الشرق الأوسط في حقبة ما بعد ترامب
تاريخ النشر: 21/10/20 | 18:00د. جمال زحالقة
تخيّم على عواصم دول الشرق الأوسط حالة من الترقّب والتأهب، بانتظار الانتخابات الأمريكية، التي ستجري في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ومهما كانت النتيجة، ستؤثّر هذه الانتخابات في حالة ومكانة النخب والدول في المنطقة، وذلك بسبب وزن الولايات المتحدة العسكري والسياسي والاقتصادي، وقدرتها على استمالة او استدعاء أطراف فاعلة ووازنة، وتدخلها في عمق بعض القضايا، ولا مبالاتها تجاه قضايا كثيرة مهمّة.
وتنقسم النخب السياسية في المنطقة في الموقف من المرشحَين، ففي حين يرغب الحكّام في تل أبيب والرياض وأبو ظبي والقاهرة وربّما أنقرة في بقاء ترامب، تتوق القيادات في طهران وبيروت والدوحة ورام الله (وغزّة أيضًا) إلى فوز بايدن وإنهاء حقبة ترامب.
يبدو أن جو بايدن في طريقه للفوز برئاسة الولايات المتحدة، إلّا إذا حدثت في الأيام القليلة المقبلة تطورات «سحرية» تؤدّي إلى بقاء دونالد ترامب في البيت الأبيض، وهذا ليس مستحيلًا لكنّه مستبعد جدًّا. وفي حين أن سياسات ترامب الشرق أوسطية معروفة ومتوقّعة إلى حد كبير، بناء على أدائه في السنوات الأربع الماضية، فإن توجهات بايدن لا تزال في حالة إعلان نوايا، ولم تنزل بعد إلى أرض الواقع، ومنها ما هو مبلور وواضح المعالم، ومنها ما هو ليس كذلك. ويشار إلى انتقاد بايدن الأكثر تكرارا لسياسة ترامب الخارجية، بأنّها غير متماسكة وغير منطقية ومتخبّطة وضبابية، ولذلك هو يسعى الى نهج مختلف يصفه بأنه متماسك ومبلور وواضح وشفّاف. سياسات ترامب مكشوفة وواضحة، فما هي سياسات بايدن في الشرق الأوسط؟
بات من المؤكّد أن بايدن سيعيد الاعتبار للاتفاق النووي مع إيران، وسيضع «صفقة القرن» على الرف، وسيقف ضد الاستيطان والضم، ويعيد العلاقة مع القيادة الفلسطينية، ويعمل على لجم جنون بن سلمان، ويسعى للمصالحة في الخليج. سياسته ستكون مخالفة لنهج ترامب، وقريبة من تراث باراك أوباما، ولكنها لن تكون استمرارا مباشرا له. لا يحمل بايدن معه الكثير من الجديد، وهو ملتزم بالسياسات الأمريكية التقليدية، التي حاد عنها ترامب، وهو يريد إعادتها الى سكّتها، التي كانت أصلًا معادية لمصالح شعوب المنطقة، ومرتبطة بقوى الاستبداد والاستغلال والنهب والفساد والتخلّف.
يمكن تقدير سياسات بايدن بأنها اقتراب من أوباما وابتعاد عن ترامب، مع الأخذ بعين الاعتبار، عوامل جديدة وعوامل ليست جديدة، لكنّها ما زالت فاعلة ومؤثّرة ومنها: أولًا، وصول الولايات المتحدة الى الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة، من خلال التقنيات الحديثة والنفط الحجري. وثانيا تنامي المخاوف من التغلغل الصيني والروسي. وثالثًا القناعة بانّ إيران قريبة من الوصول إلى قدرات نووية. ورابعا الاعتراف بأن إمكانية التوصل الى تسوية للقضية الفلسطينية في الظرف القائم قريبة من الصفر. وخامسا، تزايد التحركات العسكرية وتوسّع الامتداد التركي في اتجاهات ومواقع متعددة، وسادسا استمرار التوتر والحروب الأهلية، وسابعا وليس أخيرا، المخلفات «المؤذية» لممارسات إدارة ترامب.
يسير جو بايدن باتجاه مواصلة الانسحاب الأمريكي من المنطقة، ولكن بحذر شديد منعا لأن يؤدّي الاستعجال إلى خسارة في النفوذ والمصالح، وإلى إضعاف الحلفاء. وهو يريد ان يبقى من التواجد العسكري والأمني ما يلزم لعدم حدوث تدهور في الوضع الراهن. من حيث المبدأ، يتبنّى بايدن الموقف المعلن لأوباما «لا أحذية على الأرض» ( (no boots on the» groundولكنّه لا يستطيع الالتزام بذلك تمامًا، كما لم يلتزم أوباما نفسه. إضافة لذلك، لا يستطيع بايدن أن يتجاهل أن غالبية ساحقة من الجمهور والنخب الأمريكية، تعارض التدخل العسكري في الشرق الأوسط، بعد التجربة المريرة في أفغانستان والعراق. سياسة الولايات المتحدة في التدخل العسكري وفرض العقوبات لم تثبت نفسها. القدرات العسكرية الهائلة للولايات المتحدة كفيلة بهزيمة جيوش نظامية، لكنّ أمريكا تتورّط على أرض الواقع في الحروب الأهلية، التي لا تنتهي. هي تفرض عقوبات اقتصادية قاسية وصعبة، لكنّها عاجزة عن تحويلها إلى إنجاز سياسي، سواء بتغيير نظام، أو تغيير سياساته. بايدن لا يريد العودة الى أخطاء وفشل الماضي، ويفضّل سياسة التعاون والإغراءات على سياسة التدخل والعقوبات.
ولو أن بايدن مختلف عن ترامب، إلّا أنّه لن يأتي بتجديدات كثيرة مقارنة بباراك أوباما. ومع ان الولايات المتحدة أقوى دول العالم، إلا انّها لم تستطع في كل الحالات فرض قرارها على الشعوب وعلى النخب السياسية. وإذا فشل ترامب في الضغط على القيادات الفلسطينية والإيرانية، فما من سبب للاعتقاد بأن بايدن سينجح في ضغطه لإملاء مواقفه على السعودية وإسرائيل. المطامع الأمريكية في المنطقة لم تتغير جوهريًا، ما يمكن أن يتغير هو الأسلوب والاستراتيجيات، وهذا مهم بحد ذاته، لكن الأهم بالنسبة لمن ينشد العدالة أن يبني أساليب جديدة تتلاءم والتحديات التي تفرضها إدارة ما بعد ترامب، مع إعارة انتباه إلى ارتفاع مكانة وتأثير التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي، الذي يجب التعاون معه كرافعة للضغط على الرئيس الجديد.