المجهود، القدر والقطة سوشي
تاريخ النشر: 04/09/20 | 9:17* يوميات
المجهود الكبير
في تعليق لأحد أصدقائي على الفيسبوك على إحدى كتاباتي، كتب لي منذ فترة كلمات شكر على «مجهودي الكبير»!
لا أدري لماذا أضحكني كلامه، فأنا لا أحسّ بذلك المجهود الكبير الذي يجب شكري عليه عند كتابتي، بل أشعر بمتعة كبيرة. ويذكّرني ذلك بما قاله الكاتب الإسرائيلي عاموس عوس («قصة عن الحب والظلام»، «ميخائيل»، «البشارة حسب يهودا») حين سُئل عن رأيه في حصوله على الجوائز الأدبية: «شعوري غريب بأن أتلقى جائزة على شيء كنت سأفعله حتى لو كنتُ سأتلقى عليه غرامة.»
هكذا هي الكتابة. إنها متعة كبيرة لا تنتظر كلمات الشكر ولا الجوائز من أحد.
مواجهة القدر
تقول إليسا في أغنية لها من أحدث ألبوماتها: «أبوي علمني ما خافش وأواجه قدري».
فما هو القدر؟ وما هي مواجهة القدر؟
قيل في تعريف القدر: هو الحكم والقضاء أي الأمر الأزلي وهو تقدير الله الأشياء في القدم وعلمه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، أو هو ما كتبه الله علينا، مشيئته ووقوعها على حسب ما قدرها.
وبكلمات أبسط يمكنني القول، حسب فهمي، أن المقصود هو الواقع، ذلك الواقع الذي يصيبنا دون أن تكون لنا السيطرة عليه. فنسأل أنفسنا حينا: لماذا أنا بالذات؟
ونفكر أحيانا: أنا لا أستحق ذلك.
ولو فكرنا جيدا قد نجد أن لنا جزءا ولو صغيرا فيما آل إليه واقعنا، لكنه حدث ولا جدوى من جلد الذات أو الإشفاق الذاتي أو التفكير في الماضي. علينا أن نواجه الواقع كما هو، أو نواجه قدرنا كما تقول إليسا، ولا نخاف.
القطة سوشي
منذ فترة توفيت قطتنا الصغيرة التي لم يتعدّ عمرها بضعة أشهر. كان اسمها سوشي. ولدت في بيتنا وكانت قد أصيبت بمرض في إحدى عينيها بعد أسبوعين أو ثلاثة من ولادتها، مما يدلّ على مرض في جهازها الهضمي حسبما قرأت مرة. لكن المرض لم يكن باديا عليها على الإطلاق، فقد كبرت وكانت نشيطة، منطلقة ومفعمة بالحياة، رغم عينها المعطوبة، وكانت فضولية محبّة للحركة، لدرجة أنها اختفت من بيتنا بعد نحو شهرين، وحزنتُ أنا وأولادي على ذلك جدا، وراودنا الخوف أن يكون قد أصابها مكروه. لكن أبي طمأننا بقوله إنها كانت دائما تتواجد خلف البيت ولا بد أنها وجدت لها مكانا آخر.
وبعد ظهر أحد الأيام، بعد نحو شهرين من اختفائها، ذهبتُ أنا وابنتي إلى طريق الخان في القرية، وهو طريق معبّد يؤدي عبر الحقول إلى الخان القديم المهدّم الذي في الطرف الغربي من القرية، نمارس عليه رياضة المشي، ولم نكن قد مشينا كثيرا، حين لمحنا فجأة قطة تخرج إلينا من أحد الحقول.
في البدء ظننتُ أنها قطة تشبه قطتنا سوشي، لكن بعد أن وصلنا إليها تأكدنا أنها هي سوشي بلحمها وشحمها، وبعينها المعطوبة التي لا تخفى علينا، وقد اقتربت منا وعرفتنا. فأخذناها معنا وعدنا بها إلى البيت.
بعد يومين، مرضت سوشي.
لم تعُد تأكل مع القطط الأخرى، وباتت تنام طوال الوقت وتطلب أن تدخل إلى البيت.
أدخلناها إلى البيت وخصّصنا لها مكانا مريحا للنوم في سلة بلاستيكية. أحسستُ أنها تحتضر فقد بدت ضعيفة جدا ولا تقوى على شيء، لكن ابنتي كانت تسقيها الماء وتقدم لها بعض اللبن، فكانت تقوم من حين إلى آخر، تتمشى وتأكل قليلا.
في صباح اليوم التالي، عندما استيقظتُ، ذهبتُ إليها سريعا لتفحّص حالها فقد توقّعتُ أن تكون قد فارقت الحياة. لكنني فوجئت بأنها ما تزال كما هي. كانت تموء وتبدو عليها المتعة حين كنتُ أمسح بيدي على رأسها، وتطلب شيئا ما لا أفهمه، فكنتُ أقدم لها الماء والأكل، فتأكل قليلا لكنها لم تعُد تشرب الماء. وكنتُ أخرجها إلى الحديقة وهي راقدة في سلتها الصغيرة، لعلها تؤدي حاجتها في الإخراج، فكانت تقف قليلا، تمشي ببطء ولا تفعل شيئا. فأعيدها إلى السلة وإلى مكانها المعتاد في البيت، فتنام.
وهكذا بقيت سوشي خمسة أيام على هذه الحال. حتى بدأتُ أصدّق أنها لن تموت. إنها لا تريد أن تموت. ستشفى وتتعافى.
كانت تنام كثيرا، تستيقظ وتخرج من سلتها، تمشي في البيت هنا وهناك، تموء، تطالب بأشياء لا نفهمها، تأكل قليلا لكن بشهية، ثم تعود، ترقد في مكانها وتنام.
كانت متشبّثة بالحياة. رغم ضعف جسدها وخوار قواها، كانت تجبر نفسها على القيام والمشي، ربما كانت تختبر نفسها، تختبر قدراتها، لا أدري، لكنها لم تتوقف عن محاولاتها للقيام والمشي والأكل إلى آخر لحظاتها.
في مساء ذلك اليوم، قامت من مكانها وأخذت تتمشى كثيرا في البيت، كأن حالها قد تحسّن، لكنها سرعان ما تعبت ورقدت وأخذت تموء كثيرا فلا يخرج لها صوت. أحسستُ أنه من الأفضل أن أدعها خارج البيت، في الحديقة فربما احتاجت إلى التراب. تركتها قرب البيت في المكان الذي اختارته بنفسها وذهبنا للنوم.
في صباح اليوم التالي، حين استيقظتُ، خرجتُ من البيت وبحثت عنها لكنني لم أجدها في مكانها.
أين ذهبت؟ وكيف ذهبت؟ إنها لم تكن تقوى على القيام ولا المشي، فكيف قامت واعتلت الدرجات المؤدية إلى الحديقة ومشت كل هذه المسافة كي تختفي؟
بحثنا عنها في كل مكان حول البيت، حتى وجدناها بين الأعشاب راقدة وقد فارقت روحها الحياة.
سوشي العزيزة!
كم أحبّت الحياة! كم كانت تتوق للحياة!
لن أنسى تشبّثها بالحياة إلى آخر لحظة من حياتها القصيرة.
حوا بطواش
(كفر كما 2.9.2020)
الأستاذة الكريمة حوا بطواش
في المجهود الكبير؟ لعل صاحب التعليق يطري ما تقولين يا سيدتي، ولا يستحق بالتالي الاستهانة (والبسمة) أو التنديد. وأما في القدر؟ مع صادق احترامي ومحبتي لأليسا؟ فإن عنوان الأغنية وربما مضمونها لا يوحي أنها تستحق أن تتعاملي معها أو “معي” في التنقيب عن القدر والبحث عن التعريف، كمن يتعاطى مع الشيرازي حافظ أو الحسن بن هانىء.. أو الخيام. أوغيرهم من المغنين والكتاب والشعراء المشاهير المبدعين.
وأما في حكاية سوشي القطة؟ فهناك ما يستحق الإعجاب والإطراء، على هذا الاشتباك المدهش في المشهد والمشاعر والتعبير. ولعلك لو توسعت فيها قليلا لاستحقت بجدارة أن تنال أولى الجوائز في مسابقات القصة القصيرة. ما يعوضك حقا عن أليسا وعن التعليق على المُشارك المسكين.. خالص المودة والتقدير.