العظماء (16) الفدائيّة زينب الكفراويّ
تاريخ النشر: 14/10/20 | 8:31بقلم: علي هيبي
ولنا في غضب الغرب نشوة:
غضبت القوى الاستعماريّة: بريطانيا وفرنسا، وهي في طريق أفولها – بلا شمس وبلا رجعة – من انتصار الثّورة المصريّة، ثورة يوليو سنة 1952، وانتصار النّظام الوطنيّ العروبيّ بقيادة حركة “الضّبّاط الأحرار” وركنها البارز العظيم “جمال عبد النّاصر”، ومن إشراق أنوارها على مصر الّتي طالما تاقت للحرّيّة التّامّة والاستقلال الحقيقيّ. حظيت مصر بالتّحوّل من النّظام الملكيّ المتعفّن والمتذيّل للانتداب البريطانيّ إلى نظام حكم جمهوريّ، أعظم ما فيه أنّه يبغي التّحرّر من كلّ القيود الاستعماريّة سياسيًّا واقتصاديًّا، وأعظم ما في هذا النّظام الجديد أيضًا أنّه أحدث فينا – نحن العرب والشّعوب المقهورة – نشوة كبرى بإغضابه هذا الغرب المتوحّش والذي لا يشبع بمصر ولا بأفريقيا كلّها. لا حدود للجشع الاستعماريّ الكولونياليّ المتوحّش.
بدأت قوى الاستعمار تتحيّن الفرصة تلو الفرصة لإسقاط هذا النّظام الوطنيّ الذي جاء من صميم الجماهير العريضة، تارة بالإغراءات الاقتصاديّة والمساعدات الماليّة واشتراطها بالشّروط المذلّة، وطورًا بالتّهديد والقوّة، بقصد حرفه عن اتّجاهه الوطنيّ واللّارأسماليّ واعتماده على قدراته من خلال امتلاك ثرواته الّتي يملكها، مثل قناة السّويس وتعود إليه هو وليس لأيّ أحد آخر حقّ فيها، وبناء اقتصاد وطنيّ حرّ، لقد آمن “جمال عبد النّاصر” بأنّه لا يمكن ترسيخ أسس الثّورة وترسيخ دعائم الاستقلال السّياسيّ بدون تحقيق استقلال اقتصاديّ.
التّأميم والعدوان:
يوم السّادس والعشرين من يوليو سنة 1956، في خطاب له في الإسكندريّة وفي موقف عظيم قال الرّئيس العظيم: “باسْم الأمّة! تؤمّم الشّركة العالميّة لقناة السّويس البحريّة شركة مساهمة مصريّة، وينتقل جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات إلى الدّولة”. إلى مصر، لقد كان هذا القرار الوطنيّ بمقدار ما أثار الغرب وأغضبه جاء بمقدار أكبر ردًّا على عدم موافقة البنك الدّوليّ وبريطانيا لتمويل مشروع “السّدّ العالي” في “أسوان”، وبمقدار أعظم وأعلى جاء تعبيرًا وانتقامًا لمليون عامل مصريّ اشتغلوا في حفر القناة، في ظروف من السّخرة والعبوديّة والمعاملة السّيئة والجوع والعطش والأوبئة، مات منهم 120 ألف عامل، أليست القناة ملكًا لهؤلاء الشّهداء ووطنهم مصر الحبيبة! هل هناك من يستحقّ ملكها أكثر من هؤلاء العمّال والشّهداءّ! إنّ قرار الرّئيس بملكيّة هؤلاء العمّال للقناة تطبيق لمبدأ من لا يعمل لا يأكل! لكنّ هؤلاء العمّال عملوا وماتوا عملًا فأكلوا! فَ “صحّتين” وهنيئًا لهم، ومباركة عليهم وعلى مصر كلّها القناة وخيراتها وإيراداتها، فلنتذكّر! أنّ أوّل الإيرادات المادّية في السّنوات الثّلاث الأولى أرسلت دعمًا للجزائر المكافحة من أجل الاستقلال، لبلد الثّائرة “الجميلة بوحيرد” إيمانًا من الرّئيس العروبيّ “جمال عبد النّاصر” ومن مصر بالوحدة العربيّة من الخليج إلى المحيط مرورًا بفلسطين.
كان هذا القرار الشّجاع يعني إلغاء المُلكيّة الدّوليّة والامتيازات الفرنسيّة عن قناة السّويس، لقد أرادت فرنسا تمديد امتيازاتها لخمسين سنة أخرى، فقال “جمال عبد النّاصر”: “لا . . كفى”! لكن ليس هذا القرار وحده هو ما أغضب الغرب، بل كان للرّئيس المناضل “جمال عبد النّاصر” الكثير من الاتّجاهات التي لم ترق للغرب الغارب وصنيعته “إسرائيل” المولودة المدلّلة، أبرزها عدم تقبّل إسرائيل في المنطقة والعمل القوميّ على تحرير فلسطين، والاتّجاه الوحدويّ العروبيّ لتحقيق الوحدة العربيّة، والتّحوّل إلى الشّرق وبناء علاقات صداقة مع الاتّحاد السّوفييتيّ والمنظومة الاشتراكيّة والأنظمة الثّوريّة، واتّباع سياسة الحياد الإيجابيّ والوصول إلى بناء حركة “عدم الانحياز” سنة 1955. غضب الغرب! فليغضب الغرب! ولنا في غضب الغرب نشوات فرح وأحاسيس انتصار ومصادر افتخار.
العدوان الثّنائيّ العسكريّ المتوحّش لبريطانيا وفرنسا على مصر الثّورة كان الرّدّ الاستعماريّ المباشر، لماذا ليس العدوان الثّلاثيّ! لأنّه عندما تعوي الذّئاب الكبيرة والمسعورة والشّرسة لا أحد ينتبه لجرو صغير متذيّل “ينعوص” من الخلف، كلّ همّه اللّحاق بأمّه وأبيه والإمساك بذلٍّ بذلاذل ثيابهما الاستعماريّة الآيلة إلى الاهتراء والسّقوط. إنّه عدوان غربيّ استعماريّ ثنائيّ لذئبيْن جائعيْن كانا على شفا جرف من الوليمة الضّائعة أبرزا نيوبهما المسنّنة وبراثنهما الحادّة، لهما أطماع كبرى في الفريسة لافتراسها من جديد، لكنّ لحم الفريسة كان مرًّا هذه المرّة، ولا وقت ولا مكان في هكذا ميدان كبير لجرو صغير يتذيّل بقايا الموائد وفتات الصّحون وفضلات الذّئاب.
زينب التّلميذة الفدائيّة:
عندما امتدّت يد الظّلام الاستعماريّ: البريطانيّ والفرنسيّ وذيلهما إسرائيل على فجر الحرّيّة المصريّ السّاطع، سنة 1956 كان عُمر المناضلة “زينب الكفراويّ” خمسة عشر ربيعًا أخضر مونعًا بالكفاح والثّورة والقدرة على العطاء الوطنيّ وبلا حدود، كانت الثّورة هي الأخرى في عهد طفولتها لم تغيّر أسنان الحليب بعد، ولكنّ العدوان سريعًا ما نقلها إلى النّضوج والوعي والإحساس بالخطر، فاستبدلت أسنانها الحليبيّة بأنياب حديديّة وتسربلت فوق جلدها الحريريّ دروعًا سرابيل، حديديّة مصنوعة من تلاحم إرادة الشّعب مع عزيمة الجيش، من همّة الرّجال وإيمان النّساء، واعتمدت على السّلاح الإنسانيّ الشّرقيّ بيد الجيش الوطنيّ المصريّ الباسل كي يدحر الأذى الوحشيّ الاستعماريّ الغربيّ، وهناك سطّر الشّعب المصريّ والجيش المصريّ ملحمة بطوليّة أعادت إلى الأذهان ملحمة “ستالينغراد” حيث صدّ الجيش السّوفييتيّ والشّعب السّوفييتيّ أطماع النّازيّة الاستعماريّة في ملحمة تاريخيّة المعارك، أسطوريّة الإنجازات، “جابت هتلر والنّازيّة قاعدين” على الثّلوج الرّوسيّة البيضاء وظلّ الجيش الأحمر يلاحق الفلول النّازيّة حتّى برلين وعلى قمّة الرّايخستاغ الألماني دقّ العلم الأحمر المنتصر، كما كانت ملحمة “بور سعيد” حيث صدّ الجيش المصريّ والشّعب المصريّ القوى الاستعماريّة والتي “جابت بريطانيا وفرنسا وذيلهما قاعدين” على ركام أفولهما وحطام غطرستهما بين بيوت “بور سعيد” المهدّمة، الصّامدة والباسلة، هنا قاتلت التّلميذة الصّغيرة “زينب الكفراويّ” بنت الخامسة عشرة بين صفوف الفدائيّين المصريّين والقوى الشّعبيّة الثّائرة.
سنة 1940 ولدت طفلة رائعة اسمها “زينب” في مدينة “بور سعيد” لأب كان يعمل شرطيًّا في قسم “العرب” في المدينة، لخّصت “زينب” تربية أبيها لها بجملة واحدة “أبي علّمني الجرأة” وساعدها بالانضمام لمعسكر الحرس الوطنيّ والانخراط في العمل الفدائيّ، ومن ثمّ علّمت غيرها فيما بعد: “اغرسوا في أولادكم حبّ الوطن”. وتعلّمت أيضًا من موقف حدث مع أبيها، عندما ثار، كان يعمل كما ذكر من قبل “صول” بقسم “العرب”، أراد الإنجليز منعه من النّزول لعمله، فطلب من ابنته “زينب” إحضار السّلاح ليقتلهم، وعمّرت “زينب” البندقيّة لكنّه توقّف أمام صرخات أمّها وأختها، حتّى لا يشعل الإنجليز النّيران بالمنطقة كلّها.
كان ابن خالتها “حسن البطّوط” من رجال المقاومة الشّعبيّة، ممّا قرّبها للمقاومة والعمل الفدائيّ أيضًا، تقول “زينب” حول ظروف الكفاح الصّعبة: “كانت تمرّ أيّام ولا نجد طعامًا، ولكنّنا لم نمدّ يدنا للمعسكر الإنجليزيّ لنأخذ منه حتّى بسكويتة لطفل”، وكانت تسمع قصصًا بطوليّة عن رجال مصريّين بسطاء يكرهون الإنجليز، أبرزها قصّة تروي عن رجل مصريّ مرّت فوقه طائرة حربيّة إنجليزيّة، وبفطرة كفاحيّة خلع حذاءه ورشقها به، (سنأتي على ذكر “جزمة” جمال عبد الناصر بالعلاقة مع المعونة الأميركيّة، وعلى ذكر “جزمة خرشوف” في الأمم المتّحدة في سياق هذا العدوان الثّلاثيّ، والأحذية الوطنيّة لا تعدّ، مثل حذاء الصّحفيّ العراقيّ “منتظر الزّيديّ” الّذي “خلع” فيه الرّئيس الأميركيّ “جورج دبليو بوش” فأصابه بالرّأس فشكّل رأس الرّئيس وَ “فردة” حذاء “الزيديّ” حذاء كاملًا، وثمّة وابل من الأحذية انهال كالمطر على وزير الخارجيّة المصريّ “أحمد ماهر” في القدس الشّريف يوم 22/3/2003 بعد إجراء محادثات مع رئيس الحكومة الإسرائيليّة “أريئيل شارون” ووزير الخارجيّة “سيلفان شالوم” بهدف دفع “عمليّة السّلام”. للأحذية دور في المعركة، فرؤوس الكفر والخيانة الكبيرة كثيرة فانتعلوا “البساطير” وبلا سيور ليسهل خلعُها أيّها المقهورون!)
هذه الفتاة ابنة “بور سعيد” الباسلة التحقت سنة 1954 بمعهد المعلّمات، شجّعها أبوها على الانخراط في هذا النّشاط فالتحقت بكتائب الحرس الوطنيّ، وفي المدرسة تلقّت التّدريب على حمل السّلاح، من خلال وجودها كأحد أفراد الحرس الوطنيّ، كانت تذهب من السّاعة السّابعة للتّدرّب وتمضي في الثّامنة إلى معهد المعلّمات، وبهذا تكون “زينب الكفراويّ” أوّل فتاة مصريّة تنضمّ إلى المقاومة الشّعبيّة. ما أعظم المرأة حين تكون مقاتلة إلى جانب الرّجال المناضلين، تسير معهم كتفًا بكتف، وما أعظم هذا الكفاح الذي يتقاسم فيه الرّجال والنّساء الواجب الوطنيّ بمسؤوليّة وطنيّة وقدرات هائلة على التّضحية والفداء.
بطولاتها الفدائيّة:
برز دورها أثناء العدوان الّذي سمّوه ثلاثيًّا وأنا مصرّ على تسميته ثنائيًّا، ألقيت عليها مهمّة توزيع المنشورات لحثّ المواطنين على المقاومة، فكانت همزة وصل هامّة في خلق ذلك التّلاحم الكفاحيّ بين الجيش والشّعب، لقد كانت صورة رائعة ورائدة للتّلاحم الوطنيّ الثّوريّ والمقاتل بين الجيش والشّعب بقيادة القائد الشّعبيّ العظيم “جمال عبد النّاصر”. وقد شاركت في كثير من المهمّات الفدائيّة الخطيرة ونفّذتها بإحكام وسرّيّة تدلّ على خبرة في مناهج المقاومة الشّعبيّة، لقد ساهمت مساهمة كبيرة ومعقّدة ولعبت دورًا كبيرًا في إخفاء الضّابط الإنجليزيّ الذي أسره رجال المقاومة “مور هاوس”، وهو ابن عمّة الملكة البريطانيّة، ضابط مهمّ ولأسره دلالة رمزيّة وسياسيّة، كانت مهمّة “زينب” تكمن في التّحفّظ والسّرّيّة عليه. ساعدت أباها أيضًا في إخفاء مستندات في قسم الشّرطة، قد تطالها أيدي المخابرات الإنجليزيّة فيقع بعض الفدائيّين في خطر عظيم، استطاعت أن تخبّئها في مأمن حتّى رحيل القوّات البريطانيّة.
وفي العمل الميدانيّ استطاعت “زينب” أن تقوم بتنفيذ أخطر عمليّة لنقل الأسلحة والقنابل من مخبأ سرّيّ بِ “عزبة النّحّاس” إلى القوّات المصريّة والفدائيّين الذين لا يظهرون إلّا عند تنفيذ عمليّات ضدّ القوّات الغازية، كانوا يتمترسون في مخابئهم ويخرجون لتنفيذ المهمّات الصّعبة بسرعة وبطولة ونجاح، لقد أربكت هذه السّرّيّة التي شاركت فيها المناضلة الفدائيّة “زينب الكفراويّ” في إرباك العدوّ. تروي قصّة رائعة تميّزت بالجرأة والثّبات: “قدت عربة للأطفال جعلت الأسلحة والقنابل في قاعها الأسفل، وفوقها بعض الأغطية ووضعت طفلًا (هو ابن أختها) من فوقها، وأغطية أخرى فوق الطّفل، استوقفتني دوريّة بريطانيّة في شارع “رشيد”، إذ كان من الصّعب نقل الأسلحة بطريقة عاديّة لكثافة الجنود الإنجليز في الشّارع، تبغي الدّوريّة التّفتيش فاعترضت بصوت عالٍ على الطّفل النّائم بأصدق من صراخ أمّ على طفلها الّذي ولدته من بطنها، جابهت الجنديّ مظهرة جرأة غريبة فابتعد، وأكملت مشواري، سلّمت الأسلحة (10 قنابل وَ 4 رشّاشات) لعنوانها وأعدت الطّفل لبيت أختي وعدت إلى بيتي بسلام”، ليست القدرة والبسالة في حمل السّلاح والقتال فحسب بل في تأمينه والمحافظة عليه أيضًا، وهنا يكمن سرّ عظمة هذه الفدائيّة العظيمة “زينب الكفراويّ”، وفي مجال تأمين السّلاح والحصول عليه لابدّ أن نذكر أنّ لها كفتاة تمتلك القدرة على الحركة والاختفاء حملات بين النّاس للتّبرّع للجيش وسائر المقاتلين بكلّ ما استطاع هؤلاء الفقراء والبسطاء، فتنجح تحت شعار بسيط يخاطب وجدانهم وضمائرهم الطّافحة بحبّ “أمّ الدنيا” مصر المحروسة والحقد على أعدائها الاستعماريّين، “سلّح جيش أوطانك واتبرّع لسلاحه علشاني وعلشانك”. وفي عمليّة أخرى قامت وبجرأة كبيرة بإحضار سلّم نقّال وصعدت به إلى سطح منزل مجاور لمنزلهم فى “حيّ العرب” وخبّأت القنابل والأسلحة في سرير حماة خالتها النّحاسيّ، كانت عجوزًا مريضة، ثمّ عادت لمنزلها بنفس الطّريقة، وكأنّ شيئًا لم يحدث. جاء المحتلّون وبحثوا عن الأسلحة ولم يجدوا شيئًا، لأنّني كنت خبّأتها في “صندلة” لتخزين الأواني النحاسيّة كي لا تكتشفها أجهزة اللّاسلكيّ الإنجليزيّة الحديثة، لأنّ النّحاس يعطّل عمل أجهزة اللّاسلكيّ.
الجلاء الحقيقيّ وأيقونة المقاومة:
إذا كان انتصار الثّورة في يوم 23 يوليو سنة 1952 أمّن جلاء آخر قدم بريطانيّة استعماريّة همجيّة عن الثّرى المصريّ الطّاهر، فإنّ يوم 23 فبراير سنة 1956 كان يوم الجلاء الحقيقيّ، ولقد اكتمل ذلك بانسحاب القوّات الفرنسيّة والبريطانيّة الغازية بعد ملحمة الصّمود المصريّ في مدينة “بور سعيد” الباسلة ومدينة “السّويس” الصّامدة إثر العدوان الثّنائيّ الوحشيّ، لقد تحقّق هذا الإنجاز الوطنيّ الكبير والنّصر المؤزّر بفضل أناس، مواطنين مصريّين بسطاء طيّبين وعظماء، يحبّون بلادهم ويكرهون أعداءها من أمثال المواطنة المصريّة العظيمة “زينب الكفراويّ”، ولكن هناك الكثير من الأسماء العظيمة، أمّا الذين ظلّوا على قيد الحياة حتّى عام 2020 فليسوا كثيرين، اثنان غير “زينب” هما “أحمد هلال” وَ “محمّد مهران”، لهم منّا جميعًا ولسائر المناضلين والفدائيّين والجنود وأهالي بور سعيد والسّويس والإسماعيليّة وكلّ من سقط من المصريّين شهيدًا على ثرى مصر الطّاهر ودفاعًا عنه ولكلّ من قدّم قطرة ماء أو رغيف خبز أو حبّة دواء لمقاتل، لهم منّا أسمى آيات الاعتراف بفضلهم الكفاحيّ وكبريائهم الوطنيّ وعظمتهم الخالدة على طول الزّمان. لقد لقّبت “زينب الكفراويّ” بحقّ “أيقونة المقاومة الشّعبيّة” كأوّل سيّدة تنضمّ إلى جبهة المقاومة الشّعبيّة. لقد تحوّل ذلك اليوم 23/2/1956 إلى عيد وطنيّ تقليديّ يلتقي فيه القائد العظيم “جمال عبد النّاصر” كلّ عام مع “زينب الكفراويّ” ورجال المقاومة الشّعبيّة ويكرّمهم كما كرّموا مصر بنضالاتهم البطوليّة الخالدة.
الكاتبة “فاطمة ناعوت” في “المجلس القوميّ للمرأة” عندما كُرّمت المناضلة الجزائريّة “الجميلة بوحيرد” في مصر سنة 2018 بحضور المناضلة الفدائيّة العظيمة “زينب الكفراويّ” وصفتها بإنّها نمرة بور سعيد الشّرسة وأوّل سيّدة مصريّة يسجّل اسمها في قوائم الفدائيّين، قالت: “عندما احتضنت “زينب الكفراويّ” احتضنت امرأة بحجم أربع دول: مصر الوطن وثلاث دول باغية من أعداء الوطن: بريطانيا وفرنسا وإسرائيل”، في هذا اللّقاء اجتمعت “جميلة” الجزائر مع “زينب” مصر، فما أعظم هذا اللّقاء بين المناضلتيْن! وما أعظم دلالاته الثّوريّة والوطنيّة والعروبيّة!
لقد كرّم “زينب الكفراويّ” بكرامتها الوافرة والأصيلة الرّئيس الذّليل “عبد الفتّاح السّيسي” لأنّ “زينب الكفراويّ”، لم تحنِ رأسها الشّامخة أمام عدوّ، أمّا الرّئيس “السّيسي” فلم نره برأس شامخة إطلاقًا، بل كانت رأسه مطأطئة دائمًا لأنّه أحناها حقيرًا أمام كلّ عدوّ، ظهْرُ “زينب الكفراويّ” لم يكن مطيّة للعدوّ ليعبر عنه ولينفّذ أطماعه وبرامجه في أوطاننا، أمّا ظهْر الرّئيس “السّيسي” فقد تعوّد الانحناء للأعداء فامتطوا وعبروا ونفّذوا كلّ برامجهم، وآخرها “صفقة القرن” الصّهيو – أميركيّة، ولن يزيد الثّوّار الحقيقيّين كَ “جميلة بوحيرد” وَ “زينب الكفراويّ” تكريمُ رؤساء أذلّاء بلا مواقف وطنيّة مشرّفة وبلا رؤوس شامخة نحو علا الكرامة القوميّة. الرئيس “السّيسي” الدّكتاتور العسكريّ المصريّ الجديد يقف أمام 1200 من الشّبّان في مدينة “الإسماعيليّة” سنة 2016 على هامش مؤتمر الشّباب ليكرّم “زينب الكفراويّ”، وقد كرّم من قبل المناضلة الجزائريّة “جميلة بوحيرد”، إنّ هؤلاء الزّعماء الإذلّاء يتمسّحون ويتذيّلون بعظمة المناضلين المحترمين، كي يستفيدوا منهم، ولو كانوا يؤمنون بنهجهم الكفاحيّ لما أطاق “السّيسي” أن يرفرف العلم الإسرائيليّ في سماء القاهرة، كما لم تطق “الجميلة” علم فرنسا في الجزائر، وكما لم تطق “زينب” علم بريطانيا وفرنسا في مصر، وكما قال المناضل اللّيبيّ العظيم “عمر المختار” للضّابط الفرنسيّ الأسير عندما سلّمه علم إيطاليا الاستعماريّ: “خذ هذا العلم سلّمه لقائدك ليس في ليبيا مكانه”!
انخراط في الحياة ومواقف مشرّفة:
بجلاء العدوان الثّنائيّ خاسئًا عن مصر الثّورة بعد معركة شعبيّة عظيمة خاضها الشّعب المصريّ وجيشه الوطنيّ وبعد ضغوط دوليّة، كان أبرزها الموقف السّوفييتيّ المؤيّد لمصر والتّهديد بالتّدخّل العسكريّ وضرب باريس ولندن بالسّلاح النّوويّ، وكذلك كان لموقف الولايات المتّحدة في طلب الانسحاب من قوى العدوان، ليس حبًّا في المصريّين وليس تأييدًا للنّظام المصريّ والحقّ المصريّ، بل لتجد لنفسها مدخلًا استعماريًّا جديدًا يحلّ محلّ قوى الاستعمار التّقليديّة الآيلة للسّقوط والاندثار، وكان موقف الدّول العربيّة وفق قرارات قمّة بيروت سنة 1956 مؤيّدًا لمصر.
خرجت مصر ونظامها الوطنيّ أكثر التصاقًا بحياة الجماهير، وخرج قائدها العظيم “جمال عبد النّاصر” أكثر شعبيّة بين الشّعوب العربيّة والشّعوب المقهورة، وأكثر إدراكًا للغرب وسياساته الخبيثة، وأكثر رغبة في تعزيز العلاقات مع الشّرق والمنظومة الاشتراكيّة، وأكثر إرادة وتصميمًا على تحقيق الحُلم العربيّ القوميّ بالوحدة، وأكثر إيمانًا بتحرير فلسطين العربيّة. لقد كان لهذه الحرب على مصر تأثير كبير على تحديد مستقبل التّوازن الدّوليّ وأفول القوى الاستعماريّة القديمة وتألّق قوى جديدة مثل الولايات المتّحدة الأميركيّة، لقد أدّت هذه الحرب إلى استقالة رئيس الوزراء البريطانيّ “أنطوني آيدن” ومثّلت نهاية لكون بريطانيا واحدة من القوى العظمى. فإلى الجحيم أيّها العدوان المتوحّش والاستعمار الأسود.
أمّا في بور سعيد الباسلة والمنتصرة فقد أضاءت شموع “عيد النّصر” يوم 23/12/1956. “زينب الكفراويّ” تعيش كلّ هذه الأجواء البهيجة بفرح المقاتل المنتصر وفرح الوطن السّعيد، تعود لمزاولة عملها مدرّسة في مدرسة “المعلّمات” لخمس سنوات، وتتزوّج وتنجب وترسل في بعثة إعارة تعليميّة إلى الجزائر، بعدها تعود إلى مصر وتزاول انخراطها السّياسيّ والإعلان عن مواقفها السّياسيّة، وكم غمر وجدانها الحزن عندما انتكست مصر في حرب حزيران سنة 1967، ولكنّها لم تفقد توازنها الذي تعوّدنا عليه من مواقف صعبة سابقة في نقل السّلاح وتوزيع المناشير والتّحفّظ على الأسير، وفي جوابها حول سؤال وجّه إليها حول الهزيمة واحتلال “سيناء” قالت: “الجنديّ المصريّ لم يدخل المعركة، ولذا حصلت إسرائيل على نصر لا تستحقّه، وحصلت مصر على هزيمة لا تستحقّها، بل وتوهّم البعض أنّ مصر ماتت! ولكن غاب عنهم أنّ مصر قد تتعثّر ولكنّها لا تتوقّف وقد تمرض ولكنّها لا تموت”، وتمرّد الشّعب المصريّ وثار على جراحه وعلى العدوان وأعاد القائد المستقيل إلى كرسيّ الرّئاسة وعاهده بصوت واحد وعالٍ “حَ نحارب”، وبدأت رحلة المجهود الحربيّ لتشمل كلّ المصريّين والعرب. وعندما وقف الشّعب المصريّ في ثورة 30 يونيو، تصدّرت “زينب الكفراويّ” الميادين مع المتظاهرين لإزهاق الباطل “حسني مبارك” وتمديده وتوريثه، كانت تصرخ مع الملايين: “ارحل”. وخلال إعلان “بور سعيد” العصيان ضدّ حكم “الإخوان المسلمين” في 22/3/2013 عادت إليها شخصيّة المقاوِمة وظهرت بين المتظاهرين في ميدان “الشّهداء”.
موتها حياتها:
ماتت المناضلة المتماوتة يوم السّادس من مارس سنة 2020 عن عمر ناهز الثمانين عامًا، ليس ثمّة من مصدر يذكر تاريخ ولادتها، بل إنّهم يبدؤون جميعًا من كونها ابنة الخامسة عشر، السّنّ التي فيها بدأ نشاطها البطوليّ المقاوم للغزاة، ولكنّ المرجّح أنّها ولدت في إحدى السّنوات من (1939 – 1941) كان محافظ “بور سعيد” اللواء “عادل الغضبان” أوّل من نعى الفدائيّة البطلة، ابنة المدينة الباسلة، وقال: “ستظلّ مصدر فخر وعزّة لنا جميعًا بتضحياتها وبطولاتها ولكافّة الأجيال، فهي مثال للوطنيّة ورمز للفداء من أجل تراب مصر، سنكتب سجلّ نضالها بحروف من ذهب”، وكانت المحافظة قد تكفّلت بجميع مصاريف علاجها وحاجاتها أثناء مكوثها في المستشفى حيث زارتها هناك وزيرة الصّحّة “هالة زايد”، وأطلق اسمها على أحد ميادين “بور سعيد” تخليدًا وتكريمًا لمسيرتها الكفاحيّة. وكذلك نعتها “د. مايا مرسي” رئيسة “المجلس القوميّ للمرأة”، فعبّرت عن حزنها وحزن أعضاء المجلس الشّديد لفقدان البطلة المناضلة وقالت: “إنّ ذكراها ستبقى محفورة في قلوبنا، وسيذكر التّاريخ تضحياتها وبطولاتها بالتّصدّي للعدوان الغاشم”.
لم أعثر على أعمال فنيّة أو أدبيّة تناولت حياة الفدائيّة “زينب الكفراويّ”، ولكن يذكر أنّ الرّوائيّة المصريّة “سكينة فؤاد” في روايتها “ليلة القبض على فاطمة” جسّدت شخصيّة “زينب الكفراويّ” الحقيقيّة من خلال الشّخصيّة الرّوائيّة “فاطمة”، وقد تحوّلت إلى فيلم سينمائيّ سنة 1984 من إخراج “هنري بركات” ولعبت دور شخصيّة “فاطمة” أي بطولة الفيلم سيّدة الشّاشة العربيّة الفنّانة “فاتن حمامة”، وشاركها كبار الممثّلين المعروفين في السّينما المصريّة: شكري سرحان وصلاح قابيل، وألّف الموسيقى التّصويريّة الفنّان “عمر خيرت”. وكذلك أنتجه التّلفزيون سنة 1982، كمسلسل من 15 حلقة، قام بإخراجه “محمّد فاضل”، ولعبت دور “فاطمة” فيه الممثّلة “فردوس عبد الحميد” وإلى جانبها كوكبة من مشاهير الفنّانين: “أمينة رزق، هالة صدقي، يوسف شعبان، فاروق الفيشاوي، ممدوح عبد العليم وصابرين”، وقد ألّف موسيقاه التّصويريّة الفنّان “عمّار الشريعي”.
هذه الفدائيّة العظيمة أعطت للموت وسامًا ليبقى خالدًا بوسامها، هذه المناضلة العنيدة عاشت بذكاء ثوريّ وثبات كفاحيّ، لقد كانت حياتها خلال العدوان الغربيّ سنة 1956 لحظة بلحظة بين القنابل المتفجّرة والرّصاص المنهمر، تتعرّض للموت بلا خوف، وبلا فرار إلّا للأمام حيث السّلاح يحمي الفدائيّين وحيث المنشور يحرّض المواطنين وحيث اللّقمة تطعم الجائع وجرعة الماء تروي الغليل وحبّة الدّواء تشفي العليل، حياتها وموتها يتسابقان على مكانة الوطن ولنيل الخلود.
هذه الفدائيّة العظيمة ماتت أم تماوتت جسدًا، سيبقى اسمها العظيم وروحها العظيمة نفحات طهر وكفاح تنتثر لتعبق بها الأجواء الرّحيبة رحابة السّماوات والأمكنة المترامية ترامي الجهات والأزمنة الممتدّة امتداد الأبد، سيبقى تاريخها مناهلَ عِذابًا ينهل منها السّالكون في مدارج الشّرف والمجد والحقّ، سيبقى نضالها مرشدًا يهدي التّائهين من الرّؤساء وغيرهم إلى الهدى الوطنيّ والكرامة القوميّة التي يدنّس أجواءها العلم الإسرائيليّ وتدنّس أرضها السّفارة الإسرائيليّة، سيبقى مسارها الفدائيّ صوتَ رسولٍ هاتفًا، ينادي من فوق جبل أولئك الذين انسحقت كرامتهم في قصور/ قبور الذّلّ والهوان والخيانة، أولئك الذين كفروا بأمجاد أمّتهم وباعوا تراثها الرّوحيّ وثرواتها المادّيّة وبطولاتها الثّوريّة وأمجادها العظيمة بثمن بخس لأبرهة الأشرم وترامب الأهوج، وفرّطوا بمقدسّاتها العظيمة، مقدّسات الأمين محمّد وعيسى المسيح ليهوذا الإسخريوطيّ وبيلاطس البنطيّ ولأبي جهل القرشيّ وحمّالة الحطب أمّ لهب التي في جيدها حبل من مسد.
ووصيّتها خلودها:
سأنهي بمقولة للكاتبة “فاطمة ناعوت” قالت: “قبل رحيلها عن عالمنا إلى دار الخلود، أوصتنا “زينب الكفراويّ” بالاهتمام بالشّباب والنشء، لأنّ الشّباب هم الحلقة الأضعف التي يستغلّها العدوُّ للنّفاذ إلى قلب مصر. أوصت بالاهتمام بهم وعدم تركهم لبراثن المخدّرات أو شرَك الابتعاد عن لغتهم وتراثهم التّاريخيّ البطوليّ وهويّتهم المصريّة، كما أوصت بالاهتمام بالمرأة لأنّها تربّي أولئك الشّباب وتصنع منهم رجالًا يحمون الوطن. تحيّة احترام للنَمِرة البورسعيديّة التي أثبتت أنّ المرأة المصريّة جيشٌ باسلٌ، بعزيمتها ووطنيّتها ووعيها. أستاذتي الجميلة “زينب الكفراويّ”، ارقدي في سلام وانعمي بفردوس الله الأعلى، فقد أدّيتِ دورَك نحو وطنك الطّيّب. الدّينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن”. وَ “الدّين لله والوطن للجميع” كما قال شيخنا الفلسطينيّ الشّهيد “عزّ الدّين القسّام”.
وأختم بما يليق بهذه الفدائيّة والمكافحة المتميّزة الّتي فيها من طهارة مريم البتول: “أيّتها القدّيسة “زينب الكفراويّ” نامي واطمئنّي واستفيقي وكلي واشربي وقرّي عينا، ولكن لا تموتي”!