المكان في شعر راشد حسين
تاريخ النشر: 12/10/20 | 8:29 د. نبيل طنّوس
“لأنك أمّي…أحبّ الجليل
وحيفا ويافا…فأهواك أكثر”
(راشد حسين، إلى أمّي)
خلاصة
سعت هذه الدراسة إلى الكشف عن علاقة الشّاعر راشد حسين (1936-1977) مع المكان. قمنا بتعدادٍ كميٍّ – تقريبيٍّ للأماكن بفضاءاتها المختلفة مع فحصِ دلالات المكان: الإيجابيّة والسّلبيّة، وحاولنا الكشف عن صلة الشّاعر مع المكان وظروفها وتغيّراتها، ودراسة الدّوافع الّتي دفعت بالشّاعر لتوظيف هذه الأنواع من الأمكنة. بعدها قمنا بقراءة المعطيات وتحليلها حسب النّظريّة الجدليّة وحسب ظاهرة الثّنائيّات الضّديّة للوقوف على كيفيّة التّعامل مع الصّراعات النّاتجة من الظّروف التّاريخيّة. وتوصّلت الدّراسة إلى أنّ المكان يشكّل مركّبًا أساسيًّا في شعر راشد حسين وله دلالات شخصيّة، وطنيّة فلسطينيّة وقومية عربيّة. وجدنا أنّ الشاعر يحمل معه المكان في فكره وأحاسيسه، ممّا يشير إلى تّمازج بين أنا الشّاعر والمكان، فتلتحم معًا عناصر الطبيعة والأرض والإنسان. صوّر راشد حسين الأشجار والحجارة والسّهول والجبال والنّهر والبحر والقرية والمدينة الّتي تسكن في ذاكرته. هذا الالتحام يشكّل عالم الشّاعر راشد حسين الواعي والملتزم.
مدخل
لمّا كان الشّعر العربيّ شعرًا مكانيًّا في ارتباطه بالبيئة الّتي أنتجته، والإنسان الّذي أبدعه، كان لزامًا على الدّرس الأدبيّ أن يلتفت إلى المكان فيه، نظرة لا تحكمها التّابعية، فتحصر المكان في بعض المظاهر الثّانويّة، أو تتخطّاه لمجرّد ذكره بعبارات اهترأت استعمالاتها، وخوت دلالتها، وصدأت جدّتها. بل التّنقيب في عمق العلاقات الّتي ينشئها المكان بينه وبين مختلف المعاني، والعادات القوليّة، والفعليّة، والأخلاق، والسّلوك. (مونسي 2001، ص 8.)
مفهوم المكان وأهمّيّته:
المكان، لغةً المَوْضِع الحاوي للشّيء، أو الفراغ الذّي يشغله الجسم، والجمع: أماكن، أو أمكنة. والمكان موضع لكَيْنونةِ الشّيء فيه، والمكان الموضع، والجمع أمكنةٌ، وأماكنُ جمع الجمع.
تحمل كلمة “المكان” معانيَ الحيِّز، والحجم، والمساحة، والخلاء. يُمكن للمكانِ أنْ يكون مُستقلًّا في وجوده عَنِ الإنسان، ولكنّ وجود الإنسان يرتبط بالمكان ارتباطًا وجوديًّا. للإنسان علاقته الوثيقة مع المكان، نشأة وتربية، ثقافة وتاريخًا، ذكريات وأحلامًا، يُؤثِّر فيه ويتأثَّرُ به. مِنْ هنا نَشَأت علاقة جدليّة بينَ الإنسان والمكان، حتى أنّ بعض المفكّرين والمُؤرّخين صنّفوا الحضارات والثقافات حسب أشكال المكان. ( عزّام 2010، 205.)
يُعتَبَر المكان أحد العناصر والمكوّنات الأساسيّة والمهمّة في العمل الأدبيّ، وذلك لما يحمله مِنْ أبعاد جماليّة وفنّيّة تُساهم في بلورة الأحداث وبناء الشّخصيّات، فالمكان لا يقف في كونه حيِّزًا أو مجالًا تتحرّك فيه الشّخصيّات فحسب، بل يتعدّى إلى أبعد من ذلك، إذْ أصبح يحمل دلالات وإيحاءات تشير إلى القصد والمعنى الذي يحتويه النّصّ، سواء كان هذا النَصَ شعرًا أم نثرًا، وبصورة أخرى أصبح وسيلة تعبيريّة تعكس لنا العلاقة القائمة بينه وبين الإنسان. ( لقريشي وفوّاز 86-87.)
وهناك من يرى فرقًا بين المكان في الواقع والمكان في الرّواية، إنّ المكان في الرّواية ليسَ هو المكان في الواقع الخارجيّ ولو سُمِيَ باسم له مُسمًّى في الخارج، إلّا أنّ المكان الرّوائيّ لفظيّ مُتَخَيَّل مِنْ صُنع اللّغة حتى يقوم في خيال المُتلَقّي. (آبادى وأصفهاني 2012)
للمكان شأن كأيّ عنصر من عناصر البناء الفنّيّ، يتمّ تحديده عبر الممارسة الواعية للفنّان، فهو ليس بناءً خارجيًّا مرْئيًّا، ولا حيِّزًا محدّد المساحة، ولا تركيبًا مِنْ غرف وأسْيجة ونوافذ، بل هو كيان من الفعل المغيّر والمحتوي على تاريخ ما، والمُضخّمَة أبعاده بتواريخ النّور والظُّلمة. ويحتاج مثل هذا المكان إلى حيِّز ماديّ يتوضّح عبره، وينمو فيه. وإلّا أصبحت كلّ البيوت أمكنة صالحة للفعل، وكلّ الشّوارع مساحات لأقدام المتظاهرين. فالمكان في الفنّ اختيار، والاختيار لغة، معنى، فِكر، وقصد، فرغم التّشابه والتّقاطع بين المكان في العمل السّرديّ والمكان في الواقع، إلّا أنّه مكان مُتَخَيّل وليسَ حقيقيًّا، فمدينة حيفا التّي تظهر في روايات إميل حبيبي أو غسّان كنفاني هي ليست مدينة حيفا التّي في الواقع، إنّها مدينة مِنَ الكلمات تقترب أكثر مِنْ شخصيّات الرّواية التّي تظهر فيها. ( هيبي 2009، 56.)
للمكان عدّة دلالات فنّيّة، مِنْ مفتوح ومغلق إلى فرديّ وجماعيّ، وهذا ما يُوفّر ثنائيّات التّقاطب، والتّجاذب والتّنافر، ويجعل العمليّة الإبداعيّة سابحة في فضاء غير متناهٍ من الدّلالات، المفتوح مُقابِل المغلق، والفرديّ مقابل الجماعيّ، والعموميّ مقابل الخاصّ، والمقدّس مقابل المدنّس، والممنوع والمحظور مقابل العامّ والمُباح. لهذا يحظى عنصر المكان بالدّراسة أكثر مِنْ غيْره مِنَ المُكوّنات السّرديّة. ( مرين وتحريشي 2016، 141.)
راشد حسين والمكان
وضعتُ هذا الشّعار (Motto): “لأنّك أمي … أحبّ الجليل وحيفا ويافا…فأهواك أكثر” لأنّه يعكس، حسب رأيي، النقطة المركزية، البؤرة أو البوينتا (Main Point) في المقال. يحتوي هذا الشّعار على أنا الشّاعر، أمّي، الجليل، حيفا ويافا، وهم مكوّن واحد يصعب الفصل بينهم، إذ يقول: سبب حبّي لهذه الأمكنة هو أنّك أمّي ولأنّي أحبّ هذه الأمكنة أصبحت أحبّك أكثر. نجد دوائر متقاطعة ومتمازجة من الحبّ للأمّ وللمكان إذ يقول الشّاعر عن أرض هذا المكان: “تقترب منّي، تشرب منّي، تترك عندي بساتينها، في الحلم تقترب منّي، أُهرِّب زعترها، أُنشد أحجارها، أشرب أخبارها فتقترب منّي، تترك عندي، أحضنها، أعبدها وأحيّي لها العرس، أشرب منها وتشرب مني” (. حسين 2004، ص 505.) نلاحظ أنّ أهمّيّة الأمّ نابعة من كونها تمثّل رحم الولادة ورمز الكون والوجود.
لماذا كلّ هذا الحبّ؟ لماذا كلّ هذا التّماهي؟ ويجيب راشد: “ليبقى الجليل جمالًا نضالًا وحبًّا يدافع عنها وعنّي. أرى الأرض صبحًا سيأتي وتقترب الأرض منّي”.
في الجغرافيا، المكان أو الموقع يستخدم للتّعريف عن نقطة على سطح الأرض أو أيّ مكان آخر، وهو المحيط الّذي يعيش فيه الإنسان. للمكان أهمّيّة كبرى على جميع الأصعدة: الاجتماعيّة، الأخلاقيّة، الاقتصاديّة، السّياسيّة، الأدبيّة والفنّيّة، فنحن نعيش في المكان جماعات لها عادات وتقاليد وقيم وأنماط سلوكيّة، نحصل على قوتنا من المكان ولنا علاقة بنباتاته وأشجاره وأحجاره وروائحه، إلخ، نفلح الأرض ونبني البيوت، ندافع ونناضل للحفاظ على المكان، نكتب الأدب بكلّ اشكاله ونرسم اللّوحات وننحت من صخوره الأشكال وغيرها. كلّ ما يشكّل الوعي الإنسانيّ الثّقافيّ والحضاريّ يرتبط بالمكان على مرّ التّاريخ.
تحاول هذه المقالة استكشاف معالم المكان الشّعريّ ودلائلها في شعر راشد حسين، وتحاول الدّراسة الإجابة عن الأسئلة التّالية: هل يكتب عن المكان مقلّدًا غيره، أم أنّ له توجّهًا خاصًّا ومميّزً؟ هل المكان يشكل عنصرًا في بنية نصوصه الشّعرية؟ سوف نبحث في قصائده عن جغرافيا المكان وعن أماكن بأشكالها المختلفة: أسماء بلدان، مناطق، بيوت، خيم، تضاريس الأرض: جبال ووديان وسهول وينابع. أماكن مثل سجن، حديقة، جنّة، جهنّم، ومن ناحية أخرى سنبحث عن توجّهاته للمكان وارتباطه به شعوريًّا، وهي أمور غير مرئيّة وهي ما وراء الجغرافيا مثل زيارة المكان، الخروج منه، العمل فيه، جولات ورحلات في حقوله وغاباته وأنهاره وبحوره وينابيعه. فماذا يعني كلّ هذا؟ كيف نفهم ونحلّل النّصّ حسب كلّ هذا؟ ما هي العلاقة بين أنا الشّاعر والمكان، وما هي درجة الصّلة بينهما؟
قد يكون المكان مسكن الشّاعر أو مسكن قريبه أو صديقه أو فتاته. عندها نتساءل: ماذا رأى من المكان؟ ماهي الأماكن المركزيّة في شعره؟ وما هي الأماكن الأقلّ مركزيّة؟ المكان، كما يقول رينيه ويليك وأوستن وارين (1987) “يُصوَّر كتعبير مجازيّ عن الشّخصيّة، فبيت الإنسان امتداد لنفسه، إذا وصفت البيت، فقد وصفت الإنسان”. (. ويلك ووارين 1987، 231-232). يعبّر المكان عن أصحابه ويكشف عن حياتهم الشّخصيّة والنّفسيّة وعن طبائعهم وأمزجتهم. وتنظر السيّميائيّة إلى المكان نظرة مغايرة وتدركه بشكل دلاليّ، ليس فقط مادّيًّا وفيزيائيًّا إنّما إلى شاراته وعلاماته ورموزه، فهو حسب سيزا قاسم (2002) “ليس فضاءً فارغًا، ولكنّه مليء بالكائنات وبالأشياء، والأشياء جزء لا يتجّزأ من المكان، وتضفي عليه أبعادًا خاصّة من الدّلالات”. (. قاسم 2002، ص 81.)
أنواع المكان:
تشير سيزا القاسم إلى أربعة أنواع بحسب السّلطة التّي تخضع لها، وهي:
1. عندي: وهو المكان الذّي يمارس فيه الإنسان سلطته فيه، ويشعر فيه بالدّفء، والحريّة، والاستقلاليّة.
2. عند الآخرين: وهو عكس الأوّل، لأنّ الإنسان خاضع فيه لصاحب المكان، فهو ضيف، وسلوكه مفيدًا بما هو مقبول عند الآخرين.
3. الأماكن العامّة: هذه الأماكن هي تابعة للسّلطة العامّة، ولذلك يجب أنْ يتلاءم سلوك الشّخصيّات وهذه الأماكن من ناحية اجتماعيّة.
المكان اللّامتناهي: ويكون هذا المكان عادة خاليًا من النّاس، مثل الأرض المشاع، الصّحراء، الغابات، البحار، وتكون سلطة الدّولة ضعيفة فيها. قاسم 1986؛ جابر 2000، 25 – 24.)
وصنّف شاكر النّابلسيّ المكان إلى أربعة أنواع بحسب تغيّره بفعل الزّمان، مظهرًا التّأثير المتبادل بين المكان والسّكّان.
أنواع المكان، كالتّالي:
1. المكان المجازيّ: نجد المكان ساحة للأحداث ومكمّلًا لها، أو دلالة على مركز الشّخصيّة الاجتماعيّ، أو طريقة حياتها، وهو مكان سلبيّ، مستسلم، يخضع لأفعال الشّخصيّات، وخارج نطاق التّجربة الفنّيّة لأنّه لا يعبّر عن معايشة المكان.
2. المكان الهندسيّ: يتفكّك المكان ليصبح مجموعة من السّطوح والألوان التّي لا تقيم مشهدًا كلّيًّا، إذ يحذف كلّ الصّفات التّقويميّة، ويُكثر من المعلومات التّفصيليّة.
3. المكان كتجربة معيشة: هو المكان الذّي عاش فيه الكاتب، وهو المكان القادر على إثارة الذّكريات عند القارئ.
المكان المعادي: كالسّجن والمنفى، والطّبيعة الخالية من البشر. ( النّابلسيّ 1994، 13 – )12.
يختصر صبري حافظ أشكال المكان في جدليّة المفتوح/ المغلق، مثل: البيت، السّجن (مغلق)، المقهى والملهى والشارع والصحراء والبحر (مفتوح).
البيت/ المغلق
البيت هو المكان الذي يلجأ إليه الإنسان بعد يوم من العمل، فهو مصدر الرّاحة والطمأنينة، وهو المكان الذي يضم أقرب النّاس إليه، ماديًّا ومعنويًّا. ويرى جاستون باشلار أنّ البيت هو المكان الأليف: “وذلك هو البيت الذي ولدنا فيه، أي بيت الطفولة، إنّه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكّل فيه خيالنا، فالمكانيّة في الأدب هي الصّورة الفنيّة التي تذكّرنا أو تبعث فينا ذكريات بيت الطفولة، ومكانيّة الأدب العظيم تدور حول هذا المحور”.
السّجن / المغلق
السّجن هو مكان تتقيّد فيه الحريّة، والحرّيّة هي أغلى ما يُنشده الإنسان، إضافة إلى أنّ السّجن يُبعد الإنسان عن علاقاته الاجتماعيّة، ويفقده خصوصيّاته، وفي كثير من الأحيان يترافق السجن مع التّعذيب، وإهانة الكرامة الإنسانيّة، وخاصّة في البلاد العربيّة. وعادة ما يعالج الأدب العربيّ السّجن السياسيّ لأنّه “ذو طبيعة خاصّة تختلف عن طبيعة السّجن العاديّ في المراحل الّتي يمرّ فيها السّجين، وفي الصّور التي تطالعه، وفي الآثار السّلبيّة والنّفسيّة الّتي تصيبه فيه”.
المقهى/ المفتوح
المقهى فضاء مفتوح، وينطوي، كما يقول صبري حافظ، على معظم تنويعات المفتوح، فهو مكان مفتوح على الفضاء وعلى الآخرين. وفي المقهى تجتمع المتناقضات، وتتمّ الصّفقات وأحيانًا المؤامرات، وكذلك الشّجارات، وتختلف أشكال المقاهي، وبالتّالي يختلف روّادها. والمقهى مكان اجتماعيّ ينفتح فيه الإنسان على الآخرين ويتعرّف إليهم، والجلوس في المقهى يمنح الشّخص “راحة نفسيّة” لا تشبه تلك التي يعيشها المرء في بيته المزدحم. والشّارع فضاء مفتوح مثل المقهى، وإن كان انفتاحه أوسع، والشّارع مثله مثل أيّ شكل آخر من أشكال المكان، يمكن أن يكون أليفًا أو غريبًا.
الصّحراء – البحر/ المفتوح
تشترك الصّحراء مع البحر في الأبعاد المترامية والصّحراء بامتدادها وفراغها وعريها، توحي الصّحراء بالضّياع والموت. وكذلك الأمر بالنّسبة للبحر. ولكنّنا نلاحظ مرّة أخرى أنّ الطّبيعة الواسعة بصحرائها وجبالها يمكن أن تكون ملاذًا للهاربين من القمع السّلطويّ، وبذلك تتّخذ وجهًا إيجابيًّا. ويحدد إبراهيم طه جدليّة أخرى إضافة لجدليّة المفتوح/ المغلق هي: الواسع (البحر، السّماء، البريّة)/ الضّيّق( عمارة، بيت، طائرة، سفينة)- المكان الثّابت/ المكان المتحرّك (سيّارة، قطار، طائرة، سفينة). وهذا بدوره يؤثّر على الشّخصيّات والأحداث، فإذا كان المكان مغلقًا فالإنسان مغلق، أي محدّد ومنقطع عن العالم الخارجيّ، وإذا كان المكان متحرّكًا فالإنسان ثابت، فلا تكون الحركة في مكان متحرّك كالسّيّارة أو الطّائرة أو السّفينة وهي حركة جامدة فرضتها قوانين المكان بالقوّة على من هو ضعيف، أو على أقلّ تقدير على من هو أضعف من المكان. (حافظ 1984؛ طه 1997-1998، 313-315)
أنواع المكان في شعر راشد حسين:
يتوزّع المكان في شعر راشد حسين إلى خمسة فضاءات، كما يلي:
1. الفضاء الواسع: الأرض، السّماء، الحقول والبساتين والسّهول والجبال وغيرها، البلاد، القرية، المدينة، الحارة وغيرها.
2. الفضاء الفلسطينيّ: المثلّث، الجليل، المرج، يافا، القدس، حيفا، عكّا، الرّملة، النّاصرة، صفد، حطّين، النّاصرة، كفر قاسم وغيرها.
3. الفضاء العربيّ: سوريا، لبنان، الجزائر، العراق وغيرها.
4. الفضاء الغربيّ: أمريكا، روسيا، فرنسا، بريطانيا، إسرائيل.
5. فضاء الواقع الفلسطينيّ: سجن، مخيّم، قبر، جهنّم وغيرها.
كلمات مفردة تشير إلى مكان انظر لائحة 1 ولائحة 2 في الملحقات
قراءة المعطيات:
يشكّل المكان دالًّا على التّاريخ والتّراث والحضارة والثّقافة والمجتمع والاقتصاد والسّياسة والعقيدة والذّكريات الحسّيّة وغيرها. وفي أيّ نتاج أدبيّ نصل إلى أنا الأديب (الشّاعر أو القاصّ). المكان مزروع في قلب راشد حسين من أوّل قصيدة له في كتابه الأول مع الفجر 1957 في قصيدة “أزهار جهنّم”، إذ نجد الأماكن التّالية: الأرض، الخيام، جهنّم، المهجر، القبر، القصر، أمريكا، روسيا، فرنسا، لندن، بلادي، وينهي عالمه الشّعريّ في قصيدة “في نيويورك” من مجموعة قصائده الأخيرة وكأنّه يستهلّ وينهي شعره بذكر الأماكن الّتي سيتطرّق إليها في شعره، ويغلق دائرة المكان في قصيدة “في نيويورك”. وهكذا نرى الشاعر يحمل معه المكان في فكره وأحاسيسه، ونرى التّمازج بين أنا الشّاعر والمكان، وهذا ما يشير إليه نواّف عبد حسن بقوله: “الالتحام المدهش لعناصر الطبيعة والأرض والإنسان، في مواجهة العدوان، يُعدّ من الظّواهر البارزة في رؤية الشّاعر راشد حسين الواعية والملتزمة، فالأرض التي رُويت بدماء شهدائها تحوّلت حقولها وجبالها وأطفالها إلى مخالب للمقاومة، بعدما تمّت المصالحة بينها وبين الموت، شرطًا للحياة”،ويقول عزّ الدّين المناصرة: “حمل الشّاعر تراثه الفلسطينيّ، وصوّر الأشجار والحجارة والمدن في ذاكرته، وكلّما جرحه المنفى ازدادت كثافة صور الوطن. هنا يحدث التمزق”.
كمّيًّا وردت الأماكن في شعر راشد حسين، بشكل تقريبيّ، حسب ما يلي:
1. الفضاء الواسع: خَصَّصَ الشّاعر 12 قصيدة تحمل عناوين لأمكنة في الفضاء الواسع، وذكرت أماكن الفضاء الواسع 366 مرّة من 942 مرّة ذكرت فيها أسماء أماكن عامّة وهذا يساوي 39%. (أنظر الملحق رقم 1)
2. الفضاء الفلسطينيّ: خصَّص الشّاعر 10 قصائد تحمل عناوين لأسماء بلدان فلسطينيّة، وذكرت هذه البلدان 149 مرّة من 942 مرّة وهذا يساوي 16%. (أنظر الملحق رقم 2)
3. الفضاء العربيّ (العالم العربيّ): خصَّص الشّاعر 14 قصيدة تحمل عناوين لأسماء أماكن في العالم العربيّ، وذكرت هذه الأسماء 191 مرّة من 942 مرّة وهذا يساوي 20%. (أنظر الملحق رقم 3)
4. الفضاء الغربيّ: خصَّص الشّاعر قصيدة واحدة “في نيويورك”،وذكرت مدن وبلدان غربيّة 46 مرّة من 942 مرّة وهذا يساوي 5%. (أنظر الملحق رقم 4)
5. فضاء الواقع الفلسطينيّ: خصَّص الشّاعر 26 قصيدة تحمل عناوين لأمكنة تصف الواقع الفلسطينيّ (خيمة، مخيّم، سجن، وغيرها)، وذكرت الأماكن 190 مرّة من 942 مرّة وهذا يساوي 20%. (أنظر الملحق رقم 5)
جدليّة المكان في شعر راشد حسين
الجدليّة تعني كلَّ فكر يأخذ بعين الاعتبار طرح الواقع عبر تفاعلات بين ما نسمّيه الطّريحة thesis والنّقيضة antithesis، على أمل الوصول إلى حلّ المتناقضات القائمة من خلال الارتقاء إلى الشّميلة synthesis. والقضيّة الأساس هي: هل نستطيع أن نصل في هذه الجدليّة المبنيّة على تناقضات ضدّيّة إلى كينونة أو صيرورة تحرّك الأوضاع التّاريخية والاجتماعيّة نحو حياة أفضل؟ نحن أمام ظواهر كبيرة مليئة بالتّناقضات، ويعود السّبب إلى تغيّر الأحوال ووقوع البلاد تحت احتلال ظالم، الأمر الّذي خلق رؤية ثنائيّة ضدّيّة في نظرة الشّاعر إلى المكان، والّتي حسب رأيي تمثل رؤية النّاس للمكان.
السّهول والمروج الواسعة والمفتوحة والتي يستثمرها الفلاّح لمعيشته من الفلاحة والزّراعة والرّعي، ومساحات لملاعب الأولاد والكبار وغيرها، تحوّلت بعد الاحتلال إلى مكان تحدث فيه مجزرة. قصيدة “الغلّة الحمراء” من كتاب صواريخ (1958) الّتي كتبها الشاعر لذكرى ضحايا قرية صندلة الواقعة في مرج ابن عامر، والتي وقعت في السّابع عشر من أيلول/ سبتمبر في العام 1957، خلّفت 15 طفلًا شهيدًا وثلاثة جرحى، لا يزال أحدهم مقعدًا. في قلوب أبناء قرية صندلة حسرة وجراح لا يمحوها التاريخ. يقول الشاعر بأسلوب الثّنائيّة الضّدّيّة:
هل بعد أن كنّا نلم غمارنا// وعلى الشفاه تبسّم وتفاؤل ( الطّريحة )
نأتي نلملم عن ثراها لحومنا// وكأنّنا كنّا عليك نقاتل؟ (النّقيضة)
أبناؤنا بالأمس أنت غذوتهم // (الطّريحة)
أتراك جعت فهم لديك مأكل (النّقيضة)
ساروا عليك مسالمين كأنّهم// أمل يسير وقصة تتمايل (الطّريحة)
فعلام عجلت المنون بحصدهم // جمعًا فداهمهم غياب عاجل؟ (النّقيضة)
أمامنا مثال واضح حول جدليّة المكان في شعر راشد حسين، مثال على الطّريحة thesis والنّقيضة antithesis، فكيف بالإمكان الوصول إلى الشّميلة synthesis؟ هذه الجدليّة أصابت العرب الفلسطينيّين في إسرائيل. فكيف يمكن مواجهة هذه الأزمة – الصّراع؟ لكلّ صراع أسباب قد يكون واحدًا من الأسباب التالية: تعارض في المصالح، تعارض في المطالب، تعارض في الأهداف، تعارض في التّوقّعات، تعارض في القيم، تناقض في الصّفات الشّخصيّة، اِنعدام التّسامح، تواصل غير سليم. دراسة التّناقض بين الطّريحة والنّقيضة في مرج ابن عامر، كما جاء في القصيدة، يكشف كلّ أسباب الصّراع المذكورة ممّا يصعب الوصول إلى شميلة. أرض هذا المرج التي كانت مصدرًا للحياة الهادئة والجميلة أصبحت مصدرًا للموت، وكلّ هذا سببه الاحتلال، فالفلسطينيّون هم طرف واحد فقط في هذا الصّراع والطّرف الثّاني هو المُحْتَلّ. لذلك يوجد تحدٍّ كبير لحلّ المتناقضات القائمة في هذه الأزمة – الصّراع. فما هي إذن الأساليب لمواجهة الصّراعات؟ وما هو الرّبح والخسارة في كلّ أسلوب؟
1. أسلوب التّجاهل التّامّ لوجود الصّراع وسببه هو الخوف من الطّرف الآخر وعدم الثّقة بالنّفس والثّمن هنا يكون الغضب، الإحباط، الإحساس بالظّلم ممّا يؤدّي إلى الانتقام.
2. أسلوب إلقاء المسؤوليّة على طرف آخر في الصّراع والطلّب منه بحلّه. وسبب انتهاج هذا الأسلوب هو عدم الاستعداد لتحمّل المسؤوليّة بل إلقاؤها على الغير، وعدم الثّقة بالقدرات في مواجهة الصّراعات، والثّمن هنا غالٍ.
3. أسلوب القوّة مقابل القوّة. سبب هذا الاسلوب هو أنّ القويّ يفرض الحلول على الضّعيف، والضّعيف يوافق من منطلق أنّه غير قادر وقليل الحيلة ولذلك يتنازل ويخضع للقويّ. الثّمن لهذا الأسلوب هو الخضوع المطلق للقويّ.
4. أسلوب الحلّ المنصف، وطرقه هي تحليل الوضع وتحديد التّناقضات والبحث عن إمكانيّات الحلّ عن طريق الحوار. تقع المسؤوليّة كاملة في العمل على جميع الأطراف، أحيانًا يتعرّض الفرد أو المجموعة في هذا الأسلوب إلى الهجوم من قبل الآخرين، وأحيانًا يتعرّض للفشل. في هذا الأسلوب يربح الأفراد استقلاليتها.
تجدر بنا الإشارة هنا إلى أنّ الحلّ العادل هو الّذي يأخذ بعين الاعتبار أغلبيّة الاحتياجات الشّرعية لجميع الأطراف.
القضيّة هنا أصعب بكثير ممّا نتصوّر. الفلسطينيّون في إسرائيل هم السّكّان الأصليّون، أصحاب الأرض وهم الطّرف الأوّل، والطّرف الثّاني هم القادمون الّذين احتلّوا البلاد واغتصبوا أرضَ السّكّان الأصليّين. فكيف إذن نصل إلى الشّميلة synthesis التي تربط بين الطّريحة thesis والنّقيضة antithesis على أمل الوصول إلى حلّ الصراع؟ هل أساليب مواجهة الصّراع المذكورة أعلاه كافية، أو ربّما تساعد في إيجاد حلّ للتّناقضات؟ ومن هنا نستنتج أنّ الصّراع ليس جدليًّا وإنّما هو تناقضيّ. وذلك لأنّ في الجدليّة نصل إلى واقع جديد أي حلّ للصّراع القائم. لكنَّ الصّراع في واقعه الحاليّ هو تناقضيّ، ونتيجته تفوّق أحد الطّرفين على الآخر. وقد أشار الكاتب والشّاعر أحمد حسين (أخو راشد) إلى ذلك بقوله: “وأنا أدّعي أنّ المشهد الفلسطينيّ غير مكرّر تاريخيًّا، من حيث مستوى الحدث، ومستوى ردّ الفعل لدى الضّحيّة. فالحدث هو ابتزاز كيان بأكمله بطريقة مثاليّة، خياليّة، حلميةّ، فاشيةّ، ولكن تحت رعاية دوليّة. وهذا مشهد ليس له نظير في التّاريخ المعروف. ولكن الأمر سيبدو أكثر غرابة عند متابعة سلوك الضّحيّة، والحال الّتي وصل إليها الموقف السّياسيّ والفكر الوطنيّ الفلسطينيّ. لقد تصاعدت هجمة العدوان على الشّعب الفلسطينيّ باستمرار، حتّى احتلّت كامل الأرض الفلسطينيّة، وقسمًا كبيرًا من مساحة الدّم الفلسطينيّ. وبموازاة ذلك، وباتّساق زمنيّ واضح، كانت القيم الوطنيّة تتدنّى باستمرار، إلى أن وصل الأمر، على ساحتنا المحلّيّة خصوصًا، حدّ استباحة كلّ المحرّمات الوطنيّة، ووصل الموقف السّياسيّ الفلسطينيّ إلى درجة تبنّي هذا الواقع، بل والدّعوة إليه”.
أمثلة أخرى حول جدليّة المكان في شعر راشد حسين:
الثنائيّات الضّدّيّة تميّز موقف الشّاعر راشد حسين تجاه المكان، إليكم بعض الأمثلة:
1. البيت/الدار
الطّريحة thesis: البيت هو المأوى، الملجأ، الحصن، الأمّ، الأب، أفراد الأسرى والأقارب. ورد ذلك في قصيدة “من لاجئ إلى أمّه”.
“ذكرى تحدّثني عن الدّار الملوّنة الجهاتِ
ذكرى تحدّث عن أخي “سامي” وعن عبث اللّدّاتِ
ذكرى العبير المشمشيّ وذكريات السّنبلاتِ”
“بالأمس قالت لي: تعال نزور داركم القريبه
أنسيتها؟ أنسيتَ أمّك والأقارب والخطيبه؟
أنسيتَ عطر اللّوز في شفة الحواكير الرّطيبه؟
لم أنسها! لم أنسها! والله يا أمّي الحبيبة!”
النّقيضة antithesis: بسبب الاحتلال يتحوّل البيت إلى مكان يصعب الدّخول إليه وكثيرًا ما يُمنع الدخول إليه:
“ومشيت نحو الغرب آمل أن أراكِ فذاك عيدي
والشّمس مالت للمغيب بطيئة فوق الحدود
فكأنّها متسلّل يخشى “مداعبة” الجنود
وتحرّكت شفة البنادق بالشّتائم والوعيد
فرجعت أركض خائفًا وبصقت في وجه الوجود”
2. القرية/البلد
الطريحة: القرية تمتاز بالهدوء، البساطة، النّخوة، الفرحة، تقديس الحياة، وحبّ الله.
يقول الشّاعر: “وطرت سريعًا إلى قريتي”.
“في قريتي جميعهم يقدّس الحياة
شيوخهم تجمعهم تسبيحة الصّلاة
عالمهم أمنية وطفلة جميلة ونحلة وشاه
حياتهم في قريتي أن تزهر الغصون
وتنتشي عرائس الرّمان والزّيتون”
وفي قصيدة “ديوان قرية”يقول الشّاعر:
“ديوانها كالبرلمان…. إبريق قهوته تشامخ عاليًا…. نقيق مسبحة الإمام وصوت قهقهة الشّباب…. يا للحديث المستطاب”.
النقيضة: تتمثّل النّقيضة بجملة “إنذار دائرة الضّرائب للضّرير أبي رباب” في قصيدة ديوان القرية
مثال آخر: “وانداح من فم قريتي بعض المئات من البشر
تفلتهم كاللعنة السوداء في وجه القمر
فبدأت أذكر سبي بابل والمقابر والحفر
يا سبي بابل من هداك إلى هنا فسبيتنا؟
وتبعثر السّبي الممزّق بين أشلاء الصّخور” في قصيدة “الخيمة الصفراء”.
3. السّجن
الطّريحة والنّقيضة وردتا معًا في أسلوب الإرداف الخلفيّ oxymoron الّذي يمزج متناقضين في تعبير واحد، يقول الشّاعر:
“أن يُسجنوا فالسّجن ليلُ صباحهم
والشّمس يسبقها الظّلام فتُشرق”.
وهذا يعني أنّ السّجن هو ليل الصّباح والظّلام يسبق الصّباح.
مثال ثانٍ: أُحبّ هذا السّجن لو فكّرتِ في زيارتي”. في قصيدة “خواطر سجين”.
4. الخيمة
يقول نوّاف عبد حسن: “في قصيدة “أنّة لاجئ” يعود الشاعر ليؤكّد أنّ الخيمة ستكون المطهَر ليأسنا، ومنها ستنطلق الشّرارة الّتي لا تخطئ المرفأ.”
يقول الشّاعر: “خــيامُ اللّاجئين قـصـور أهلي
سيرسل من هناك لك الحسابُ
بلى! ولســوف نعـلنه حسابًا
رهــيبًا يـوم تأكـلك الكــلابُ”
هذا التّفاؤل هو الّذي صانته الذّاكرة الشّعبيّة، والّذي منح الشّعر صفة التّحدّي والعناد”
تحتوي هذه المقطوعة على الطّريحة والنّقيضة معًا: الخيام قصور.
في قصيدة “من لاجئ إلى أمّه” (صواريخ 1958) يقول:
“ولخيمتي بابان يا أمّي كأبواب العذابْ
باب يقود إلى الجحيم إلى الشّتائم والسّباب
نحو الخيام العابسات كبعض أكداس السّحاب
وهناك في جهة السّماء على جبين السّقف باب
تبدو النّجوم خلاله كاللّاجئين بلا ثياب”
الطّريحة: باب يقود إلى الجحيم
النّقيضة: في جهة السّماء على جبين السقف باب
تبدو النجوم خلاله كاللّاجئين بلا ثياب”.
5. يافا: ذُكرت يافا 46 مرّة من مجموع 149 مرّة لأسماء مواقع فلسطينيّة ما يساوي 31%، ممّا يدلّ على أهمّيّتها:
الطّريحة: “يافا الّتي رضعت من أثدائها حليب البرتقال
وهي سقت أمواجها المطر
يافا – لمن يجهلها – كانت مدينةً
مهنتُها تصدير البرتقال”
النّقيضة: “عطشت؟ ذراعها شُلّت؟ وظهرها انكسر؟
وذات يوم هُدّمت، وحوّلوا مهنتها تصديرَ لاجئين”. قصيدة “الحب والغيتو، يافا مدينتي”
الرّملة:
الطّريحة: “في الرّملة حاكورة تفّاحٍ
وصفوف من غرسِ الكرمة”
النّقيضة: “الرّملة صارت بركانًا
ما عدنا نخشى السّجانا” قصيدة “رسالة من سجن الرّملة”
6. أماكن مقدّسة:
هي أماكن للعبادة والاستغفار والهدوء والمحبّة، بالإضافة إلى أنّها تحف فنّيّة (الطّريحة)، تغيّرت أحوالها بعد الاحتلال والنّكبة (النّقيضة).
المسجد:
الطّريحة: “هذا المسجد المصنوع من مرمر
فخلّي قلبي الكافر في المسجد يستغفر”. من قصيدة “سحر”.
النقيضة: “وعاد “للمسجد المحزون مروان” من قصيدة “حكاية النار”.
نجد هنا تناصًّا مع قصيدة دمشق لأحمد شوقي، إذ يقول:
“مررت بالمسجد المحزون أسأله// هل في المصلّى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت // على المنابر أحرار وعبدان
فــلا الأذان أذان في مـــــنارتـــــــــــــــــــــــــه // إذا تعــــــــــــــــــــــــــالى ولا الآذان آذان”. (. شوقي 2019.)
تطرح هذه الأبيات تناقضًا كبيرًا بين ماضٍ جميل وحاضر حزين، تحوّلُ المسجد العريق دالّ على هذا التّناقض، لقد كان الأذان يعلو فيه بكلّ فخر واعتزاز، أمّا اليوم فدمشق محتلّة من قبل الفرنسيّين والأذان الّذي يعلو في المسجد ضعيف وذليل. فلا غرابة أن يتناصّ نصّ راشد حسين مع نصّ أحمد شوقي.
“ومسجد مهدّم تبكي عليه المئذنة”. من قصيدة “بلادي”.
الكنيسة:
الطّريحة: “وبعِ الكنيسة فهي ملكه”(من قصيدة “الله لاجئ” من كتاب “قصائد فلسطينية” في الأعمال الشّعرية)
النّقيضة: “فصنعت أجراس الكنائس مدفعًا”. إنّ تحوّل الجرس إلى مدفع هو أمر غير مقدّس.
الثّنائيّة الضّدّيّة بين الدّاخل والخارج
نعني بالدّاخل الفضاء الفلسطينيّ والعربيّ، وبالخارج الفضاء الغربيّ. خصَّص الشّاعر 10 قصائد تحمل عناوين لأسماء بلدان فلسطينيّة وذكرت هذه البلدان 149 مرّة من 942 مرّة وهذا يساوي 16% (أنظر الملحق رقم 2)، وخصَّص 14 قصيدة تحمل عناوين لأسماء أماكن في العالم العربيّ، وذكرت هذه الأسماء 191 مرّة من 942 مرّة وهذا يساوي 20% (أنظر الملحق رقم 3)، وخصَّص للفضاء الغربيّ قصيدة واحدة “في نيويورك”، وذكرت مدن وبلدان غربيّة 46 مرّة من 942 مرّة وهذا يساوي 5% (أنظر الملحق رقم 4). وهكذا يكون قد خصَّص 24 قصيدة للدّاخل، وذكرت الأسماء 340 مرة من مجموع 942 أي 36%، وهذا يساوي أضعاف فضاء الخارج.
جاء الفضاء العربيّ بطرح إيجابيّ، والفضاء الغربيّ بطرح سلبيّ. هذه الثّنائيّة هي دالّة على حسّ الشّاعر الوطنيّ- الفلسطينيّ والقوميّ-العربيّ. ويتحدث الشّاعر عن الثّورة، الكفاح، النّضال والجهاد، ويصف المدن فيها بجماليّة كبيرة، فالقدس ربّة الزّيتون، وجدرانها أشعار، ومصباحها من الياقوت والمرجان وهي مدينة الأحلام، أمّا بيروت فهي أميرة، ودمشق محطّة حبّ مسافرة في دمائه.
نورد أدناه بعض الاقتباسات لتوضيح الفكرة.
الطّريحة: الفضاء الفلسطينيّ والفضاء العربيّ:
القدس: “جدرانها اشعار،
مصباحها ثغرٌ من الياقوت والمرجان
وسريرها صدر تجمّد فوقه نيسان
يا ربّة الزيتون” من قصيدة “إلى أورشليم” من كتاب “صواريخ”.
حيفا: “موطن الذّهب النّظير
أو مسرحًا للفاتنات، وسوق أقمشة الحرير”. من قصيدة “إلى حيفا” من ديوان “صواريخ”
عكّا: “يا حلوة البسمات يا عكّا!
البحر قبَّل راحتيك…
فهو الأمير أتى ليخطب ودَّ قلبك يا أميرة”. من قصيدة “عكا والبحر” من ديوان “مع الفجر ”
دمشق: “ودمشق على شفتيَّ محطةُ حبّ
يا خيرَ محطةِ حبّ”. من قصيدة “يوميّات دمشق” من كتاب “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
“أراك مسافرة في دمائي
بمليون حبٍ… بمليون شعله
أحبّك أمًّا، أحبّك أختًا، أحبّك طفلًا، أحبّك طفلة”. قصيدة “شموع دمشق” من كتاب “أنا الأرض لا تحرميني المطر”.
بغداد: “أحبّك يا بغدادُ اسمًا نبيلًا مقدّسًا
وشعبًا نبيلًا ردَّ عنك الهزائِما”. قصيدة “وحي العراق”
الجزائر: “وإذا الجزائر شعلةٌ حمراء تُشعلُ أغنياتي
يا آسيا لن يُشتَرى بالفلس أبناءُ الحياة”. قصيدة “من آسيا أنا” من كتاب “صواريخ”.
“سنُفهّم الصّخر إن لم يفهم البشر أنّ الشّعوب إذا هبّت ستنتصر
فليفهمُ الصّخرُ إن لم يفهم البشرُ أنّ الجـزائرَ في تاريخِكُـم سقرٌ”. قصيدة “الثّوّار ينشدون” من كتاب “صواريخ”.
النّقيضة: الفضاء الغربيّ:
يشمل هذا الفضاء أمريكا، روسيا، إنجلترا وفرنسا، ويشمل مدنًا مثل نيويورك، لندن، باريس. ارتبطت هذه الأماكن بأبعاد سلبيّة مثل: اِستعمار، اِستغلال، سياسة فرّق تسدْ وإثارة قضية الأجناس، الوقاحة والتّعدّي، مثلًا وصف نيويورك “مدينةٍ بدونِ أصدقاءْ”.
نورد أدناه بعض الاقتباسات لتوضيح الفكرة.
1. “واهتف بسيّد روسيا وأميركا: لا تشمخنْ فأنا جعلتك سيدا!
وقضيّة الأجناس أنت أثرتها، فاقطع قيود الجنس واهتف منشدا” من قصيدة “إلى عامل” في كتاب “مع الفجر”.
2. “الإنجليز ثعالب
وتهبّ ريح وقحة حتّى لينطفئ السّراج.
والله هذي الرّيحُ أيضًا في الوقاحةِ إنجليز!” مقطع “العمّ سلامة” من قصيدة “الخيمة الصّفراء” من كتاب “صواريخ”.
3. “نيويوركُ: يا مستنقع الإثمِ حملقي
وزيرك يا شمطاءُ ضيَّعَ عقله”.
(وزيرك: المقصود دالاس وزير الخارجيّة الأمريكيّ آنذاك) من قصيدة “وحي العراق” في: “الأعمال الشّعريّة”
تسيرُ ميّتًا
تسالُ في التّليفونْ
هل ظلّ أصدقاءْ؟
تكرَهُ أن تغازلَ النّساءْ
فأكثرُ النساءِ من هنا
وأنتْ
لا تزالُ تعشَقُ البنتَ التي جاءَت من الصّحراءْ
تعيشُ في نيويوركْ
تكتبُ شعرًا حينما تجوعْ
أو حينما يموتُ الأصدقاءْ
وأصدقاؤُكَ انتهوْا
ماتوا يغازلونَ دولاراتهم
ماتوا بلا أسماءْ
لذا، تظلّ تكتبُ الشّعرَ
تموتُ بالشّعرِ
في مدينةٍ بدونِ أصدقاءْ”. قصيدة “في نيويورك” في “الأعمال الشّعريّة”.
إجمال:
طرحت الدّراسة تساؤلات حول علاقة الشّاعر راشد حسين بالمكان، وحاولت الإجابة عنها وإيجاد ميزات العلاقة ودلائلها. تقصّينا المكان بطريقة إحصائيّة، إذ قمنا بتعدادٍ كميٍّ- تقريبيٍّ للأماكن بفضاءاتها المختلفة وفحصِ دلالاتها. بعد جمع المعطيات قمنا بتفسيرها حسب الفكر الجدليّ وحسب الثّنائيّة الضّدّيّة، ووجدنا أن طرح الشّاعر للمكان ليس جدليًّا إنّما يشمل ثنائيّة ضدّيّة، ولإثبات ذلك وضعنا اقتباسات عديدة من نتاج راشد حسين الشّعريّ.
قائمة المراجع والمصادر
1. آبادى، موسى، وأصفهاني، محمّد. “دلالة المكان في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال”. إضاءات نقديّة، 7، 2012، 9-29.
2. باشلار، جاستون. جماليّات المكان. ترجمة: غالب هلسا. بغداد: دار الجاحظ، 1980.
3. جابر، كوثر. التّشكيل المكانيّ في الرّواية الفلسطينيّة. رسالة ماجستير. حيفا: جامعة حيفا، 2000.
4. حافظ، صبري. “مالك الحزين: الحداثة والتّجسيد المكانيّ للرّؤية الرّوائيّة”. فصول، 4(4)، 1984، 159-179.
5. حسين. أحمد. “أحمد حسين عن راشد حسين”. موقع دراسات في شعر راشد حسين، 1988، http://www.geocities.ws/rashidhosein/derasat.htm
6. حسين، راشد. الأعمال الشّعريّة. حيفا: كلّ شيء، 2004.
7. حسين، راشد. أنا الأرض لا تحرميني المطر. بيروت: الاتّحاد العامّ للكتّاب والصّحفيّين الفلسطينيّين، 1976.
8. حسين، راشد. صواريخ. النّاصرة: مطبعة الحكيم، 1958.
9. حسين، راشد. مع الفجر. النّاصرة: مطبعة الحكيم، 1957.
10. طه، إبراهيم. “صورة البطل الحديث في قصّة لمحمّد علي طه”. الكرمل- أبحاث في اللّغة والأدب 18-19، 1997-1998،301-330.
11. شوقي، أحمد. “قصيدة دمشق”. مدوّنة وين، 2019،
https://wain.me/culture-art/3218
12. عزّام، فؤاد. “بناء المكان في الخطاب السّرديّ”. المجمع، 2، 2010، 205-231.
13. عزّام، فؤاد. شعريّة النّصّ السّرديّ. حيفا: مجمع اللّغة العربيّة، 2012.
14. قاسم، سيزا. القارئ والنّصّ (العلامة والدّلالة). القاهرة: المجلس الأعلى للثّقافة، 2002.
15. قاسم، سيزا. “المكان ودلالته”. ألف، 6، 1986، 79-82.
16. لقريشي، عمّار، وفوّاز، معمري. “دلالة المكان في الشّعر الجاهليّ”. حوليّات الآداب واللّغات، 4(7)، 2005، 86-97.
17. مرين، عبدالله، وتحريشي، محمّد. “حداثة مفهوم المكان في الرّواية العربيّة”. مجلّة دراسات، 66، 2016، 141-148.
18. معجم المعاني www.almaany.com.
19. موقع الباحث http://www.baheth.info
20. مونسي، حبيب. فلسفة المكان في الشّعر العربيّ. دمشق: اِتّحاد الكتّاب العرب، 2001.
21. النّابلسيّ، شاكر. جماليّات المكان في الرّواية العربيّة. بيروت: المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، 1994.
22. هيبي، محمّد. القصّة القصيرة بين البحث والتّدريس. كابول: مطبعة الطّيرة، 2009.
23. ويلك، رينيه، ووارين، أوستن. نظريّة الأدب. ترجمة: محيي الدّين صبحي. بيروت: المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، 1987.
ملحق:
المكان كعنوان قصيدة: 63 قصيدة:
1. الفضاء الواسع: أسماء عامّة: قرية، مدينة، بلاد وغيرها، 12 قصيدة.
نشير أدناه إلى أسماء القصائد الّتي تحمل أسماء الأمكنة:
الحسناء والقرية – وردت القصيدة في ديوان “مع الفجر”
الحبّ والنّاس في القرية – في “قصائد فلسطينيّة”
ديوان قرية – في “صواريخ”
هي وبلادي – في “مع الفجر”
من بلادي – في “صواريخ”
إلى أطفال بلادي – في “صواريخ”
بلادي – في “قصائد فلسطينيّة”
رسالة من المدينة – في “قصائد فلسطينيّة”
الشّمس للأرض – في “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
هي الأرض – في “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
مع الأرض – في “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
إلى شرقيّة – في “مع الفجر”
2. الفضاء الفلسطينيّ: بلدات فلسطينيّة: 10 قصائد
القدس في عيني – في “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
القدس والساعة – في “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
إلى أورشليم – في “صواريخ”
عكّا والبحر – في “مع الفجر”
إلى حيفا – في “صواريخ”
رسالة من سجن الرّملة – في “قصائد فلسطينيّة”
ما زال في يافا – في “قصائد فلسطينيّة”
يافا مدينتي – إلى أورشليم – في “صواريخ”
يافا المشرّدة – إلى أورشليم – في “صواريخ”
إلى شعبي في الجليل – في “قصائد فلسطينيّة”
3. الفضاء العربيّ: بلدان وبلدات عربية: 14 قصيدة
حكاية من بردى – في “قصائد فلسطينيّة”
يوميات دمشق – حكاية من بردى – في “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
شموع دمشق – حكاية من بردى – في “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
أطفال دمشق – في “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
الحبّ كلّه يسهر في دمشق – في “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
مع لبنان – في “أنا الأرض لا تحرميني المطر”
برقيّتان من تلّ الزعتر – في “قصائد لم تنشر”
البرقية بعد الاخيرة – في “قصائد لم تنشر”
إلى ابن عمّي في الأردن – في “مع الفجر”
من آسيا أنا- في “صواريخ”
آسيا لن تموت – في “صواريخ”
وحي العراق – في “قصائد فلسطينيّة”
قصيدتان من العراق: الرّبيع في الموصل، والعرس في بغداد – في “قصائد فلسطينيّة”
4. الفضاء الغربيّ: أماكن غير عربيّة. قصيدة واحدة
ذكرت هذه الأماكن في سياقات سلبيّة، سيّئة، إشارة إلى مؤامرات وغيرها.
قصيدة “في نيويورك” في “الأعمال الشّعريّة الكاملة”
تجدر الإشارة إلى ورود أسماء أماكن غربيّة في عدّة قصائد، منها: أمريكا، روسيا، فرنسا، لندن، روما (مثل قصيدة “أزهار من جهنم” في ديوان “مع الفجر1957. 20-23) .
5. فضاء الواقع الفلسطينيّ: سجن، مخيّم، قبر، جهنّم وغيرها. 26 قصيدة
أزهار من جهنّم– في “مع الفجر”.
الخيمة الصّفراء– في “مع الفجر”..
بصقت دمًا– في “مع الفجر”.
الكفن– في “مع الفجر”.
مات غريبًا– في “مع الفجر”.
لاجئون– في “صواريخ”.
إنّه لاجئ– في “صواريخ”.
من لاجئ إلى أمّه- في “صواريخ”.
مقاطع من الخيمة الصّفراء – في “صواريخ”.
الغلّة الحمراء. – في “صواريخ”.
الباب المغلق. – في “صواريخ”.
ثائرون. – في “صواريخ”.
عرس الدّم. – في “قصائد فلسطينيّة”.
رسالة من سجن الرّملة. – في “قصائد فلسطينيّة”.
لاجئ وحمامة– في “قصائد فلسطينيّة”.
فتحي وأشياء أخرى: فتحي والشّمس، فتحي والعيد، فتحي والشّرق في “قصائد فلسطينيّة”.
خواطر سجين – في “قصائد فلسطينيّة”.
الحبّ والجيتو: يافا مدينتي، يافا المشرّدة، الفرن، الفرّان، في المحرقة، القبر والصّليب– في “قصائد فلسطينيّة”.
ثلاث قصائد: برقيّة من مخيّم، برقيّة من تلّ الزّعتر، البرقيّة بعد الأخيرة– في “قصائد فلسطينيّة”.
أتقدّم بالشّكر للدّكتور عصام عساقلة على مراجعة المقال لغويًّا، وتقديم بعض النّصائح ساهمت في بلورة الصّيغة النّهائيّة للدّراسة.
نشر المقال في:
في مجلة “المجمع” 15 ( 1441 / 2020 ،) 365 – 394- أكاديميّة القاسمي- باقة الغربية.