من يقاوم سحر “إمرأة الرسالة “
تاريخ النشر: 31/08/20 | 8:39بقلم الأسير: كميل أبو حنيش
طالعت رواية “إمرأة الرسالة ” للروائيّة والفنّانة الفلسطينيّة رجاء بكريه قبل أكثر من عقد. تلك الرواية الصادرة عن الآداب في طبعتها الأولى عام 2007. ومنذ ذلك الحين استقرت في ذاكرتي كإحدى الإبداعات الأدبيّة النوعيّة ولم يتسنى لي معاودة مطالعتها مرة أخرى ولم أفلح في الحصول على نسخة منها طوال تلك السنوات من التنقّلات بين السجون والانهماك في الإشغال والهموم العامة.
أعود لذات القسم بعد عشرة أعوام، وأعاود تقليب الكتب في المكتبة، ولم أعثر عليها مع أنها مسجلة في أرشيف المكتبة. قلت في نفسي لا بدّ أنّ أحدهم قد بهرته الرواية فآثر أن يحتفظ بها. ظللت اأبحث عنها إلى أن وصلت مع مجموعة كبيرة من الكتب ضمن حملة (لكل أسير كتاب) التي يقوم بها الأستاذ المحامي حسن عبادي. وتمكنّا أخيراً من إدخالها إلى السجن بعد أن تأخّرت لأشهر بسبب الانقطاع عن الزيارات بعد انفجار أزمة الكورونا.
وها هي الرواية أمامي الآن عليها إهداء بخط رجاء. أهيّء نفسي لمطالعتها كما لو أنّني اكتشفتها للمرة الأولى متظاهراً بأنّني لم اقرأها من قبل. كلّما توغّلت أكثر في سطورها، يبقى يلازمني السؤال: كيف أمكن لأصابع هذه المرأة أن تخط مثل هذه التحفة الأدبيّة، ومن أي المياه شربت هذه النصوص المدوخة؟ فالرواية أشبه بقصيدة شعر طويلة منظومة على بحر الحب… وبحر الحنين لأمكنة تظل تصهل في سهوب الذاكرة. كانت كلماتها تتراقص أمامي، بانسيابيّة مياه الجداول، وكنت كمَن يطارد سحراً دون أن يفلح في الانفكاك منه، والرواية معجونة بماء الحب وعبق الأمكنة وأوجاع السجون وبرد الغربة والتشرّد والاغتراب.
تروي قصة عاشقة تنتمي ذهنياً إلى زمن الطبيعة وأدغالها وتختبر التسليح بالحب البكر (في القرن الحادي والعشرين يا سيدي ستعثر على إمراة …. لا تؤمن تماماً بالحضارة ولا بالعولمة …. بل ربّما بالعودة قليلاً إلى الخلف. أولى الأشياء بسذاجتها المطلقة وتكتب لك بأظافرها المتسخة هذه الرسالة )(ص5(، امرأة عاشقة ترسم مشاعرها الصافية تحت ضوء القمر، إمرأة ظمأى لنقاء الحب بعفويته الأولى وبطقوسه التلقائية بلا أيّة قيود… لا تتحايل ولا تعرف الفذلكات. مفردات رسالتها تهطل قبل زخّات المطر الأولى فتفوح رائحة الأرض ناشرة عبق رغبة تزاوج التراب مع المطر لتنبض الحياة في رحمها .
يسألها: متى أراك؟ تراوغه: “في زمن لا ينادى على الشوارع بنحيبات تاريخها أو حين تذهب شوارع المدن الحرة إلى ساعات نومها) (ص43)، عاشقة ظمأى للحرية بلا جراحات تحياها الأمكنة وبلا عساكر يطاردون الأحلام، وبلا سجون توصد أبوابها على العاشقين.
ولأنّ الحياة في المدن النازفة ملاصقة تماماً للسجون صار يتعيّن عليها أن تطحن تحت رحى انتظار غسان الذي بات له رقمٌ بدلاً من اسمه، صار غسان رقماً في منطق دولة تعبد الأرقام وتصر على أنّ البشر الذين لا يوالون لها مجرد أشياء قابلة للإحصاء، ومتّهَمة على الدوام بالإرهاب “لو يأخذوا عيوني كي يروك بها لأحدثوا انقلاباً لمفاهيم القانون عن الإرهاب”(ص95) هي لهفة الحب وشغف الشوق المصابة به طوابير من النساء العاشقات المنتظرات بصبر أسطوري على بوابات السجون التي تديرها دولةٌ تسخر من مشاعرهن “لا أعرف إذا كان الفلسطيني هنا محسوباً على دولتهم كإنسان” (ص94) لكن الفتاة العاشقة تتشبّث بالحب رغم وجع الانتظار وتبرق رسالة عهد لغسّانها السجين “أحبك جداً. هذا ما أردت أن أهمس به للعالم الذي حولي ولك يا سيدي لو أمكن أن يصل همسي إليك في زنزانتك البعيدة” (ص109) وتواصل القول “عج رأسي بصورتك وأنت مقيد بالسلاسل” (ص122(.
تنطلق نشوة متسلحة بهذا الحب وإن أورثها المزيد من الألم. تجوب المدن تبحث عن سكينة تخفّف من وطأة أوار الحب وغياب غسان. ومع كل مدينة تظل عكا مدينتها الأولى، قبلة الروح ومسقط الرأس والقلب “كانت عكا كل ما أعرفه عن الحب”(ص129) عكا مدينة تختصر الحب. فالحب مدينة والمدينة حبٌ لا يذوي فتيل اشتعالها، مدينة تلدنا ونبقى موصولين بحبلها السري. نتسكّع في أزقّة أحلامها وننضج تحت جناحيها. مدينة لها سحرها الخاص، وحين نجوب المدن الأخرى ونتوه في ضبابها ولسعات بردها يلازمها الحنين كظلها “هي اليوم بدونه تختبر انتحال ذاكرتها للأمكنة” (ص168) وتختبر اغواء الأمكنة وطعم الحب في مصيدة المدن الأخرى فتقع في اختبار كاظم العراقي الهارب هو الآخر من فردوس الوطن فيعشق فيها فلسطينيتها الشاهقة “أحب في صمتها أبواب أماكن لم يطرقها” (ص173) وكأن قدر فلسطين أن يعشقها العرب من دون أن يتكلفوا عناء تنظيف أسلحتهم الصدئة ذوداً عنها.
ستحتاج نشوة التائهة في ضباب لندن إلى المزيد من الوقت كي تختبر الحنين إلى الوطن “كم احتاجت من الوقت كي تفهم أن المدن هي حفر القلب في موج الذاكرة” ( ص311 (، و”كي تبقى المدن جميلة يجب أن نسكنها قلوبنا” (311) إلى أن ينتصر المكان أخيراً.، أو ينتصر الوطن على الغربة والاغتراب “عكا شيء آخر. هنا يخيل إليك وأنت تمر بالحياة أن العشق يعشش في كل مكان” (ص318) فعكا وغسان مزيج من العشق الذي لا يتجزأ، فلا حب خارج الإحساس بالمكان وما يتركه من بصمات في الذاكرة، فتعود إلى عكا على أجنحة الحب والحنين “وأمام الموج أعادت ترتيب صورة غسان . البحر في عكا صورة لا نهائية عن العشق وسحرها في عدم اكتمالها. غسان أنت كله نادته كأنه يسمعها، هذا الامتداد الأزرق أنت كله” (ص319 .(
لا حب إذًا بلا مكان يعبق كالحلم في أدغال الذاكرة. تحسم نشوة بشاعرية “عند أقدام عكا يجوز الحلم وفي أي مكان آخر، والأحلام محض وهم” (ص 343) وها هي في تيه جديد في الغربة تكتشف أن لقاءها الأخير مع غسان قد ترك لها بصمة تنبض في أحشائها. ترك لها الوطن ينمو فتحرر نفسها من قيد الاغتراب وتكتب ما هي مؤمنة به وتخط الرسالة “وعلى المغلف حفرت اسم عكا واضحا كموج قلب كأنه آخر ملجأ للذاكرة من السلب وللحب من الفقد” (ص319) .
رواية ” إمرأة الرسالة” تروي حكاية فتاة عاشقة، حاملة لواء رسالة الحب والانتماء للمكان الذي تحيله جرح نازف، فالنساء كالمدن، والمدن يحملن مجاز جمال الإلهات الأسطوريات، فكانت أثينا …. وكانت بيروت …. وكانت إيلات …. والمدن أمهات للجميع تحنو على أبنائها وعلى غير أبنائها.
رواية ” إمرأة الرسالة” خطتها أنامل امرأة تعشق مدينتها وتتماهى بها. وكان قدر عكا أن تنجب أكثر من غسان، بعضهم ليكون شهيداً للكلمة، وبعضهم يحيا خلف الأبواب الموصدة وآخرين ينتشرون في كل مكان كسنابل القمح تطاردهم مناجل المحتلين.
من قال أن هذه الرواية قد كتبت قبل أكثر من خمسة عشر عاماً؟ أحسّ أن رجاء قد كتبتها البارحة، لأن رائحة حبرها لا تزال تعبق بين السطور وأظنها لا تزال تكتبها، وأغلب الظن أنها لن تتوقّف عن كتابتها، وستصل حتمًا إلى أيدي تقدّر قيمة الأدب وتعشق عبق الأمكنة، وتصغي لصدى الأزمنة في هذا المكان، وتفهم هذه الرسالة الملغزة بشيفرة الحب ولغة الطبيعة البكر.
الأسير الفلسطيني كميل أبو حنيش
(سجن رامون الصحراوي)