلة قهريّة ورحلة شاقّة، لا أحد يحبّ السجون، حتّى المقاتلون في الغابات والوديان وبظروف عسيرة لا يحبّونها، فَ “السجن نقطة سكون في عالم متحرّك، وفيه تصبح الذاكرة على طرفيْ نقيض: خليلًا وعدوًّا في آن واحد”. هذا وصف للسجن كما رآه “مانديلا” والإنسان يميل إلى الأصدقاء ويقاتل الأعداء ويحبّ العيش في عالم يعجّ بالحركة لا في سكون ورهبة وخوف. ولكن عندما يكون السجناء على شاكلة “مانديلا” ورفاقه: “مبيكي” وَ “سيسولو” وَ “مهلابا” وَ “أندور ملانجتي” وَ “أحمد كاثرادا” فلا خوف على مسيرة الكفاح، لإنّهم يستطيعون تحريك النضال من وراء القضبان، بل يستطيعون تحويل السجون نفسها إلى ساحات نضال تقف في طليعة الثوّار وتتقدّم نحو العدو، لقد آمن هؤلاء بما ردّده “مانديلا” دائمًا: “النضال هو حياتي! صحيح أنّ العالم ممتلئ باليأس والمرض والجوع ولكنّه واعد ومفعم بالأمل”.
مجموعة من المناضلين العظماء وعلى رأسهم مناضل عنيد يؤمن حتّى النخاع بأنّه “لا يمكن إيقاف سيرنا نحو الحريّة! علينا أن لا نسمح للخوف أن يقف في سبيلنا، وسأظلّ آمل أن تضرب أفريقيا جذورها في أعماق الأرض وتزهر إلى الأبد بصرف النظر عن تغيّر المواسم”، ورأى بثقة ثوريّة أنّ: “الأمر يبدو مستحيلًا ولكن سيتمّ إنجازه لأنّ العزيمة هي كلمة السرّ التي تقف وراء التغلّب على أيّ شيء”. هذا المناضل القادر على إنهاء شهادته العليا في الحقوق بالمراسلة وهؤلاء المناضلون القادرون على تحويل السجون إلى مدارس يقدّمون فيها الدروس للسجناء وفقًا لتخصّصاتهم ومعارفهم ليزيدوهم ثقة ومعنويّة وخبرة كفاحيّة وتجارب نضاليّة وصمود يقوّي عزائمهم في مقاومة الظلم والعنصريّة، هؤلاء قادرون أيضًا على صنع النصر على العدوّ وقادرون على خلق الحياة الكريمة من قلب الذلّ والموت. لقد آمن “مانديلا” بالتعليم ورأى فيه: “أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم”.
أربعة سجون لا غير:
بدأت الرحلة الشيّقة والشاقّة سنة 1962 في سجن “مارشال” في “جوهانسبرغ” تجربة أولى يانعة تبرعم، تضاف إلى جذور وطنيّة راسخة في الأرض وجذوع تجارب تمتدّ على مدى الوطن المسلوب الإرادة والحريّة والكرامة، وتنمو التجربة وتغنى بالمعرفة والاتّصالات بين السجناء المناضلين، مرحلة أخرى من المقاومة وسجن آخر جديد وطويل على مدى 20 عامًا (1962 – 1982) في سجن “جزيرة روبن” البعيدة، ظروف صعبة، أبرز وجوهها عزل انفراديّ، غرفة صغيرة جدًّا، رطوبة عالية، مضايقات جسديّة ونفسيّة، أعمال شاقّة في محاجر الصخر ومحاجر الجير بلا نظّارات تمنع الغبار من احتلال العيون، منع للصحف والتراسل، كان يسمح للسجين “مانديلا” برسالة واحدة وزيارة واحدة كلّ ستّة أشهر. ولكن هذه الممارسات لم تمرّ على السجناء ولن يسكتوا عنها فقابلوها بالإضراب عن الطعام والعمل، ومن ثمّ تحوّل سجن “جزيرة روبن” إلى جامعة “جزيرة روبن”، النظام العنصريّ يفتح سجونًا والسجناء المناضلون يفتحون مدارس! ويؤتي النضال ثماره، وافقت إدارة السجن على مطالب السجناء في تغيير نظام الملابس، وسمح لهم باللعب والرياضة وبعدد أكبر من الزيارات، التي كانت ممنوعة عن “مانديلا” حتّى من الأولاد والزوجة والأمّ. لقد قال السجين العظيم يومًا: “حافظ على كرامتك حتّى لو كلّفك الأمر أن تصبح صديقًا لجدران زنزانتك”.
في سجن “الجزيرة” هذا يحتفل بعيد ميلاده الستّين سنة 1978، وسط عائلة السجناء والمناضلين، في هذا العيد يُهدى هدّيتيْن غاليتيْن: دكتوراة فخريّة من جامعة “لسوتو” وجائزة “جواهر لال نهرو” للتفاهم الدوليّ. وهو في سجنه يُطلق شعار “الحريّة لمانديلا” يصل تأثيره إلى مجلس الأمن الدوليّ فيطالب بإطلاق سراحه. الحكومة العنصريّة تصمّ آذانها وتدير ظهرها للحملة العالميّة التي تناشد بإطلاق سراح البطل، وتضرب بكلّ الدعوات عرض الحائط، حكومة عنصريّة بلا ذرّة من إحساس إنسانيّ، كيف تفعل! وهي المتحالفة مع أسوأ حكّام الرأسماليّة والأكثر إدّعاء وتشدّقًا بالديمقراطيّة والمدعومة منهما: الرئيس الأميركيّ “رونالد ريغان” الذي لم تتّسع الأرض لأدرانه وحروبه فذهب إلى “حرب النجوم”، والسيّدة الحديديّة القلب، رئيسة حكومة بريطانيا العظمى البلد الأكثر استعمارًا في العالم وظلمًا تاريخيًّا بحقّنا نحن الفلسطينيّين وبحق كافّة شعوب الأرض “مارغريت تاتشر”، التي لم ترعوِ عن نعت أشرف الناس وأطهر المناضلين وأنقى القلوب بالشيوعيّ والإرهابيّ، وطالبت بإزالة حزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ من الوجود.
وثالثة الأثافيّ سجن “بولسيمور” في “كيب تاون”، لمدّة ستّة أعوام (1982 – 1988) سجن آخر ولكنّه أخفّ وطأة وحدّة وشراسة، ظروف أسهل تمكّنك من القراءة بنهم والتراسل كلّ شهر وتحويل السطح إلى مزرعة جميلة خضراء، ولكنّ النضال يتّخذ شكلًا أمميًّا، فتقام “الجبهة الديمقراطيّة المتّحدة متعدّدة الأعراق”، من السجن يوجّه رسالة قويّة لكلّ المناضلين في الجبهة: “اتّحدوا وجهّزوا وحاربوا! إذ ما بين سندان التحرّك الشعبيّ ومطرقة المقاومة المسلّحة سنسحق الفصل العنصريّ”، حكومة الحزب الوطنيّ بقيادة الرئيس “بوتا” تتّخذ إجراءات عنصريّة صارمة وتسنّ قوانين أشدّ عنفًا، حزب المؤتمر في الخارج يكثّف هجماته ويتزايد العنف المسلّح على أهداف حكوميّة ردًّا على نهج “الأبرتهايد”، وتهرع حكومة “بوتا” العنصريّة المتشدّدة لطلب المفاوضات مع “مانديلا” السجين، ولكنّه في المفاوضات يرفض الشروط وهي: نبذ العنف يعني التخلّي عن أصدقاء السلاح في الخارج الذين ينشطون بالتنسيق معه، وثانيًا قطع العلاقات بينه وبين الحزب الشيوعيّ، يعني معاداة السجناء الذين يشاطرونه الزنازين، وعدم الإصرار على حكم الأغلبيّة، يعني القبول بذلّ حكم الأقليّة العنصريّة البيضاء وليبقَ السود على ذلّهم والقبول بظلمهم. ويزيد العنف ويشتدّ، ويحتفل “القائد” بعيد ميلاده السبعين سنة 1988.
آخر قلاع العدوّ، “كلّما اشتدّ الظلام اقترب انبلاج الفجر”، السجن الرابع لسنتيْن اثنتيْن (1988 – 1990) 1990 سنة انتهاء ظلام السجن انبلاج النور والإفراج، اسمه سجن “فيكتور فيرستر” في “بارل”، يتعرّض “القائد” لمرض السلّ وضعف النظر يرافقه منذ محاجر الجير، يحظى بزيارات أكثر، ومن خلالها يجري اتّصالات سريّة مع قائد حزب المؤتمر المنفيّ “أوليفر تامبو”، في هذه الآونة يموت الرئيس “بوتا” العنصريّ، ويعتلي سلطة نظام الفصل العنصريّ “فريدريك ديكليرك” الذي يختلف في نظرته عن سابقيه، فقد آمن بعدم قدرة نظام الفصل العنصريّ على الاستمرار، فيقدم على خطوة حكيمة هي إطلاق سراح جميع السجناء السياسيّين إلّا “مانديلا”، القرار ناقص! ويستمرّ النضال والمطالبة والنداءات العالميّة، يرضخ “ديكليرك” ويلتقي “مانديلا” في سنة 1989، وتتمّ المفاوضات، الأجواء أقلّ صعوبة وتبعث على الأمل، وإلغاء الحظر عن جميع الأحزاب، ومن ثمّ الإفراج عن رئيس حزب المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ، وينسدل الستار على مأساة أسفل حكم في التاريخ البشريّ ومعاناة أشرس أشكال العنف والظلم والتفرقة العنصريّة، نظام الفصل العنصريّ “الأبرتهايد” وتعود جنوب أفريقيا السوداء إلى مجدها الأفريقيّ وشبابها الناصع البياض.
إفراج وحريّة وأكاليل غار:
الحادي عشر من فبراير سنة 1990 تاريخ مجيد للإنسانيّة، في هذا اليوم اضطرّ نظام الفصل العنصري أن يفرج عن العظمة المجسّمة في “نيلسون مانديلا” خرج من سجنه حرًّا كما دخله وكما قضى مدّة محكوميّته فيه، لكنّه خرج أكثر سطوعًا ونورًا وأملًا ومحبّة للبشر، حتّى ظالميه، هو ليس المسيح ولكنّه يسلك كالمسيح. همّه الأساس ليس سلامته وصحّته، وهو ابن 72 عامًا، مع أنّه خرج يمشي بعود مشدود وخطًى واثقة “منتصب القامة مرفوع الهامة” كما تغنّى مرّة الشاعر العروبيّ سميح القاسم، نحو فصل نضاليّ جديد، عماده وفي صميم صميمه تفكيك الإرث العنصريّ والانتصار على الفقر وتعزيز المصالحة الوطنيّة، من موقعه الجديد رئيسًا للمؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ من سنة 1991 حتّى سنة 1997. وتقديرًا لنضاله وعظمة صموده وسجنه صار الأمين العامّ لحركة عدم الانحياز مدّة سنتيْن (1997 – 1998). وفي الانتخابات الديمقراطيّة الأولى التي شاركت فيها كلّ الأعراق: بيضًا وسودًا بعيد اندحار النظام العنصريّ البائد انتخب “مانديلا” رئيسًا لجمهوريّة جنوب أفريقيا، رئيس أبيض قديم يودّع ورئيس أسود جديد يأتي.
يوم الإفراج عن “مانديلا” هو يوم حريّة وطن كبير، رئيس لولاية واحدة من خمس سنوات ويمضي، من سنة 1994 حتّى سنة 1999، ويأتي “ثابو مبيكي” رئيسًا جديدًا منتخبًا لرئاسة المؤتمر الوطنيّ ورئاسة البلاد، ويودّع “مانديلا” الحياة السياسيّة بخطاب أخير ألقاه في 29/3/1999. “نحن، شعب جنوب أفريقيا، نعلن للجميع في بلدنا والعالم حتّى يعلموا أنّ جنوب أفريقيا ملك لجميع الذين يعيشون فيها، بيضًا وسودًا، وأنّه لا يمكن لأيّ حكومة أن تدّعي بعدل سلطتها ما لم يكن ذلك قائمًا على إرادة الشعب”.
يحقّ له أن يتفرّغ من أعباء السياسة ويستريح من مسؤوليّات الحكم، بعد هذا الحياة العريضة والطافحة بالعمل الوطنيّ والكفاحيّ من أجل أسمى القيم الإنسانيّة، ويبقى في مهامّ إنسانيّة، ويحصل هو وغريمه “ديكليرك” على جائزة “نوبل” للسلام سنة 1993، على المشروع الإنسانيّ الكبير، إبطال الباطل وإحقاق الحقّ “إنّ الباطل كان زهوقا” ونشر السلام والأمان ورفع إمكانيّات العيش الكريم للإنسان في وطن سعيد. يتفرّغ للعمل الإنسانيّ فيقيم مؤسّسة “نيلسون مانديلا لمكافحة الأيدز”، لأنّه يؤمن بالعمل ويعرف أن الفراغ قاتل فقال: “لقد تقاعدت ولكن إذا كان هناك أيّ شيء من شأنه أن يقتلني فهو أن أستيقظ في الصباح وأنا لا أدري ما سأفعل”، ويقيم مؤسّسة “نيلسون مانديلا للطفولة”، لأنّ إيمانه بمكافحة الإيدز مقترن بحبّه للطفولة السليمة فقد قال: “أعطِ الطفل الحبّ والضحك والسلام وليس الأيدز”. ويحصل على 250 جائزة دوليّة وقطريّة، من أشهرها “وسام لينين” من الاتّحاد السوفييتيّ وميداليّة “الرئاسة الأميركيّة”، ويعيّن من قبل الأمم المتّحدة سفيرًا للنوايا الحسنة، والأهمّ من كلّ هذه الجوائز يحظى بلقب “أبو الأمّة” لدى جميع الجنوب أفريقيّين، واحترام وتقدير لدى كلّ شعوب الأرض. ومع ذلك تبقى قوى اليمين تنتقده وتكرهه لقربه من الشيوعيّين والوطنيّين، ومن “فيدل كاسترو” وّ “ياسر عرفات” وَ “معمّر القذّافي”، لقد قال شاعرنا الكبير المتنبي منذ زمن بعيد: “وإنْ أتَتْكَ مذمّتي منْ ناقصٍ فهيَ الشهادةُ لي بأنّي كاملُ”.
وعندما أعتقد أحد الصحفيّين الأميركيّين بأنّه يحرجه بعلاقاته المتينة مع أولئك وإنّه يعتبرهم نماذج لحقوق الإنسان، أجاب “مانديلا” بصراحة ووضوح ومضمون من الصعب على أميركا الرسميّة قبوله، كان ذلك عند زيارته للولايات المتّحدة أثناء فترة رئاسته، قال: “موقف بعض الدول يرى بأن يكون أعداؤها هم أعداءنا، لا ليس هذا موقفنا، لنا نضالنا الخاصّ، ونحن دولة مستقلّة ولنا سياستنا، وموقفنا من أيّ دولة يتحدّد وفق موقف تلك الدول من نضالنا، “ياسر عرفات”، “معمّر القذّافي” وَ “فيدل كاسترو” دعموا نضالنا حتّى مقبض السيف وإلى أقصى حدّ، ولذلك لا يوجد أيّ سبب على الإطلاق يدعونا لعدم الإشادة بدعمهم لحقوق الإنسان في جنوب أفريقيا، ودعم نضالنا ضدّ الفصل العنصريّ، ليس بالخطابات بل بوضع كافّة الموارد تحت تصرّفنا من أجل انتصار قضيّتنا، هذا هو الموقف”! ووفاء لكوبا ورئيسها العظيم “كاسترو” ومساعداتها الأمميّة العسكريّة للنضال الجنوب أفريقيّ في الإمدادات والتدريب والسلاح والدعم المعنويّ اللامحدود، كانت كوبا الاشتراكيّة هي محطّ زيارته الأولى بعد خروجه من السجن، زارها يوم 27/7/1991، وكان أوّل طلب له في اللحظات الأولى من لقاء “كاسترو”: متى ستزور جنوب أفريقيا”؟ وقد شكره على الدعم والإمداد، فوعده الزعيم الكوبيّ بتلبية الزيارة في أوّل فرصة أو مناسبة تسنح، وأشاد بالزعيم الأفريقيّ الكبير واصفًا إيّاه بالصديق القديم والعظيم ورمزًا للحرّيّة والعدل والكرامة الإنسانيّة، ومنحه ميدالية “خوسيه مارتي” أرفع الأوسمة في كوبا، وتقديرًا له فإنّ كوبا تحتفل سنويًّا باليوم العالميّ لِ “نيلسون مانديلا”، واحترامًا وتقديرًا للزعيم الأفريقيّ لبّى الرئيس “كاسترو” دعوة “مانديلا” بعد 10 سنوات من زيارة “مانديلا” إلى كوبا، وزار جنوب أفريقيا والتقاه في جوهانسبرغ في 2/9/2001.
يكفي “مانديلا” محبّوه في العالم وهم كثُر وبملايين الملايين، وهم بسطاء العالم من أنقياء الضمير وفقراء الأمم والعمّال والفلاحين في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا اللاتينيّة، من السود والبيض والصفر، ورغم كراهيته من قلّة من الأنظمة والرأسماليّين والمهيمنين والمحتلّين كحكّام إسرائيل وقوى الرجعيّة والغطرسة والإمبرياليّة والعنصريّة إلّا أنّه فرض احترامه عليهم أيضًا. هذا هو “نيلسون مانديلا” نصير المظلومين شاء من شاء وأبى من أبى “واللي مش عاجبه يشرب من بحر غزّة” كما قال الرئيس “عرفات” أو “فليبلّط بحر عكّا”.
من أروع ما قال:
“السلام ليس مجرّد انعدام القتال، بل إنّ السلام هو تهيئة بيئة يزدهر فيها الجميع، بصرف النظر عن عرقهم أو لونهم أو معتقدهم أو جنسهم أو طبقتهم أو طائفتهم أو أيّ سمة اجتماعية مميّزة. فالدين والعرق واللغة والممارسات الثقافيّة عناصر تغني الحضارة البشريّة، وتضيف إلى ثراء تنوّعنا. فلماذا نسمح لها بأن تكون سببًا للتفرقة والعنف! إنّنا نحطّ من قدر إنسانيّتنا المشتركة إن سمحنا بذلك”.
“لقد أبانت جنوب أفريقيا عن قدرة هائلة على التآزر في مواجهة الشدّة. لقد سقط نظام الفصل العنصريّ في نهاية المطاف بفضل وحدة أولئك الذين حُرموا من حقوقهم، ولأنّ جميع شرائح المجتمع أدركت بأنّها ستكسب الشيء الكثير من العمل يدًا بيد بدل التناحر. وتلك الخصلة بالذات هي التي ساعدتنا على التعجيل بإرساء أسس حياة أفضل. وعندما انتهى الفصل العنصريّ واجهنا مهمّة شاقّة تمثّلت في إعادة بناء مجتمعنا المحطّم وتوفير أبسط الخدمات لشعبنا. وكان علينا أن نبني المدارس والمستشفيات، وتوفير السكن وفرص العمل، وتعزيز اقتصادنا، وحماية حقوق أهالينا عن طريق دستورنا ومحاكمنا، ومساعدة جنوب أفريقيا على معالجة انقسامات ماضيها وبدء عملية التعافي والتصدي للعنف والحيف اللذيْن أحاقا بمجتمعنا”.
“ما دام الفقر والظلم والتفاوت الفاحش قائمًا في عالمنا، فلن يرتاح لأحد منّا بال. ولن ننسى أبدًا كيف تضامن معنا ملايين الناس في شتّى أنحاء العالم لمكافحة الظلم والاضطهاد عندما كنّا في السجون. وأتت تلك الجهود أُكلَها وأصبحنا قادرين على الوقوف هنا والانضمام إلى الملايين من الناس في شتّى أنحاء العالم من المناصرين للتحرّر من الفقر. إنّ شدّة الفقر وفظاعة انعدام المساواة آفتان رهيبتان من آفات عصرنا، هذا العصر الذي يفتخر فيه العالم بتحقيق إنجازات هائلة في العلوم والتكنولوجيا والصناعة وتراكم الثروات”.
“طيلة حياتي كرّست نفسي لنضال الشعوب الأفريقيّة. وكافحت ضدّ هيمنة البيض، وكافحت ضدّ هيمنة السود. وما فتئت أتوق إلى المثل الأعلى المتجسّد في مجتمع ديمقراطيّ وحرّ يعيش فيه جميع الناس معًا في وئام وعلى أساس تكافؤ الفرص. وهو مثل آمل أن أعيش من أجله وأتمنّى أن يتحقّق. ولكن إذا لزم الأمر، فهو مثل أعلى أنا على استعداد للموت في سبيله”.
ومات مانديلا ولم يمت الكفاح:
بعد 95 سنّة من العمر، وبعد 07 سنة من النضال، منها حوالي 30 سنة من داخل السجون والمعتقلات، في يوم 5/12/2013 من جوهانسبرغ، الرئيس الحاليّ لجنوب أفريقيا “جاكوب زوما” يعلن خبر وفاته في بيته في “هوتون”، ويتمّ إعلان الحداد لعشرة أيّام وفيها ترفع الأعلام افتخارًا بعلم عظيم سيبقى خفّاقًا، وفي كلمته قال الرئيس: “لقد فقدت أمّتنا أعظم ابن لها، فقد شعبنا أبًا، كنّا نعلم أنّ ذلك سيأتي، لكن لا شيء يقلّل من شعورنا العميق بالخسارة”، وجنازة رسميّة تتحوّل إلى محتفل دوليّ، ولقاءات تاريخيّة تتصافح فيها أيدي الخصوم “باراك أوباما” يصافح “راؤول كاسترو”، كما صافح “بيل كلينتون” سنة 2000 “فيدل كاسترو”، في الأمم المتّحدة، (لقد نقيت وابيضّت يد السياسة الأميركيّة السوداء للحظات عندما صافحت اليد الكوبيّة بيضاء الصنائع) وموسيقى جنائزيّة ومراسيم دينيّة ورسميّة وتشييع عظيم! ولكنّ عظمة المشيَّع أعلى وأسمى وكلمات تأبين لرؤساء دول وممثّلي منظّمات دوليّة لا تساوي كلّها ليلة سجن من العقود الثلاثة، معظم الرؤساء هنا، من معظم قارّات العالم ودوله وأممه، و4500 شخصيّة عالميّة، كلّهم عبّروا عن الفقدان العظيم بموت “نيلسون مانديلا”، حتّى الرئيس الأبيض الأخير في جنوب أفريقيا “فريدريك ديكليرك” قال: “لقد كان مخلصًا جدًّا جدًّا لقضيّته وخلّف أعظم تركة له”، نائب الرئيس في جنوب أفريقيا “كاليما مونلاتني”: “اسم مانديلا أصبح من المخلّدين في التاريخ”، “جوزيف بلاتر” الرئيس السابق للاتّحاد العالميّ لكرة القدم يعلن دقيقة حداد في بدء المباريات الدوليّة ويقول: “إنّ اسم مانديلا سيبقى في قلوبنا إلى الأبد”، رئيس الاتّحاد الأفريقيّ “دلاميني زوما” يقول: “لقد خاض مانديلا معركة جيّدة وتمكّن من رفع علم الاتّحاد الأفريقيّ على الصاري من جديد”، “كاترين آشتون” رئيسة الاتّحاد الأوروبيّ: “ألهم مانديلا جيلي وعالمنا بأكمله أكثر من أيّ شخص آخر”، أمّا “بان كيمون” الأمين العامّ للأمم المتّحدة فقال: “كان مانديلا شخصيّة فريدة على المسرح العالميّ”، الرئيس الجزائري “عبد العزيز بوتفليقة” في رسالته نقل تعازي شعب الجزائر إلى شعب جنوب أفريقيا، بوفاة المناضل مانديلا، واصفًا إيّاه بالأخ العزيز فقال: “إنّ أفضل تحيّة وذكرى نقدّمها له هي مواصلة العمل من أجل نهضة أفريقيا”، رئيسة الأرجنتين “كريستينا فرنانديز” تقول: “مانديلا مقاتل لا يكلّ ولا يملّ من أجل انتصار الديمقراطيّة في أمّته”، وللرئيس الروسيّ قول فيه: “بعد أن عانى مانديلا أصعب المعاناة، ظلّ وفيًّا لمبادئ الإنسانيّة والعدالة”، والرئيس الأميركيّ “باراك أوباما” يقول: “أنا واحد من الملايين الذين استلهموا مانديلا، أمّا الآن دعونا نعطيه كلّ الشكر”. وهذا غيض من فيض شخصيّته ومبادئه وصدق مقاصده وعدالة قضيّته ومسيرة نضاله وكفاحه السلميّ والمسلّح وسجونه الطويلة. وفي اليوم العالميّ لنيلسون مانديلا الذي أُقرّ منذ سنة 2009، يوم مولده في 18 تمّوز من كلّ عام، 40 مدينة في العالم تحتفل وتعتبره يومًا كفاحيًّا عالميًّا ضدّ كلّ أشكال الظلم ومن أجل العدالة والسلام.
مات “نيلسون مانديلا” ولكنّ الثورة لن تموت، مات العظيم ولكن تبقى وراءه عظمة الحُلم الذي آمن به، ويبقى وراءه علم الكفاح الخفّاق ضدّ الظلم بكافّة أشكاله: العنصري واللونيّ والدينيّ والقوميّ والطبقيّ والاجتماعيّ والسياسيّ، مات الرمح ولكنّ الأمّة باقية ما بقيت الأنهار الكبيرة والبحار العظيمة والجبال الشاهقة، مات الزعيم المعلّم ولكنّ الأجيال الناشئة ستتوالى وستتعلّم جيلًا بعد جيل، كما يتوالى الليل والنهار. مات الرجل وجزء من حريّته وحلمه لم يكتملا، “نحن نعلم جيّدًا أنّ حرّيتنا ناقصة بدون حرّية الفلسطينيّين”! مانديلا الأفريقيّ العظيم يؤمن بذلك، ورؤساؤنا وملوكنا العرب لا يروْن اكتمال “حريّتهم” وهدوء بالهم إلّا بضياع فلسطين! فيا لكرامة “مانديلا” وعظمته على مدى الحياة! ويا لعار الرؤساء والملوك العرب وهوانهم الأبديّ! فلينعمْ أو يبؤس كلٌّ بمواقفه وبذكراه!