في بلدتنا ضبعة
تاريخ النشر: 18/10/20 | 9:43قصّة قصيرة
بقلم: نعمان إسماعيل عبد القادر
يُحكى أنَّه كان في بلدتنا ضبعة، والضّباع كثيرة كما هي في كل البلاد.. لكن ضبعتنا هذه، تختلف عن باقي الضِّباع.. فهي أشدُّ الضِّباع شراسةً وأكثرها خباثةً وفتكًا، وتتميّز باعتيادها دائمًا تمزيق لحم ضحيتها بأسنانها الحادةِ بعد استدراجها ثم خنقها وموتها بعد أن تلفظَ آخر أنفاسها، ليس مثلما تفعل باقي الضباع. واعتادت أنْ تعوي كلّ مساء منذ أن وصلت إلى بلدتنا عواءً قويًّا مخيفًا، قُرب أطراف القرية قبل أن تهاجمها، بحيث تجعل الناس رجالا ونساءً يلتزمون منازلهم بعد أن تغيب الشمس بقليل فيسود الصمت؛ لأن عواءها مُروّع ليس للأطفال والنساء والرجال فحسب، بل للشيوخ أيضًا. هكذا خُلقت الضّباع، وهذه هي طبيعتها.. ويقول عنها المثقَّفون والفلاسفةُ المتحضِّرون: “هي أسوأ ضباع الأرض على الإطلاق”.. وصارت حديث النّاس في المنازل والمقاهي، ثم راحت النّسوة تهدّد أطفالها بإحضار الضّبعة إِنْ لم يناموا، أو إِنْ لم يسمعوا كلام أمهاتهم. وحيكت عن تلك الضبعة قصص غريبة وكثيرة.
ذات يومٍ اختفت الضبعة عن الأنظار، واختفى معها شرّها. فقال الرعاة والحدّادون والنّجارون وحتّى الأطبّاء في قراراتِ أنفسهِم بفرحٍ كبيرٍ: “مراتٍ ومراتٍ كانت تعتدي تلك الضّبعة على خرافنا وتأكل في كلّ يومٍ خروفًا، وها نحن نشعر الآن بالارتياح الشّديد منها. لقد خسرنا من ورائها خسائر فادحةً. لعلها قُتلت أو انتحرت. أراحنا الله منها ومن شرّها.
لكنَّ فرحتهم هذه لم تدم سوى سنة ونصف السّنة إذ عادت بعشرة جراء..
والجِراء العشرة تحتاج إلى طعام كثير، فقد شوهدت الضبعة وهي تفترس حصانًا كان يرعى في البريّة، ثم اندفعت جراؤها نحو الفريسة وراحت تمزّها بشراهة كبيرة دونما رحمة.
واعتاد شيخُ المسجد، في كلّ يوم جمعة أن يفتتح خطبته بعد أن يحمد الله ويصلي على النبيّ وعلى سائر الأنبياء، ثمَّ يدعو الله سبحانه وتعالى أن يهلكها وجراءها شرّ هلاك، ثم يعود ويختتمها بالدعاء والتوسل من الله الخلاص منها.
قال أحدهم ذات يومٍ بعد صلاة الجمعة مباشرةً: “أي شيخ هذا الذي يدعو الله منذ سنوات طويلة ولا يستجيب الله دعاءه، لو كان الناس فيهم ذرّة حياء لطالبوا برحيله فورًا”.
لم يكد الرجلُ ينهي كلامه حتى انهالت النّاس عليه تذمّه وتعزّره وتتهمه بتجاوز الحدود وعدم احترام قدسية الشيخ المبجّل. حتى أنَّ أحدهم قال له بصوت عالٍ: “لو أن كلّ الناس الذين هم على شاكلتك، يخافون الله ويتّقونه حقّ تُقاته، عندئذٍ يستجيب الله الدعاء، ويخلّصنا من كلّ الضباع الذين هم كَأَمْثالك”.
نظر أحدهم إليه، ويُدعى “حَليمًا”، نظرة متفحّصةً بازدراء ثم قال في قرارةٍ نفسه: “لو كان مجتمعنا خاليًا من جميعِ الناسِ الّذين هم على شاكلتك أنتَ، لأصبحَ المجتمع بألف خيرٍ”. ثمَّ سار في طريقه.
ذاتَ مساءِ خميسٍ، سمعَ الناسُ عُواءَ الضَّبعة وجرائها، فالْتزمَ الشيخُ وأولادُهُ وأعوانُهُ بيوتهم مثلما يلتزم باقي النّاس البسطاء بيوتهم. أمّا “حليم” فقد جمع أصحابه وقام يخطب فيهم بحماسٍ شديدٍ ويقول: ” أيها الناس!! من كان منكم يرضى لنفسه أن يعيش مثلما تعيش الماشيةُ، فليذهبْ إلى بيته لينامَ حالاً؛ لأنّنا إذا لم نتخلص من هذه الضّبعة هذه الليلة قبل أن تكبر جراؤها، فمن المؤكّدِ أنَّ الضّباع ستأكل كل مواشينا ثم تقضي علينا جميعًا.. ولا بدَ لنا منْ أنْ نتكاتفَ ونقضيَ عليها قبلَ أنْ تقضيَ عَلينا”.. هتفت حناجر المتجمهرين بصوتٍ واحدٍ قائلينَ: “وَنِعْمَ الرَّأيُ رأيكَ يا حليم”.. وانطلقَ الرِّجالُ يحملونَ فُؤوسهم ومَعاولهم وعصيهم على أكتافهم ورفعتِ النسوةُ المشاعلَ وانْطلقوا إلى حيثُ تعوي الضّباع وانقضّوا عليها ولم يبقوا منها أحدًا.
وفي اليوم التّالي: “وقفَ الخطيبُ يخطب في الناسِ بحماسٍ ويقول: “يا قوم!! لقد استجابَ اللهُ دعاءَنا وَسخَّرَ لنا جنودًا لم نروْها وخلَّصَنا منَ الضِّباعِ جميعًا…”.
لكنّ الشَّيخَ لم يعلم أن الأرواح قد تتناسخ في بعض الأحايين. وروح الضَّبعة وأرواح جرائِها لم تمت، ولن تموت، ولكنَّها انتقلت من تلك الأجساد إلى أجساد أخرى، ثم راحت تفترس فرائسها بالخفاء…