درويش المتعدّد في واحد!
تاريخ النشر: 07/09/20 | 12:41بقلم: مرزوق الحلبي
تبدو لي الكتابة عن محمود درويش كقراءته مثل التحديق في ضباب صباحي. ففي أساس المحاولة هاجسان، الأول، التوفيق في التقاط ألق ما كتب ودلالاته، والثاني، أن تكتب بلغة مغايرة كلغته وإلا جئت بكلام جرائد لا طائل تحته. وتصير المهمة أصعب إذا ما قصدت في الأصل أن تؤشّر على مواضع الحركة في هذا الشعر وعلى ما وراء الإيحاء وما بين هذا وذاك من حكمة مُعلنة ومُضمرة، ومن إشراقات تفكيكية قليلة إلى نادرة في ثقافتنا.
ولعلّ أبرز ما في تجربة درويش الشعرية هي تلك الحساسية الفائقة في التقاط التحولات والوقائع وقراءة دلالاتها المتعددة. بل إن نصوصه الشعرية أو النثرية التي تعاطت مع الوقائع في التجربة الفلسطينية أو العربية أو الكونية تتمتع بحدس معرفي نادر وبحيوية في استخلاص العبر وبحكمة فلسفية مشرقة لا سيّما في الشوط ألأخير من تجربته عندما انتقل من منبر الشاعر إلى صومعة الحكيم المتصوّف. ومن هنا اقتران الشعر عند درويش ليس بأدواته المعهودة، اللغة الشعرية أو الصورة المخطوفة أو الغنائية أو الموسيقى أو القافية أو المجاز أو الاستعارة أو التشبيه أو إلى ما في جعبة المفهوم المتداول للشعر وللشاعر، بل تجاوزها كلها مجتمعة نحو الإشراق الذي في الحكمة المرتجاة والإدراك الحسيّ والمجرّد للحالة المنصوص عليها. فإذ بالشاعر الذي انطلق من الحالة الخام للغضب والأسى والحب والخسارة والفقدان واللجوء إلى الحالة الخالصة، أو إلى “حقيقة” الحالة و”خلاصتها”.
لم تظلّ هذه الحركة باتجاه واحد بل رأيناها تحصل عكسيًا، من المتخيّل إلى الملموس ومن الاسم التقريبي إلى المسمى ومن الأسطورة إلى ضدها! وفي رأينا أن هذه الحركة من المعاني الظاهرة إلى تلك المستترة أو من الواضح إلى التأويل، وبالعكس، من المتخيل إلى الحقيقي، ولّد توترا بينه وبين العاجزين عن متابعة الحركة وإدراك سرّها أو لدى الرافضين للحركة عموما وليس عند درويش فحسب بل في العموم، أيضا. ومن هنا لغط هذا البعض بشأن نصوصه الإبداعية الأخيرة أو تلك الجمل التي نقرأها أو نسمعها من محبي درويش وقرائه أنهم لا يتمكنون من نصوصه الأخيرة كما تيسّر لهم مع تلك السابقة. ونحن إذ نستعمل “الأخيرة” و”السابقة” لا نقيم فاصلا بين زمنين بل نعيد قول ما نسمعه.
أما نحن فعلى اعتقاد بأن إبداعات درويش سيرورة متحركة يُغرى واحدنا في توزيعها وفق فصول المسألة الفلسطينية العربية وإن كنا نصرّ على توزيعها وفق مناخات وجودية للشاعر محكومة لأزمنة وأمكنة وأحداث، وأكثر لمعرفة وحكمة ونهج تفكيكي على نهج كبار مثقفي لعالم.
لم نقرأ “في حضرة الغياب” مثلا إلا كقراءة متجددة مستأنفة من درويش لسيرته الذاتية والشعرية. بل اعتبرناه نصًّا نقديًا تفكيكيًا من الدرجة الأولى لنصوصه هو وإبداعاته. محاولة منه للقول “أنني الآن وعلى بُعد زمن مما كتبت أسمح لنفسي أن أتجاوز معانيّ أو مصطلحاتي أو تعريفاتي للوجود وما فيه! وكنت سمحت لنفسي في “كزهر اللوز أو أبعد” أن أناقش من جديد فكرة اللغةَ/الهوية والمكان/الوطن والمنفى والتشرد/اللجوء والموت والحياة والحبّ والآخر والأسطورة والأمنية.”
لم يترك درويش في نصوصه الأخيرة “حيْطًا عامرا” فيما أنشأه من قبل. وهو طليعي في بناء الثوابت السياسية شعرا والأدبية نصًّا ولغة فريدة. بالحيوية ذاتها التي رأيناه يُشيد بها لجيلين بعده مفاهيم المقاومة والصمود والمنفى والوطن، مثلا، ألفيناه يُعمل معاول لغته الفريدة في تقويض ما شاده وبناه متجاوزا ذاته عدة مرات في المعنى الواحد إلى معاني متعددة. في تيمة الهويّة مثلا أو الوطن. أمّا المفارقة فهي إنه بنصوصه السابقة قدّم لنا فردوسنا المفقود وأعلى بنيان الذاكرة والعنفوان المأمول حتى بات هو هو الأسطورة. وقد أضاف عليها الآخرون من خيالهم الشرقي وراكَم فوقها المأزومون من كل لون وجنس حتى ناء الرجل تحت ما حمّلناه على كتفيه من حمولات الجماعة في وطنها وشتاتها وتيهها. ولمّا أتى إلينا شاكيا ثقل الأسطورة التي ربطناه إليها وضيق المكان الذي حاصرناه فيه أعلنا عليه غضبنا الذي صار لدى البعض نزقا مستنكرا ونفورا بدائيا وعداءً غير مبرّر. ألمْ نحاصره في فلسطينيته حتى الاختناق؟ ألم نحاصره في زاوية منها حتى كدنا نفقده؟ علّمنا فنون التذكّر الذكي للأمكنة والعواطف والتفاصيل أو فنون الملاحم والأساطير فإذ بنا نرميه بها ونحاسبه، نحاصره بها ونحاكمه وفق أنظمة متخيّلة لمملكة متخيّلة! درّبنا على التخيّل فخذلناه عندما أراد العودة بنا إلى الحقيقة. أو درّبنا على تخيّل الحقيقة فأغوتنا ألا نعود إلى الواقع!
يخيّل لي أننا تماثلنا مع نصوص درويش طالما أنها رواية الدفاع عن الذات الجمعية في وجه الآخر والآخرين. وحفظناها عن ظهر قلب وردّدناها وأخلصنا لها حتى عندما طالت بأسئلتها ونقضها تقاعس العرب أو تخاذلهم أو تواطؤهم. أما عندما انبرى درويش يسأل الأسئلة الصعبة للذات، يحاورها فيما فعلت أو لم تفعل، فيما أنجزت وفيما أخفقت، حصل الشرخ بين الجمهور وبينه على افتراض حتمية النسق القائل إن الضحية مُحقّة مهما يبدر منها! أو قلنا إنه ما دام الاحتلال قائما فلا أسئلة فاضحة تُطرح على الملأ. أو لأن العدوّ بالمرصاد فإنه من غير المعقول وطنيًّا أن نفتح السؤال على أنفسنا! لكن ما العمل ما دام درويش مياها جارية لا راكدة تتجاوز المكان في حركة واعية أنه ليس في الكون ولا في السياسة ولا في الشعر سكون؟
المتتّبع لتجربة درويش تتبعا استكشافيا لا جامدا سيجد أنه أفلح دائما في نقد الحالة التي يصلها في الحياة وفي الشعر، أيضا، في السياسة وفي الفكر وفي الثقافة. وهي صفة ملازمة للمثقّف المتحرر حقا حتى من أنساقه هو، ومن لغته هو. فهو يُفلت دائما من قبضة النسق الثقافي المناوب ومن عناق الجماعة المندلقة عليه كما على مقدّس ومن تجيير “الحركة” و”الفصيل” و”الحزب” و”التيار”. ما أن يعتقد أحدهم أنه يستطيع استثمار الألق والحكمة الدرويشية والصوت والصدى والحضور والغياب حتى يفاجئه درويش بنص جديد يكشف هشاشة مراهنته وبؤس اعتقاده. ويتضّح أننا قد نستطيع أن نقبض في لحظة من زمن على فلسفة في النص أو قول فصل فيه أو لغة نبوءة لكننا سرعان ما نكتشف وبالدهشة ذاتها أن درويش فاتنا إلى فكرة أخرى وموقع جديد في اللغة لم نصله من قبل. شعره ونصوصه هي فتوحات متتالية لا تكف عن التوالد دلالات ومعاني، تتفكك وتنبني وتتسع وتضيق على نحو لم نألف وتيرته ولا إيقاعه ولا موسيقاه لأننا غارقون، كما يبدو، في أنساقنا ومنها ما شارك درويش في رسمه أو إرساء مراسيه. إلا أن درويش، على مذهبه، مخلص لحركته وجريانه أكثر من إخلاصه لأنساق تتقادم في اللحظة التي يكون بإمكانه فيها أن يبنى نسقا جديدا. سائر لا يلوي على شيء إلى مقاربة “الحقيقة”. وبدل أن نجدّ ونستجمع أرجلنا لنلحق بالركب، نترنّح في ظلّ أقرب نصّ نلهث أو نلعن الزمن بنعوت شتى لأنه سمح لدرويش أن يهرب من بين أيدينا. وكنا اعتقدنا أننا قبضنا عليه إلى الأبد. أو إذا لم يسعفنا ذلك انبرينا نجزر درويش عن اقتحاماته الجديدة شعرا وفكرا وثقافة ونصوصا.
عندما تتطابق صوتنا مع صوت المغني/الشاعر ومع عُرب صوته وألحانه وأشجانه، سرنا وراءه معصوبي الأعين نرقص إذا همّ يقول. وعندما كان يأخذنا على قدّ مشاعرنا ويربت على أكتافنا، ويحكي حياتنا شعرا، صيّرناه رمزا. وعندما كان الراوي والرواية والمذكّر والذاكرة، زوّرنا طبعات كاملة من كتبه كي نلبي الطلب. عندما كان اللسان الأمضى في حماية الحقّ والقلم الأوضح في الذود عن التاريخ والهوية والوطن، أحببناه حتى الثمالة. عندما كان سؤالا أخلاقيا إنسانيا مجلجلا في ساحات الآخر وفي منابر العالم ردّدنا وراءه سؤال الضحية. أما عندما اختار، إضافة إلى كل ما فعله، أن يكون مؤشرا للعقل لا مرتعا للعاطفة، سؤالا حائرا لا جوابا فاصلا، شكا لا يقينا، أغمضنا أعيننا كي لا نر وأحدثنا ثقوبا في آذاننا كي لا نسمع. عندما أراد أن يتفرّغ لموته الوشيك كي يحيا ولقلبه الضعيف كي ينتشي اتهمناه بالذاتية والغموض والنرجسية. عندما طرح علينا نحن وعلى نفسه السؤال الأخلاقي والإنساني اتهمناه بخذلان القضية. عندما اختار أن يوسّع دائرة حركته من لغتنا نحن ومواقعنا نحن إلى ذرى اللغات الأخرى ومواقع الدنيا وجهاتها هرولنا إلى الضاربين بالمندل وبائعي الطلاسم أو أصدقاء لنا في أجهزة المباحث المنتشرين في المنافي. عندما قال لنا بكل عفوية وصدق أنه ينتمي لذاته، أيضا، وله أحلامه هو ورغباته هو وأحزانه هو وفرحه هو، رفضنا أن نسمع مصرين على أن يكوننا وحدنا وأن يغيب فينا تماما كأننا الله وهو الصوفي المتعبّد السائر حتما نحو التجلّي! عندما طفحت إنسانيته عن كيلنا نحن وجغرافيتنا الضيقة أصلا وأيديولوجياتنا المتقادمة المترهّلة وعقائدنا المطلقة اتهمناه أنه لم يعد منّا! عندما جثا الآخر عند أقدام نزعته الإنسانية وأخلاقيته يسألون ويستغيثون “كيف؟” انبرينا نرجمه أو نعدّ له خشبة الصليب!
لمحمود حركته الدائمة ولنا أنساقنا الجامدة. له حريته ولنا الحدود نحاول أن نضبطه في داخلها كما يُحاول الآخر تماما أن يضبطنا في حدود المكان خارج الزمان. يرمي لغته الشعرية في كل ناحية وموضوعة وبغير قانون سوى الحركة الدائمة فنطلب منه أن يكتفي ببعض المجاز وقليل من الاستعارات والأهم ألا يرحل بعيدا عن مداركنا وحدود ما ألفناه واقتعدناه من مرابض. مثلما أفلح في السابق، وبلياقة وجدارة، في تثبيتنا نجمة عصية في صدر الشرق وفي ذهنية العالم فإنه في نصوصه الأخيرة، من حيث شاء أو لم يشأ، ثبّت في اللغة وبالحكمة ذاتها المكثّفة بالوقت والتجربة والألم مرايا تكشف لنا حقيقتنا المؤسية “أننا لسنا استثناء” وأننا سبب في التيه وليس فقط الضحية المثلى فيه ولا الضحية بامتياز لحصار أو جدار. لقد استطاع درويش الذي يعتبره أصدقائي الأجانب فيلسوفا ومثقفا تفكيكيا مرموقا تعلّموا من شعره المترجم أكثر مما تعلّموا من سواه، أن يتجاوز منفاه وغيابه وحصاره وموته وضحويته وذاته وشعره، وأن يتجاوزنا نحن، أيضا، نحو صفاء إنساني وحكمة ولغة مشرقة أضاءت لنا عوالم جديدة ووسّعت لنا مكانا جديدا. أما نحن، أو على الأدقّ البعض فينا، فبقي أسير ثنائية الخير والشرّ، يُبرْعٍط في وحل مترادفاتها ويسْتَنقِع. هو التوتر الأزلي بين أفعال القلوب وأفعال العقول. وهو درس في اللغة وصورة لنا في نصوص درويش!
(دالية الكرمل)