العظماء (14) المناضلة الجميلة بوحيرد
تاريخ النشر: 07/09/20 | 12:49بقلم: علي هيبي
مقدّمة قد يكون لها داعٍ:
لا يهمّني إذا كان يُطلق عليه الأدب النِسَويّ (النِسْويّ) أو الأدب النسائيّ، ولا يهمّني الآن ما هو الصحيح لغويًّا إذا كانت السين مفتوحة أو ساكنة، كما لا يهمّني أيضًا في هذا المقام إذا كان لهذا الأدب ومصطلحه شرعيّة أم لا يملكها أم لا يحتاجها؟ ولا يهمّني تنطّح الرجال أم لم يتنطّحوا للوقوف على حقّهم في تسمية أدبهم بالرجاليّ، كلّ ذلك لا يهمّني الآن، وقد أكون على شكّ أو على يقين أو “بين بين”، كما قال العميد “طه حسين”، ولكنّ الأمر الذي يهمّني وأنا على يقين كامل منه، أنّه لم يكن في الماضي ولا يوجد الآن ولن يكون في المستقبل نضال نسائيّ وآخر رجاليّ! هذا تقوم به النساء على حدة وذاك يقوم به الرجال على حدة. النضال كأسلوب حياة وكنهج سلوكيّ عظيم، من أجل قضايا وأهداف سامية هو واجب مجتمع!
حتّى قضيّة النضال من أجل حقوق المرأة في أيّ مجتمع، هي ليست قضيّة نضال للنساء، بل هي قضيّة نضال لمجتمع كامل برجاله وبنسائه، “يد واحدة لا تصفّق” كما في أمثالنا العربيّة نقول، وكما تساءل الشاعر العراقيّ “جميل صدقي الزهاوي” مُنكرًا: “وهل الطائر إلّا بجناحيْه يطير”؟ وقال أيضًا:
“كيفَ يسمو إلى الحضارةِ شعبٌ – منْهُ نصفٌ عنْ نصفِهِ مستورُ
ليسَ يأتي شعبٌ جلائلَ ما لمْ – تتقدّمْ إناثُهُ والذكورُ”
ومثل ذلك، قضيّة الدفاع عن الأماكن المسيحيّة والإسلاميّة المقدّسة، هي ليست قضيّة نضال تخصّ كلٌّ من أتباع الديانتيْن على حدة، بل هي قضيّة المجتمع العربيّ الفلسطينيّ كلّه في هذه الفترة الإسرائيليّة التي فيها تهدم المعابد العربيّة مساجد وكنائس، كما تُهدم البيوت في القرى والمدن، والمخازن وَ “البراكيّات” في الحقول، وقضيّة النضال ضدّ الهدم واجب المجتمع العربيّ كلّه والإنسانيّ عامّة. وكما يحتاج الطائر إلى منطلق أساسيّ هو الأرض لينطلق منه إلى السماء فيحلّق في أجواء الحرّية، النضال الإنسانيّ والقوميّ والوطنيّ والسياسيّ والاجتماعيّ كذلك يحتاج إلى منطلق أساسيّ ينطلق منه هو المشاركة الجماعيّة على تعدّد الشرائح الاجتماعيّة، وعلى رأسها النساء والرجال والمجموعات الأخرى كي يحقّق ذلك المجتمع إنجازات عظيمة ويطير إلى أجواء التحرّر ويحلّق في سماء الكرامة الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة.
سأبقى في أفريقيا:
كنت في أفريقيا، في الجنوب الأفريقيّ في رحلة مع العظيم “نيلسون مانديلا” وعالم السجن المقيت، الذي من أجل كرامته الذاتيّة والوطنيّة صادق “مانديلا” جدران زنازينه لثلاثة عقود من الزمان، وقصّة كفاح طويل، شاقّ، مرير ومثير، آتى ثماره بعد كفاح مسالم ومسلّح، من خارج السجن ومن داخل السجن، بالكلمة والخطاب والرصاصة والبندقيّة، “إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملا” وَ “لا يذهب حقّ وراءه مطالب” مناضل عنيد كالعظيم “مانديلا”، من ثائر سجين مرفوع الرأس إلى رئيس طليق مرفوع الرأس، من محكوم مظلوم أسود إلى أسود حاكم عادل، من عنصريّة وصراع وموت إلى عدالة وسلام وحياة، من عبوديّة وذلّ وهوان إلى حرّية وسيادة وكرامة.
من جنوب أفريقيا وعرس حرّيتها الدامي وانتصار ثورتها إلى شمال أفريقيا، إلى الجزائر العربيّة، وعرس حرّيتها الدامي أيضًا، إلى كرامتها الوطنيّة المتجسّدة في العظيمة “الجميلة بوحيرد”، ليس للعظمة جنس أو لون أو عرق أو طائفة أو مذهب أو قوميّة، ولا زمان ولا مكان لها، العظمة هي العظمة! تمتدّ حتّى تملأ الزمان كلّه والمكان كلّه، ولا شيء يحقّقها – كما قال العظيم “جيفارا” – إلّا النفس التي تأبى الظلم والعبوديّة وتعشق العدالة والحرّية وتمتشق الصعاب وتمضي في الطريق بالوسائل المتاحة والأمل المعقود والهدف المنشود، والمثالان العظيمان: السجين “نيلسون مانديلا” وخمسة وتسعون عامًا من النضال ضدّ العنصريّة البيضاء، والسجينة “الجميلة بوحيرد” وخمسة وثمانون عامّا من النضال ضدّ الاستعمار الفرنسيّ الأسود. هل أطال السجن من عمريهما! كنت قد تحدّثت عن عظماء سابقين ورأيت أنّ عظمتهم النضاليّة قد تكون دافعًا لقصر أعمارهم وموتهم المبكّر في عزّ الشباب، وكان لنا أمثلة مع المسيح وجيفارا وجان دارك وجمال عبد الناصر، ولكنّ “نيلسون مانديلا” وَ “الجميلة بوحيرد” قلبا طاولة المعادلة عليّ فبلغا من الكبر عتيّا، وإنّي سعيد بهذا القلب من القلب، ولعلّ للسجن دورًا!
من استعمار إلى استعمار:
سنة 1830 حطّ كابوس الاستعمار الفرنسيّ على الجزائر الحالم بفجر العروبة الجميل، بشروق الحرّية والاستقلال، ويطول الغروب فمن خضوع للدولة العثمانيّة التي بدأ المرض والتاريخ يفتكان بها، وحسنًا فعل المرض والتاريخ! فصارت بعد وقت “الرجل المريض” وصارت كما وصفت تاريخيَّا كالناقة التي دُقّت عنقها فكثر ذابحوها، ممّن هم أسفل منها إنسانيّة وأشد أطماعًا، من القوى الاستعماريّة: فرنسا وبريطانيا اللتيْن تنافستا على “التركة”، فأسرعت فرنسا وأنزلت قوّاتها، حوالي 37 ألف جنديّ في ميناء طولون الجزائريّ سنة 1830. بعد أكثر من قرن من الزمان ستلد طفلة جزائريّة عربيّة متميّزة اسمها “الجميلة بوحيرد” سنة 1935، طال الغروب الاستعماريّ الفرنسيّ في الجزائر على مدى 132 سنة، سيكون في أواخرها لتلك الطفلة شأن كبير ودور عظيم في تقصير عمر ذلك الليل، كأبرز المناضلين ومن أوائل الفتيات الجزائريّات اللاتي شاركن بشكل مباشر وعسكريّ بالثورة والقتال الميدانيّ ضدّ العدوّ اللئيم، اقترفت فيها فرنسا كأسوأ أنواع الاستعمار كلّ ما يمكن أن يقترفه مجرم سفّاح بحقّ الإنسان والأوطان والشعوب، وظلّ الليل الفرنسيّ بثقل أدناسه وهمومه جاثمًا على الثرى الطاهر حتّى انبلج فجر الحرّية العربيّ على الأرض الجزائريّة سنة 1962، والثائرة “الجميلة بوحيرد” حينئذٍ ما زالت تقبع في سجنها وهي تحسّ بالحرّية التي أفعمت كفاحها الثوريّ والبطوليّ. ولكن الوطن حصّل الحرّية والاستقلال وصار “ملوكنا من أمّتنا”، كما آمنت وقالت العظيمة “جان دارك” الثائرة الفرنسيّة ضدّ المستعمر الإنجليزيّ منذ ستّة قرون.
لم يبدأ كفاح الشعب الجزائريّ ضدّ الفرنسيّين من “جبهة التحرير الجزائريّة” سنة 1954 أو قبل ذلك بقليل، ومن قادتها ومناضليها البارزين: “أحمد بن بلّا” وَ “الهواري بومدين” وَ “محمّد بو ضياف” وَ “الجميلة بوحيرد”، وَ “عبد العزيز بوتفليقة”، بل كانت هذه الجبهة نتاج مرحلة كفاحيّة سبقتها بحوالي قرن من الزمان، فموقف الشعب الجزائريّ هو رفض الاستعمار جملة وتفصيلًا، منذ حطّ الفرنسيّون رحال جنودهم واستعمارهم في الجزائر، خاصّة وأنّ الفرنسيّين لم يَدَعوا أيّ ممارسات احتلاليّة قمعيّة لم يقترفوها حدّ المجازر، سنّ قوانين مجحفة وظالمة بحقّ الجزائريّين مثل “قانون الأهالي” حيث يسجّل السكّان وفقًا للنمط الفرنسيّ، وتدمير المؤسّسات الأهليّة وإغلاق المدارس وتهجير العلماء وانقطاع الطلّاب عن الدراسة واتّباع سياسة التجهيل لكي يسهل انقياد السكّان على المستعمرين، وبداية تقبّلهم لأسس “الحضارة” الغربيّة وأنماط حياتها، وليخلقوا حالة اغتراب بين الجزائريّ وثقافته وانتمائه ولغته العربيّة وبيئته الإسلاميّة، فيما سمّي بسياسة “الفرنسة” بمعنى جعل الجزائر جزءًا من الرقعة والتاريخ واللغة الفرنسيّة، وإلغاء اللغة العربيّة بالكامل لأنّها أكثر الوشائج باعثًا على الانتماء القوميّ العربيّ والماديّ والوجدانيّ والمعنويّ والروحانيّ، والذي يربط بين الإنسان وثقافته وحضارته وتاريخه ودينه، وبالاختصار إلغاء عروبتها! واللي بكبّر هوايته بصيبش”. أرادوا الفرنسيّون كلّ شيء فخسروا كلّ شيء! فليتعلّم أوباش العدوان والاحتلال والرأسماليّة! فليتعلّم أعداء الإنسان! من الصهيونيّة الإسرائيليّة التي تريد الوطن الفلسطينيّ كلّه! والرأسماليّة الأميركيّة التي تريد الهيمنة على العالم كلّه!
ولكنّ الروح الجزائريّة رفضت الظلم وأبت العسف الفرنسيّ منذ زمان، كما يرفضه الشعب الفلسطينيّ الآن! وكما ترفضه شعوب العالم الفقيرة والمظلومة الآن! فأشعلت الأرض الجزائريّة تحت الأقدام الاستعماريّة منذ سنة 1850، فثورة في الشرق الجزائري بقيادة “أحمد باي بن محمّد الشريف” (1786 – 1850) وأخرى في الغرب الجزائريّ بقيادة “عبد القادر الجزائريّ” (1808 – 1883) وفي منطقة القبائل وقفت “لالة فاطمة نسومر” (1830 – 1863) اسمها الحقيقيّ “فاطمة سيّد أحمد” (ولالة تعني السيّدة للتوقير في اللغة الأمازيغيّة)، شاركت في الكفاح وظلّت تقاتل حتّى سُجنت وماتت في سجنها، لقد قادت معارك مع المجاهد “الحاجّ عمر بن زعموم” أشهرها معركة “تادميت” في منطقة القبائل، وقد هزموا القوّات الفرنسيّة بقيادة الجنرال “بيجو” والجنرال “رولدون”، وكان في السيّدة “لالة فاطمة” من صفات “جان دارك” الروحانيّة، ظلّ هذا الكفاح العسكريّ متتابعًا من ثورة إلى ثورة حتّى قامت جبهة التحرير الجزائريّة وقادت الكفاح والثورة حتّى الانتصار وطرد الفرنسيّين المدنّسين من على الثرى الجزائريّ الطاهر والمقدّس سنة 1962.
مجازر ماي 1945:
لا يكفي أن تدفع فرنسا اليوم كلّ الحقوق والتعويضات المادّية والمعنويّة للشعب العربيّ في الجزائر، ولا يكفيها أن تعيد للجزائر كلّ ما نهبته على مدى وجودها الاستعماريّ لِ 132 سنة، ولا تكفي أموالها كلّها لقاء ما أزهقته من أرواح وروح وسلبته من حرّية وكرامة، بل على فرنسا تكفيرًا لمجازر “ماي 1945” فقط أن تخجل قوميًّا إلى الأبد! خاصّة وأنّها بلاد وقعت فريسة للعدوان والاحتلال مرّتيْن: واحدة قبل الجزائر، زمن “جان دارك” ومقاومة الاحتلال الإنجليزيّ، والثانية بعد الجزائر، زمن المقاومة الفرنسيّة الباسلة للاحتلال النازيّ، ومن العار على فرنسا دولة وشعبًا أن تفعل ذلك في المرّتيْن، وهي بلاد العظيمة المناضلة “جان دارك” وبلد الشاعر “أراغون” والشاعر “إيلوار” والمقاومة الفرنسيّة للنازيّة. انتهت الحرب العالميّة الثانية وكانت فرنسا طرفًا مباشرًا فيها وهدفًا نازيًّا، قاتل الجنود الجزائريّون بشجاعة معها وفي الصفوف الأماميّة، وهناك من يرى أنّ فرنسا استخدمت هؤلاء الجنود كدروع بشريّة في المقدّمة، وعدت فرنسا الجزائر بالاستقلال بعد الحرب، وكان وعدها للجزائر عرقوبيًّا كما كان وعد بريطانيا للهند!
هذه المجازر لم تكن وليدة اللحظة بل هي تعبير عن حقد فرنسيّ على المقاومة الجزائريّة والمظاهرات والاحتجاجات السلميّة في الغالب، والتي بدأت يوم 8/5/1945 بقمع المظاهرات شملت كلّ أرجاء الوطن، رافقتها عمليّات قتل، لأنّ للمظاهرات مطالب محدّدة وواضحة على ضوء الوعد الفرنسيّ الكاذب بالاستقلال، وقف على رأس أبرز المطالب الاستقلال واعتبار اللغة العربيّة لغة رسميّة وقيام جبهة نضاليّة موحّدة والمطالبة بإطلاق سراح المناضل المعتقل “مصالي الحاجّ”، والذي كان يلقّب بأبي الأمّة (1898 – 1974)، الردّ الفرنسيّ الغدر والتنكيل والهجوم على المظاهرات، كان أوّل الشهداء شابّ في ال26 من عمره اسمه “بوزيد سعّال” (1919 – 1945) وقد رفض أمر القائد الفرنسيّ برمي العلم الوطنيّ فأرداه قتيلًا، وامتدّ الحقد الإمبرياليّ بالقوّات البريّة والجويّة والبحريّة وعلى مدى ثلاثة أيّام، القتلى ما بين 50 – 70 ألف، قرى وبلدات أبيدت ومسحت عن بكرة أبيها، والهدف الأعلى هو القضاء على الشخصيّة الوطنيّة والعربيّة للجزائر، واتّباع سياسة التفقير والتهجير من الأراضي ومنحها وغيرها من امتيازات للفرنسيّين، ولكنّ الأوان قد فات وَ “سبق السيف العذل”، فكما امتدّت جرائم الحقد الفرنسيّ، بأكثر منها امتدّت أشعّة الثورة لتغمر بأنوارها المشرقة الوطن الجزائريّ: ترابًا ومياهًا وأجواء وإنسانًا ولغة عربيّة.
لن أكتب المزيد عن هذه المجازر إلّا كونها تراكمًا جديدًا يضاف إلى تراكمات على طريق الثورة وإرهاصاتها حتّى الاستقلال الكامل، وسأنقل ما يشهد على وحشيّة هذا الاستعمار وحيوانيّته، (لا أريد أن استخدم كلمة إنسانيّته حتّى بعد “لا” بسبب هذا التوحّش الغربيّ) وهي شهادات من أفواه الضبّاط والجنود الفرنسيّين أنفسهم. العقيد “مونتانياك” يقول: “أخبرني بعض الجنود أنّ ضبّاطهم يلحّون عليهم بأن لا يتركوا أحدًا حيًّا من العرب! كانوا يخافون إذا أحضروا عربيًّا حيًّا من الجلد على يدي قادتهم”، وفي شهادة أخرى يقول العقيد نفسه: “لقد محا الجنرال “لاموريسيير” من الوجود في جولة عسكريّة واحدة 25 قرية”. “طوكوفيل” النائب في البرلمان الفرنسيّ: “إنّنا نقوم بحرب بربريّة، لم يستطع الفرنسيّون هزم العرب بالحرب، فهزموهم بالتدمير والجوع”، وهذا غيض من فيض الوحشيّة الفرنسيّة والعقليّة الكولونياليّة الاستعماريّة. إنّ وحشيّة أيّ احتلال استعماريّ كولونياليّ ليست بحاجة إلى دلائل، لأنّ سلوك الاحتلال يستند بالأساس على استعلاء للذات واستدناء للآخر، يعقبه بالضرورة والمنطق حبّ الهيمنة والسيطرة على مقدّرات الآخر، ولمّا كان الاحتلال كفعل يخلق مقاومته كردّ فعل، فلا بدّ من أن تكون ممارساته الاحتلاليّة لقمع المقاومة وإحكام سيطرته التنكيل والقتل إلى حدّ ارتكاب الجرائم والمجازر، وهذا ما فعلته فرنسا على مدى 132 سنة وعلى مدى مليون ونصف مليون الشهيد.
فرنسا أمّنا/ الجزائر أمّنا:
تحت صخب مطالب “الفرنسة” غير الطبيعيّة وغير المنطقيّة والتي لا يمكن للوجدان الجزائريّ أن ينسجم معها، ولإرغام الجزائريّين العرب بالرضوخ لها والسلوك بموجب قوانينها الجائرة، بهدف سلخ الإنسان الجزائريّ عن عروبته، كان من الواجب في المدارس أن تنطلق من حناجر الطلبة الجزائريّين وبصوت جماعيّ عالٍ في طوابير الصباح: “فرنسا أمّنا”! نداء من بعيد، من حنجرة طالبة صغيرة ينطلق شعار مختلف، جميل ومميّز يأتي متناغمًا مع الطبيعة والمنطق والضمير والانتماء الجزائريّ والعروبيّ، يأتي عذبًا منسجمًا مع روح الصباح وصدق الوجدان وعمق الضمير الحيّ والطفولة الطاهرة، يهتف وحيدًا وبقوّة أعلى إنسانيًّا ووطنيًّا من الهتاف الجماعيّ الممجوج: “الجزائر أمّنا”! إنّه صوت الطفلة البريئة “الجميلة بوحيرد”. فمن أين لهذه الجميلة الصغيرة هذا التميّز الوطنيّ!
ولدت “الجميلة” في تمّوز سنة 1935، في حيّ القصبة الشعبيّ، في العاصمة الجزائريّة، لأب جزائريّ مثقّف وأمّ تونسيّة، بنت وحيدة بين سبعة أولاد، من أمّها التونسيّة تعلّمت حبّ الوطن، وعلّمتها وربّتها على أنّها جزائريّة وليس فرنسيّة، تعلّمت على هواها وميولها تصميم الأزياء والرقص الكلاسيكيّ وركوب الخيل، كانت حياتها حياة انطلاق وحرّية، عندما نادت ذلك النداء المشاكس “الجزائر أمّنا”، أخرجها مدير المدرسة الفرنسيّ من الطابور وعاقبها عقابًا شديدًا، من هذه اللحظة نمت في وجدانها الميول الوطنيّة وحبّ الالتحاق بالنضال ضدّ المستعمر الفرنسيّ القبيح.
المقاتلة الجميلة:
كان عمرها عشرين عامًا عندما التحقت بالثورة وبِ “جبهة التحرير الجزائريّة” رائدة الكفاح المسلّح ضدّ الاستعمار الفرنسيّ منذ سنة 1954، التحقت بصفوف الفدائيّين وكانت من أوائل المتطوّعات، كان الرسول (ص) يقول: “اللهمّ أعزّ الإسلام بأحد العمريْن”، أمّا الثورة الجزائريّة فقد أعزّها الله بثلاث “الجميلات” المناضلات: “الجميلة بوحيرد” (1935 – 2019) وَ “الجميلة بوعزّة” (1937 – 2015) وَ “الجميلة بوباشا” (1938 – لم يذكر أيّ من المصادر شيئًا عن موتها، وقد تكون حيّة تُرزق، أمدّ الله في عمرها البهيّ)، كان دور “الجميلة بوحيرد” في البداية أن تكون حلقة الوصل بين القيادة الثوريّة في الجبل، ومندوب القيادة في المدينة، المناضل “ياسيف السعديّ” (1928 – لم يذكر أيّ من المصادر شيئًا عن موته، وقد يكون حيًّا يُرزق، أمدّ الله في عمرها البهيّ)، الذي أعلنت الصحف الفرنسيّة عن منحة مقدارها 100 ألف فرنك ثمنًا لرأسه، ومن ثمّ انتقلت للعمل في زرع القنابل والعبوّات الناسفة في طريق القوّات الفرنسيّة، مع المناضلات، زارعات الألغام والعبوّات “جميلة بوباشا” وَ “حسيبة بن بو عليّ” (1938 – 1957) فجّر الفرنسيّون البيت الذي لجأت إليه “حسيبة” بعد عمليّة فدائيّة مع أربعة من الثوّار واستشهدت وهي في سنّ التاسعة عشرة، وَ “سامية لخضاريّ”، عملن في زرع العبوّات لثلاث سنوات في مسيرة النضال الثوريّ المسلّح، حتّى صارت “الجميلة بوحيرد” المطاردة رقم 1، وَ “الجميلة بوعزّة” المطاردة رقم 2، وكانت هؤلاء النساء المناضلات من بين ستّ مناضلات جزائريّات حكم عليهنّ بالإعدام من القوّات الاستعماريّة، في سنة 1957 أصيبت أثناء أداء واجبها الوطنيّ والكفاحيّ برصاصة في الكتف، وظلّت في مكان إصابتها حتّى اعتقلت. حلقة جديدة من مسلسل المقاومة، رحلة من التعذيب دامت ستّ سنوات، بدأت من المستشفى، وهي تعالج كمصابة معتقلة، صعق كهربائيّ لمدّة ثلاثة أيّام متواصلة، وغياب عن الوعي، ويروى أنّها عندما كانت تعود إلى وعيها تصرخ كما كانت تصرخ في الطابور المدرسيّ الصباحيّ بعكس صراخ الطلّاب الآخرين “الجزائر أمّنا”! فيا لروعة المناضلين العظماء! ذكّرني هذا الصراخ بالعظيم الحرّ “بلال بن رباح” عندما كان يشتدّ عليه التعذيب القرشيّ فيصرخ: “أحد . . أحد”! العظمة هي العظمة في كلّ زمان، قديمًا كان أم حديثًا! “بلال” يصرخ بالحقّ فيغضب الباطل القرشيّ القديم وَ “الجميلة” تصرخ بالحقّ فتغضب الباطل الفرنسيّ.
وبعد ثلاث سنوات من الاعتقال تنقل إلى فرنسا لثلاث مثلها، كان المطلوب منها الاعتراف على زملائها في الكفاح والمصير، لكنّ التعذيب الشديد لم يثنِها عن صمتها الكفاحيّ، هكذا يحوّل المناضلون العظماء السجن من معاناة رهيبة إلى ساحة نضال. هل غيّر السجن في إرادة “مانديلا” وَ “كاسترو” أم زادهما قوّة وإصرارًا على النضال والانتصار! هل غيّر التعذيب “بلال” وّ “آل ياسر” أم زادهما صلابة وإيمانًا! لم تنبس ببنت شفة تشوّه مسارها النضاليّ النقيّ، وبمحاكمة صوريّة صدر الحكم بالإعدام!
إعدام وإصرار على الحياة:
أثناء محاكمتها التاريخيّة يوم 11 تمّوز سنة 1957 وبعد قراءة التهم ونصّ الشهادات، ردّت “الجميلة” بلا خوف أو تحسّب على القاضي بكلّ ثقة: “يا سادة إنّني أعلم أنّكم ستحكمون عليّ بالإعدام، لأنّ أولئك الذين تخدمونهم يتشوّقون لرؤية الدماء، ومع ذلك فأنا بريئة، ولقد استندتم في ذلك إلى أقوال فتاة مريضة – تقصد زميلتها “جميلة بوعزّة” من أوائل المناضلات في الجزائر (1937 – 2015) – ورفضتم عرضها على طبيب الأمراض العقليّة بمحضر تحقيق وضعه البوليس ورجال المظلّات، وأخفيتم أصله الحقيقيّ إلى اليوم، والحقيقة أنّني أحبّ بلدي وأريد له الحرّية، ولهذا أنا أؤيّد كفاح جبهة التحرير الوطنيّ”. وتابعت بقولها الشهير: “أعرفُ أنَّكُمْ سوف تحكمونَ عليَّ بالإعدامِ، ولكنَّكُمْ لنْ تمنعوا الجزائر منْ أنْ تصبحَ حرّةً مستقلّة”.
ظلّت “الجميلة” سجينة بعد محاكمة العار الفرنسيّ، ليس من العبث في شيء أن سمّى الفيلسوف الفرنسيّ “جان بول سارتر” أحد كتبه “عارنا في الجزائر”، وبعد صدور الحكم بالإعدام! والأنكى من ذلك والأكثر عارًا أنّ المحكمة حدّدت يوم 7/3/1958 موعدًا لتنفيذ الحكم، وتثور ثائرة الإنسانيّة ضدّ التنفيذ، “لجنة حقوق الإنسان” التابعة للهيئة العامّة للأمم المتّحدة، وبعد تلقّيها لملايين الرسائل وبرقيّات الاستنكار والاحتجاج، من كلّ أرجاء العالم تنادي بتأجيل التنفيذ، ويزيد الضغط الإنسانيّ والهبّات الشعبيّة والضغوط الدوليّة فيعدّل الحكم إلى السجن مدى الحياة، وتنتصر الجزائر ويندحر الاستعمار الفرنسيّ خاسئًا سنة 1962، ويفرج عن المناضلة “الجميلة بوحيرد” وسائر السجناء من رفاق الكفاح والسلاح في “جبهة التحرير الجزائريّة”، وتتزوّج سنة 1965 من محاميها الفرنسيّ “جاك فيرجيس” وهو محامي كلّ الثوّار الجزائريّين، ويقال أنّه اعتنق الإسلام وأطلق على نفسه اسم “منصور”، أنقل معلومة اعتناق المحامي “فيرجيس” الإسلام للمعرفة فقط وليس للتفاخر المنفوخ، ولو ظلّ على مسيحيّته لاحترمناه وشكرناه، لأنّه فعل ذلك بدافع أنسانيّ مجرّد إلّا من نصرة الحقّ والعدالة ومقاومة الظلم وتشويه العدالة حتّى لو كان الظالم دولته! أمّا قضيّة اعتناقه للإسلام فذلك شأنه ومطلق حرّيته في الاختيار. ولأنّ إنسانيّة الإنسان أبعد وأعمق وأشمل من كافّة التصنيفات العرقيّة والقوميّة والوطنيّة ومن باب الاعتراف بهذه الإنسانيّة، علينا أن نعترف باتّجاهيْن: اتّجاه رذيل حيث كان أثناء الثورة الجزائريّة، والثوّار في عزّ العطاء والتضحيات، ثمّة جزائريّون كانوا يخونون الجزائر، إنّها خيانة كبرى أقدم عليها بعض الأجراء والأذلّاء الذين باعوا كرامتهم ووطنهم وقدّموا الثمين الثمين بثمن بخس للعدوّ، وثمّة اتّجاه نبيل هو ذلك الموقف الإنسانيّ المشرّف لكثير من الفرنسيّين الذين وقفوا ضدّ عار بلادهم في الجزائر وناهضوا الاستعمار الفرنسيّ وتضامنوا مع الشعب الجزائريّ المظلوم، ومنهم من فعل ذلك باليد والفعل أو باللسان والقلم أو بالقلب والموقف، ولكلّ أجر لن يضيع عند الله والتاريخ.
مليون ونصف مليون شهيد:
عرفت ثورة الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسيّ بثورة “مليون الشهيد”، والحقيقة تقول بأنّ عدد الشهداء بلغ مليونًا ونصف مليون، على طول الفترة منذ أن دنّس الأرض الجزائريّة وهو يختال مرفوع الرأس حتّى خرج فطهرت “مثل ناعم الذيل”، منكّس الرأس! 132 سنة ومليون ونصف مليون ضحيّة بريئة أزهقت ثمنًا للمطامع الاستعماريّة الكولونياليّة، لا أقول ذلك للحساب! فكلّ طفل صغير يستطيع أن يعرف أنّ عدد القتلى في السنة الواحدة بلغ أكثر من 11 ألف شهيد، ما يعني أنّه في اليوم الواحد وعلى مدى 132 سنة قتلت القوّات الاستعماريّة الفرنسيّة 31 شهيدًا، يعني أنّ فرنسا ارتكبت وعلى مدى 132 سنة مجزرة في كلّ يوم! أقول هذا لإثبات المثبت، ولأدلّل على ما لا يحتاج إلى أدلّة، ولكن للتاريخ فقط! مرّة أخرى نرى بشاعة الاستعمار والاحتلال والعنصريّة وحبّ الاستيلاء على الآخرين: دولًا وشعوبًا وأفرادًا وثروات ومصائر أمم وأرواح بشر. أقول هذا لضرورة المطالبة بالعدالة والحقّ الذي لا يطاله تقادم ولا تُنسيه سنون، ومن أجل دفع الثمن التاريخيّ: مادّيًّا ومعنويًّا وروحيًّا. فهل تكفي خزائن مال الغرب الاستعماريّ كلّه ثمنًا لحياة مناضل شريف أو تساوي موت طفل برئ! فما بالك بماسحي القرى ومساواتها بالأرض! أو لليلة سجين مقيّد بالسلاسل والظلام والقهر! لن نغفر ولن ننسى يا فرنسا! لن نغفر ولن ننسى يا أميركا! لن نغفر ولن ننسى يا بريطانيا! ولن نغفر ولن ننسى يا إيطاليا ويا بلجيكا ويا هولندا ويا البرتغال ويا أسبانيا ويا ألمانيا! لن نغفر ولن ننسى أيّها الغرب المتوحّش! ولن نغفر ولن ننسى يا إسرائيل! أيّتها البنت المدلّلة والمتوحّشة لكلّ هؤلاء الآباء من الغرب المتوحّش! فما أنت إلّا صنيعة لوحشيّتهم الاستعماريّة! وإلى جانب هؤلاء الذين أجرموا على مدى تاريخهم، لا ننسى واجب الدعم العروبيّ معنويًّا وسياسيًّا والمادّيّ والإمداديّ الذي قدّمته مصر “الجمهوريّة العربيّة المتّحدة” وزعيمها العظيم “جمال عبد الناصر”، فأوّل 3 مليارات دولار من إيراد القناة بعد تأميمها قدّمت للكفاح الجزائريّ، وأوّل صفقة سلاح من أوروبا الشرقيّة إلى الجزائر موّلت من مصر، زيادة على تقديم الخبرة والتدريب العسكريّ، كلّ إمكانيّات مصر وضعت لخدمة ثورة الجزائر العربيّة واستقلالها. وغضب “دافيد بن غوريون” فهرع إلى فرنسا محاولًا تأليبها على النظام المصريّ الفتيّ والوطنيّ مدّعيًا أنّ “جمال عبد الناصر” يهدّد إسرائيل في النقب، كما يهدّد فرنسا في الجزائر، وخاضت فرنسا الحرب في العدوان الثلاثيّ، فصمدت مصر وَ “جمال عبد الناصر”، وخسرت فرنسا ومعها إسرائيل وبريطانيا. حتّى النشيد الوطنيّ الجزائريّ كان من تلحين الفنّان المصريّ “محمّد فوزي”.
هل كان الثمن باهظًا على الجزائريّين؟ طبعًا! إنّه لباهظ ومخيف حدّ المأساة السرمديّة، وهل كان من الضروريّ دفع هذا الثمن على ثقل مأساويّته؟ طبعًا! طبعًا! لأنّ الوطن أغلى من الأفراد، “المهمّ أن يبقى الوطن” كما قال العظيم “جيفارا”، كان على الجزائريّين شبابًا ومقاومين ورجالًا ونساء دفع هذا الثمن لأنّ قيمة الكرامة غالية وعالية، وقد أدركوا منذ أن وطئت القدم الفرنسيّة ومن أولى خطواتها أنّ هذه القدم جاءت لإذلالهم كأناس وكعرب وكجزائريّين، لقد قال العظيم “جمال عبد الناصر” في ظروف مشابهة، ضدّ القدم البريطانيّة: “إنّ ثمن الكرامة فادح حقًّا! ولكنّ ثمن الذلّ أفدح”! ورفض المصريّون والجزائريّون السير في طريق الذلّ واختاروا واثقين بخطواتهم طريق الكرامة والحرّية، ودفعوا الثمن العظيم ليكنسوا المحتلّين القتلة المجرمين وليحقّقوا استقلالهم العظيم! لم تذهب الأرواح هدرًا ولا التضحيات والعذابات هباء منثورًا، إنّما زرعت كلّها في حقول الوطن ليبقى يانعًا، مخضرًّا، خضلًا وجميلًا كجميلات الجزائر وجميلات الوطن العربيّ وجميلات أوطان الأحرار في كلّ مكان وزمان.
نحني هاماتنا إجلالًا وإكرامًا:
بعد الاستقلال تولّت “الجميلة بوحيرد” منصب رئيسة “اتّحاد المرأة الجزائريّة”، وأرادت فعلًا كامرأة متحرّرة ومناضلة أن تقدّم الكثير من البرامج التثقيفيّة والتعليميّة للمرأة الجزائريّة، ذات أبعاد تنويريّة وثوريّة تخفّف أعباء هذه المرأة التي عانت الكثير من البؤس والحرمان من حقّ الخروج والعمل والتعلّم، كانت برامجها تصطدم ببيروقراطيّة النظام والسلطة، لأنّها ناضلت من أجل تنفيذ كلّ قرار آمنت به فوقعت في خلافات مع الرئيس الأوّل بعد الاستقلال العربيّ “أحمد بن بلّا”، ولم تطق الفساد في مؤسّسات الدولة، فآثرت اعتزال المنصب بعد سنتيْن والانسحاب من الحياة السياسيّة، هذا هو الواقع الأليم الذي يتكوّن بعد تحوّل الثورة إلى دولة وسلطة، والمناضلين إلى رجال نظام حاكم، كانوا خدّامًا لقضيّة الوطن ومصلحة الشعب بطرد المحتلّ وبالاستقلال والحرّية، يفدون القضيّة بأنفسهم وبأرواحهم، ومن سدّة الحكم وأجهزة الدولة يتحوّلون إلى حكّام يبتعدون عن الناس والشعب، وقد يصل الأمر إلى حدّ التنكّر لمصالحهم الوطنيّة العامّة ومنعهم من حرّية التعبير والتنظيم، ويمكن أن يتحوّلوا إلى أجهزة قمع وأدوات للبطش.
نحني هاماتنا احترامًا وإجلالًا لتاريخ النضال الجزائريّ، لكلّ مناضل ضحّى بقطرة دم وأمّ بدمعة حزن، لكلّ ليلة سجين في ظلام قمعيّ، لكلّ الثوّار الجزائريّين عربًا وبربرًا، نساء ورجالًا، وبالذات نحني هاماتنا للشهداء، للنساء السجينات ومن بينهم زارعات الألغام والعبوّات الناسفة الستّ اللائي حُكم عليهنّ بالإعدام وأفرج السجّان عنهنّ خوفًا وجبنًا وامتثالًا قاهرًا تحت النداءات الشاملة القادمة من كلّ أرجاء الكون والإنسان، نحني هاماتنا للجميلات الثلاث رموزًا حيّة خالدة للثورة على الظلم ومن أجل العدالة والحرّية والكرامة، رموزًا لا تموت، ونحني هاماتنا إجلالًا لأيقونة الثورة الجزائريّة ورمز المقاومة “الجميلة بوحيرد” التي قدّمت سنّي عمرها وشبابها وكفاحها الثوريّ وظلّت يانعة كحبق فلسطين، وقد سبق صوتها المجلجل: “الجزائر أمّنا” صيتها إلى كلّ أرجاء العالم وحظيت بالتقدير عند أعدائها قبل أصدقائها، واستقبل الرؤساء العظماء كَ “جمال عبد الناصر” كي يؤكّد دعم مصر الماديّ والمعنويّ للثورة في الجزائر، وغير العظماء كَ “عبد الفتّاح السيسي”، الذي استمرّ كسالفيْه: “أنور السادات” وَ “حسني مبارك” في تقديم دور مصر العربيّ والنضاليّ على طبق من ذهب للعدّو وعلى طبق من عار وذلّ للأمّة العربيّة “من أجل حفنة دولارات”، ومن عادته استخدام زيارة الفنّانين والرياضيّين والشخصيّات الثوريّة في مصر لتلميع صورة نظامه الكالحة.
الرئيس التونسيّ الجديد “قيس سعيّد” كرّمها في تونس الخضراء بمنحها وسام الصنف الأوّل، أعلى وسام للجمهوريّة، ولقد كانت كلماته أثناء لقائها في قصر “قرطاج” الرئاسيّ أجمل واعظم تعبيرًا إذ قال: “أحمد الله أنّني عشت إلى هذه اللحظة التي أكرّم فيها امرأة صنعت التاريخ، أنت وسّمْتِ التاريخ بكفاحك ولكنّ الأوسمة ضروريّة ليس لأنّك تحتاجينها، بل كي يذكر التاريخ مَن وسّمه، امرأة أذهلت العالم بنضالها الطويل منذ معارك القصبة وحتّى الانتصار، إنّ كلّ أوسمة العالم لا تكفي موقفًا واحدًا أو معركة واحدة من نضالها، ليس من أجل الجزائر فقط بل من أجل الإنسانيّة كلّها”. والكثير من الدول والمنظّمات والمؤسّسات والهيئات، أشهرها زيارة إلى لبنان وتكريمها في تلفزيون “الميادين”، وفي مهرجان أفلام المقاومة في تونس، وفي مهرجان المجلس القوميّ للمرأة في أسوان، وفيه التقت مع “هدى جمال عبد الناصر”.
كتب كبار الشعراء في العالم العربيّ: “نزار قبّاني” وَ “بدر شاكر السيّاب” وَ “محمّد مهدي الجواهري” وَ “صلاح عبد الصبّور” وَ “أحمد عبد المعطي حجازي”، وشاعر من بلادنا كتب عنها قصيدة هو الشاعر “محمود دسوقي” من مدينة الطيّبة في ديوانه “مع الأحرار”. ويقال أنّه كتب عنها حوالي 70 قصيدة، تعتبر قصيدة نزار قبّاني من أشهرها، وقد قال فيها:
“ثائرةٌ منْ جبلِ الأطلسْ
يذكرُها الليلُ والنرجسْ
يذكرُها زهرُ الكبّادِ
ما أصغرَ جان داركَ فرنسا
في جانبِ جان داركَ بلادي”
عدّ د. عثمان السعدي الذي شغل منصب السفير الجزائريّ في سوريا والعراق، 468 قصيدة قيلت في الثورة الجزائريّة، لِ 181 شاعرًا من ثلاث دول عربيّة: العراق وسوريا والسودان، في “الجميلة” منها 35 قصيدة، الشاعر العراقيّ “شفيق الكيّالي” استعاد بحضورها الثوريّ “خولة بنت الأزور” التي قاتلت في “اليرموك” مع “خالد بن الوليد”:
“لمْ تدرِ أنّ خولةَ
عادَتْ إلى الوجودْ
لكنَّهُمْ يدعونَها جميلة”
والشاعر العراقيّ “السيّاب” جعل من معاناتها أكبر ممّا عانى المسيح:
“لمْ يلقَ ما تلقينَ المسيحْ
أنتِ التي تفدينَ جرحَ الجريحْ
أنتِ التي تعطينَ لا قبضَ ريحْ”
ويغني “عبد الحليم حافظ” مطرب الثورة المصريّة أغنية للثورة الجزائريّة بعنوان “جميلة”. وقد نالت السينما المصريّة شرف تقديم فيلم من أجمل أفلامها التاريخيّة بعنوان “جميلة”، يروي سيرة كفاح “الجميلة بوحيرد” ودورها في الثورة وسجنها على يد الفرنسيّين ومحاكمتها والإعدام والإفراج ونيل الحرّية الفرديّة والوطنيّة. الفيلم من إنتاج 1958 وإخراج “يوسف شاهين” وقامت بدور “الجميلة” الممثّلة الرقيقة “ماجدة الصباحي”.
وماذا بعد:
الطفلة التي صرخت: “الجزائر أمّنا” بعكس النداء النشاز للطلّاب المتفرنسين، كانت تستطيع وهي في مقتبل الشباب، في سنّ العشرين أن تكون لو فكّرت بذاتها أفضل مصمّمة أزياء، أو أفضل راقصة كلاسيكيّة أو بطلة بارعة في الفروسيّة وركوب الخيل، لكنّها فكّرت بوطنها وغادرت ذلك العزّ الفرديّ والتحقت بالفدائيّين وبالثورة وبجبهة التحرير الجزائريّة لقتال الفرنسيّين، لم تدر ظهرها للعدوّ وأقبلت على زرع العبوّات والمواجهة والسجن والإعدام بشجاعة عزّ نظيرها، في منتصف السبعينات من عمرها يدير لها الوطن وسلطة الوطن ظهره ويتخلّى بتخلّيه عنها عن أقدس أقداسه “الجميلة”، أوّل مجاهدة ضدّ الاستعمار في التاريخ العربيّ الحديث تعاني عاجزة! وهي ابنة الخامسة والسبعين عن تأمين قوتها وعن تكاليف علاجها وحاجاتها الأساسيّة، في رسالة إلى الرئيس “بو تفليقة” قالت: “أطلب منكم أن تتوقّفوا عن إهانتنا، وعليكم أن تراجعوا معاشنا الضئيل، وذلك حتّى نكمل الوقت القليل الباقي لنا في هذه الحياة، بما يتناسب مع الحدّ الأدنى من الكرامة”. هذه الكرامة المجسّدة “الجميلة” يضطرّها نظام فاسد أن “تستجدي” الحدّ الأدنى من الكرامة! “عبد العزيز بوتفليقة” نموذج على بعض المناضلين الذين يخوضون الحرب حتّى الانتصار والتحرير من الاستعمار الأجنبيّ بشرف واستقامة، وما أن يتحوّلوا إلى حكّام وإذا بهم يمارسون بسلطتهم القمع والقهر والظلم للشعب، واللصوصيّة والنهب لخيرات الوطن وأمواله وثرواته ويتصرّفون مع الناس كمأمورين بقراراتهم وينظرون إلى المال العامّ والثروات الوطنيّة كملك خاصّ.
هذه “الجميلة” التي كرّمت وشرّفت بكفاحها ومقاومتها الجزائر والأمّة العربيّة كلّها والإنسانيّة، ترفض لعزّة نفسها وكرامتها الذاتيّة والوطنيّة عرضًا سخيًّا من أمراء الخليج لعلاجها، تلجأ إلى جماهير شعبها الجزائريّ الأبيّ، أولئك الذي يعرفون ما قدّمت لهم “الجميلة”، فلا يمكنهم التنكّر لجميلها/ لواجبها الوطنيّ، تطلب مساعدتهم فيتهافت المواطنون العاديّون البسطاء لتقديم أقلّ القليل ممّا يستطيعون، وذلك يكفي “الجميلة” وهو كثير بنظرها مهما قلّ!
من المؤلم حقًّا أن نسمع عن هذه الثائرة “الجميلة” في أواخر سنّي عمرها، يعني سنّها كان يقارب الثمانين، وبعد أن أعياها الكبر والشيخوخة ودبّت في جسدها الأمراض، من المثير للغضب والمخجل والمقزّز من هذه الحكومة الجزائريّة والدولة أن “تستجدي الجميلة” وهي في هذا المقام ثمن علاجها ومصاريف العمليّات الطبيّة التي أجريت لها، وهي التي لم تستجدِ حياتها وهي في عزّ الشباب والعافية من العدوّ الفرنسيّ، كان من الأوْلى لهذه الدولة ورئيسها والحكومة ووزرائها وأجهزتها ومؤسّساتها الرسميّة أن تقيم مستشفًى يحمل اسمها، ويعالج فيه البسطاء والفقراء من الجزائريّين مجّانًا، وكان أولى بالرأسماليّين وكبار الأثرياء الجزائريّين ورجال الأعمال وأصحاب الملايين التي صنعت لهم “الجميلة بوحيرد” وغيرها من جميلات الوطن ونسائه الحرائر وطنًا يصبحون فيه “رجالًا” يكسبون فيه الأموال الطائلة، ليصبح الفقراء الجزائريّين تحت طائلة استغلالهم وتجرّدهم من أيّ حسّ أخلاقيّ ووطنيّ، بعد أن قدّم غيرهم الدماء والأرواح، فلتخجل الرئاسة والحكومة الجزائريّة! وليخجل أصحاب رؤوس الأموال والأغنياء الجزائريّون! إنّهم جميعًا: رجال حكم ورجال مال وأصحاب غنى، ولكنّهم في وضع مزرٍ وطنيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا! فليتركوا إزراءهم وذلّهم وقليلًا من أموالهم وقرارًا واحدًا يعيد بعض الماء الذي “اندلق” من وجوههم وجزيئًا واحدًا من ذرّة واحدة من كرامة فقدوها كلّها، وليقيموا ذلك المستشفى، “مستشفى الجميلة بوحيرد لمعالجة الفقراء” في قلب العاصمة الجزائر، كما كان الوطن في قلب “الجميلة” وكما كانت “الجميلة” في قلب الثورة! مؤسف ومخجل وجالب للإحساس بالعار أنّ هذا ما يحدث بالانتقال من كفاح وثورة وتضحيات إلى دولة ونظام حكم وثراء فاحش، انبنى على دماء الشهداء وعلى قوت الفقراء.
ماتت “الجميلة” يوم الثلاثاء 30/7/2019، عن عمر ناهز 85 عامًا، ماتت وكما نقول نحن العرب في فلسطين: “ماتت والحسرة في قلبها”! ماتت لكنّ أغصان الليلك وأفنان البيلسان التي ظلّت باسقة لجلال ذكراها لن تموت! إنّ عطر الأرض وشذى الثورة لن يموت! ماتت فانتقلت روحها إلى جنّات الخلد مع الأبرار والأحرار والصدّيقين، ولكنّ أنباض قلبها الثائر بالحريّة والعزّة والكرامة تناثرت مع اتّجاهات الريح الطيّبة في قلوب الثوّار المناضلين في كلّ زمان ومكان، أنباضًا دائمة تبقى وتخلد إلى الأبد الأبيد. مات رجال العسكر الفرنسيّون بلا ذكر، وسيموت رجال الثراء ورجال الحكم في الجزائر بلا ذكر إلّا بما لطّخوا بعسكرهم وثرائهم وحكمهم. فإلى جهنّم وبئس المصير أيّها القبيحون! ونامي مطمئنة أيّتها الجميلة “جميلة بوحيرد” في ثرى الجزائر الطاهر!