العظماء 18 الأسد الشّيخ عمر المختار
تاريخ النشر: 15/11/20 | 13:05 بقلم: علي هيبي
خواطر قد تشكّل مدخلًا:
أفلاطون والمُثُل:
وفقًا لقدراتي المتواضعة والبسيطة على الاستيعاب، ما استطعت فهمه من نظريّة “المُثُل” للفيلسوف اليونانيّ القديم “أفلاطون”، أنّه قسّم الوجود إلى قسميْن اثنيْن: الفوقانيّ السّماويّ والتّحتانيّ الأرضيّ وبنى نظريّته على أنّ كلّ الموجودات الأرضيّة وأرقاها الإنسان تماثل أندادًا لها في السّماء، ولكنّها لا تساويها بالقدر، فليس الإنسان وهو أعلى الموجودات الأرضيّة بقيمة الله أعلى ما في السّماء، ولذلك العالم الأرضيّ ما هو إلّا تقليد للعالم الأصليّ السّماويّ، ومن هنا حكم “أفلاطون” على الشّعراء أن يغادروا “جمهوريّته” أو يسكنوا في حضيضها وفق هذه الرّؤية، لأنّهم لا يقلّدون الأصل بل يقلّدون التّقليد بكتابتهم للملاحم والمسرحيّات التي تشكّل الشّخصيّات الإنسانيّة المتخيّلة والإلهيّة صميمها، إذن ما يقوم به الشّعراء هو تقليد التّقليد. وقد يقول قائل: تكتب عن الأسد الشّيخ “عمر المختار” فما علاقة ذلك بالمُثُل وَ “أفلاطون”؟ “طيّب” سنرى!
يتربّع الغرب والولايات المتّحدة رأسُه، على رأس العالم بالقوّة العسكريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة وبمشاريع الهيمنة على الثّروات العالميّة وكأنّها من حقّه، وباستعباد الشّعوب والعبث بمقدّراتها وكأنّ الشّعوب في الشّرق ما هي إلّا عبيد له، وباستغلال كلّ ما يدرّ أرباحًا ماليّة من عرق تلك الشّعوب ومن دمائها وعلى حساب لقمتها الكريمة، غير آبه ذلك الغرب المتوحّش الذي يتمظهر بوجوه إنسانيّة وديمقراطيّة وحرّيّات كاذبة إلّا بأطماعه، وإذا كان هذا الغرب/ الوحش الأميركيّ بامتياز هو الرّأس فما إسرائيل إلّا ذيل للوحش ذاك. أين الملوك والرّؤساء العرب في هذا السّياق الحيوانيّ؟ فإذا أقبل الحكّام العرب على التّطبيع مع إسرائيل ورموْا من وراء ظهورهم وأمام عيون إسرائيل “الذّيل” وأمام مشاريع أميركا “الرّأس” قضيّة القضايا فلسطين، وهم إذ يقبلون على هذا فإنّهم لا يتذيّلون الرّأس بل يتذيّلون بذلاذل الذّيل إسرائيل كما قلّد شعراء اليونان التّقليد وليس الأصل، فحكم عليهم “أفلاطون” بالخروج من مدينته الفاضلة أو بالسّكن في حضيضها، فلا بدّ للشّعوب العربيّة العظيمة من أن تُخرج هؤلاء المقلّدين المتذيّلين للذّيل إسرائيل إلى خارج الأرض العربيّة الطّاهرة إلى حضيض سابع أرض بل إلى خارج التّاريخ وخارج الحياة، لأنّهم ذيل الذّيل “وبقصرو” أن يكونوا ذيل الرّأس ذاته، فهم ذيلُ ذيلِ الرأس. ومرّة أخرى سيعترض معترض: “طيّب” ما العلاقة؟
التّميميّ والوأد:
تنسب بدايات الوأد عند العرب في الجاهليّة وتعزى إلى سببيْن بارزيْن: الإملاق وهو الفقر المدقع والعار. أمّا الفقر فقد أشار إليه القرآن في آيتيْن شبيهتيْن باللّفظ والمعنى، الأولى: “ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإيّاكم إنّ قتلهم كان خِطئًا كبيرا” (القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 31) والآية الثانية: “ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاهم” (القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية 151) ولا شكّ أنّ القرآن كان صارمًا في تحريم الوأد كجريمة قتل ضدّ الأولاد: ذكورًا وإناثًا، بعكس الرّائج بأنّ الوأد كان فقط للبنات، فلنترك السّبب الاقتصاديّ كدافع للوأد، ونمضي إلى الدّافع الآخر وهو العار، وهنا الحديث يجري فقط عن وأد البنات فقط كونهنّ مجلبة للعار، وتعود جذور الوأد إلى قصّة يعتقد الأغلب أنّها السّبب الرّئيس للوأد وانتشاره. وقعت مع أحد أحكم حكماء الجاهليّة وهو “قيس بن عاصم المنقريّ” زعيم قبيلة “تميم”، الّتي رفضت دفع إتاوة الحماية لملك الحيرة “النّعمان بن المنذر”، فجرّد عليها جيشًا كان معظم مقاتليه من بني “بكر بن وائل” فساقوا الأنعام وسبوا النّساء، فذهب وفد من “تميم” إلى “النّعمان” يطلب إرجاع النّساء، فأعطى الملك حرّيّة الاختيار للنّساء، فمن اختارت أباها أو زوجها عادت إليه ومن اختارت البقاء مع سابيها بقيت معه، وكانت إحدى المسبيّات ابنة “قيس بن عاصم” واختارت البقاء مع سابيها، فنذر أن لا تولد له بنت إلّا وقتلها، ويقال إنّه كان الوائد الأوّل، ولم يقبل كعظيم قوم أن تكون ابنته مجلبة للعار، ومن هذه الحادثة انتشرت العادة في “تميم” ومن ثمّ بين قبائل العرب. ما العلاقة للمرّة الثّالثة بين هذا والأسد الشّيخ؟ إذا كان عظيم بني “تميم” في الجاهليّة قبل ظهور الإسلام والدّين قد نذر أن يئد البنت متى ولدت، لأنّها مجلبة للعار، فكم مرّة كان الحكّام العرب “المسلمون” بعد الإسلام والدّين والعروبة مجلبة للعار لكليهما! وكم مرّة يحقّ للعظماء العرب منذ “محمّد” وَ “المسيح” وَ “الحسيْن” وَ “بلال” حتّى “عمر المختار” وَ “جمال عبد النّاصر” وَ “جميلة بوحيرد” وَ “زينب الكفراوي”، كم مرّة يحقّ لهؤلاء العظماء أن يئدوا هؤلاء الحكّام العرب الجبناء! لم يكن من ذنب اقترفته الموءودة “وإذا الموءودة سئلت بأيّ ذنب قتلت” (القرآن الكريم، سورة التّكوير، الآية 8) وفقًا للسّؤال القرآنيّ. أمّا هؤلاء الحكّام مجالب العارات فلم يتركوا ذنبًا إلّا اقترفوه ولا خنوعّا إلّا سلكوا دروبه ولا خيانة إلّا استراحوا في حضنها ولا ظلمًا إلّا ارتكبوه ولا حقًّا بالحرّيّات إلّا منعوه ولا قمعًا إلّا ركبوه ولا وأدًا لشعوبهم إلّا فعلوه ولا باطلًا ولا بغيًا ولا منكرًا ولا فحشاء إلّا انغمسوا وغرقوا في بحور لذائذها، “فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا” (القرآن الكريم، سورة الطّارق، الآية 17) فما هو الحلّ يا “سيدي عمر”؟ الوأدَ! الوأدَ! وليس بسبب الفقر، ولكن بسبب عدد العارات التي جلبوها، وأين! في أعمق الحفر من أسفل سافلين في الأرض، كلّما قذفتهم الأرض لأدناسهم أعدناهم فيها تارة أخرى، أو في نار جهنّم كلّما خبت زدناها. للحكّام العرب آيات كثيرة تليق بهم “له في الدّنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق” (القرآن الكريم، سورة الحجّ، الآية 9) “وقودها النّاس والحجارة أعدّت للكافرين” (القرآن الكريم، سورة البقرة 3) “وكلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق” (القرآن الكريم، سورة الحجّ، الآية 22) ومع ذلك لا بدّ من عذاب في الأرض أيّها العظيم! يا “سيدي عمر “، والكتل البشريّة والجرّارات والجنازير جاهزة لذيل الذيل ومجالب العارات. تتسابق الذّيول الذّليلة من سيكون ذيلًا أطول وأرذل في مؤخّرة الذّيل “الأزعر” كي يفوز بالميداليّة الذّهبيّة في رياضة جلب العار. فيا لرخص الذّهب!
نقترب إلى الموضوع رويدًا رويدًا:
إذا كان بنو “تميم” لم يطيقوا ردّ فتاة فضّلت سابيها على أبيها فأقرّوا نظام الوأد، فكيف يقبل “عمر المختار” بأقلّ من وأد القدم الاحتلاليّة الإيطاليّة الفاشيّة التي دقّت في أرض ليبيا العربيّة أوتاد هيمنتها وحكمها الاستعماريّ الوحشيّ على أهلها وتسلّطها على مقدّرات شعبها وثرواتها القوميّة ساعية إلى وأدها ليبيًّا وعربيًّا وإنسانيًّا في حفير الخنوع والذّلّ والاستسلام، ألا يكون القبول بالخنوع لإرادة المحتلّ الغاصب والظّالم عارًا! ويكون كلّ من يقبل بهذا العار مجلبة له تليق به الآيات السّابقة وعقابه الوأد! “سيدي عمر” لأنّه سيّد نفسه، كريمها ومحبّ لوطنه ولقوميّته ولدينه لم يقبل التّعاون ولا المال ولا الإغراءات ولا الخنوع، ووضع خارطة طريقه على طريق النّضال المشرق والمقاومة المسلّحة السّاطعة، “نحن لن نستسلم! ننتصر أو نموت”، وقاتل الظّالم حتّى خيط المشنقة الأخير، ألم ينتفض “الحسين” عندما رأى الظّلم يستشري، فخرج يقاتل النّظام الملكيّ الأمويّ الفاسد والمفسد، فسألوه لماذا تخرج الآن؟ فقال: “ألا تروْن أنّ الحقّ لا يُعمل به وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه”. نعم! الظّلم على مدى التّاريخ باطل ومقاومته حقّ، وهذه المقاومة هي واجب العظماء والشّرفاء والأحرار من أمثال “الإمام الحسين” وَ “سيدي عمر المختار”.
هل سيتجدّد الخنوع العثمانيّ:
تسود ليبيا اليوم حالة من الاضطرابات والقتال، والحالة تمتاز بضبابيّة تخلقها الصّراعات الدّوليّة على المصالح السّياسيّة والاقتصاديّة، بعد سقوط الدّولة الّتي قادها “معمّر القذّافي” لأكثر من أربعة عقود، كانت عيوب النّظام كثيرة أبرزها النّهج الدّكتاتوريّ والحكم الشّموليّ. تسود الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة اللّيبيّة فترة من طغيان الغموض والسّير نحو المجهول، اليوم تشهد السّاحة اللّيبيّة صراعًا دمويًّا بين قوّات حكومة “فوّاز السّرّاج” المدعومة من تركيّا وقوّات الجيش وقائده الجنرال “خليفة حفتر” المدعوم كما يبدو من مصر والإمارات العربيّة والولايات المتّحدة الأميركيّة، وبعض القوى الدّوليّة التي لم تحدّد وجهتها، مع أنّها تظهر غضبًا على تركيّا وسلوكها، وقد يتّفق على هذا النّقيضان كلّ من زاوية رؤيته: من الشّرق الاتّحاد الرّوسيّ ومن الغرب الولايات المتّحدة الأميركيّة.
يكثّف “أردوغان” السّلطان العثمانيّ الجديد وجوده العسكريّ بشكل يوميّ، لزيادة التّنسيق وإدارة العمليّات كما يدّعي، لا تخفي تركيّا مطامعها الاقتصاديّة بالسّيطرة على الغاز والنّفط ودورها السّياسيّ القذر في دعم الحركات الإسلاميّة الإخوانيّة التي تدعم حكومة “السّرّاج” وتؤيّد برامج “أردوغان” الإسلاميّة، ولا تخفى أيضًا رغبة الغرب في خلق مشير عسكريّ جديد من “حفتر” كَ “عبد الفتّاح السّيسي” في مصر، أو كَ “عبد الفتّاح البرهان” في السّودان، وثلاثتهم يجيئون بعد ثورات الرّبيع العربيّ الّتي سُرقت وهي في بداية إيناع براعمها، جاؤوا أو جيء بهم ليقمعوا هذه الثّورات والاحتجاجات ومن ثمّ يسيرون كالنّعاج في التّلم الأميركيّ ينفّذون برامج الهيمنة في المنطقة وفقًا لرؤية “ترامب” الأميركيّ والغرب كلّه ووفقًا للمخطّطات الصّهيونيّة الرّامية لتغييب القضيّة الفلسطينيّة، كما ورد في “صفقة القرن” التي تبيّن رؤية الرأس “ترامب” والذّيل “نتنياهو” وذيول الذّيل، الحكّام العرب العسكريّين الذين تشكّلوا من قبل سنوات كالسّيسي في مصر ومن قبل شهور كالبرهان في السّودان ومنهم من يتشكّل الآن كحفتر في ليبيا.
لإيطاليا مطامع في ليبيا منذ سنة (1878) بعد انعقاد مؤتمر “برلين”، ولكنّها لم تستطع تحقيق مطامعها إلّا في سنة (1911) وكانت ليبيا جزءًا من الدّولة العثمانيّة. بدأ الغزو الإيطاليّ بالهجوم على “طرابلس”، بدعوى تحرير اللّيبيّين من الأتراك (يعني من كابوس استعماريّ لعين إلى كابوس أشدّ لعنة) قُصفت “طرابلس” وقامت إيطاليا بإنزال قوّات بريّة فقوبلت هذه القوّات بمقاومة ليبيّة شديدة، كان “الأسد الشّيخ” أحد أبرز أبطالها، فقد قام أهل “طرابلس” سنة (1911) بانتفاضة مسلّحة فووجهت بالعنف العسكريّ الإيطاليّ واستبيحت المدينة لثلاثة أيّام، عاث فيها الجنود تدميرًا وفسادًا بأمر من القائد “كارلو كانيفا”، وقاموا بعمليّات ترانسفير فأبعد حوالي 5000 مواطن ليبيّ إلى الجزر الإيطاليّة في البحر المتوسّط.
اندلعت حرب كأنّها مسرحيّة ساخرة بين الإيطاليّين والأتراك، انتهت بتخلّي الأتراك عن اللّيبيّين وتركهم في مواجهة الإيطاليّين، حتّى ما كان لديهم من سلاح منعوه عن الثّوّار اللّيبيّين. استطاعت إيطاليا من احتلال “بنغازي” وَ “درنة” والمقاومة اللّيبيّة رغم عدم التّكافؤ تشتدّ وتحرج الإيطاليّين وتجبرهم على التّراجع والانسحاب بعد معارك كثيرة أبرزها: “الحميديّة” وَ “المرسى” وَ “الهاني”. انتهت هذه المواجهة المفتعلة والممسرحة بين تركيا وإيطاليا كما يبدو بتوقيع اتّفاقيّة ذلّ وهوان تركيّ فاضح، وقّعها الأتراك لصالح القوّات الإيطاليّة في “لوزان” سنة (1912) وصدر الفرمان العثمانيّ الأوّل ينضح ذلّة وهوانًا في السّنة نفسها ومتلفّعًا بالعبارات الجميلة، لكنّ تلك العبارات لم تقلّل من الهوان والخنوع العثمانيّ، وهذا نصّه الذي يتوجّه بخطابه إلى اللّيبيّين: “إنّ حكومتنا العالية عاجزة عن حماية البلاد إلّا إنّها مهتمّة بازدهاركم في الحاضر والمستقبل، ورغبة منها في تجنيب مواصلة الحرب التي تحمل الهلاك لكم ولأسركم فإنّني أعطيكم الاستقلال الكامل والشّامل”، والحقيقة إنّ هذا الاستقلال الكامل والشّامل كان تسليمًا كاملًا يشمل كلّ ليبيا للإيطاليّين، وبسبب تخلّي الأتراك عنها غاصت ليبيا في عقود من الاستعمار الإيطاليّ، شهدت خلالها مذابح عديدة وانتشارًا للمجاعات وعمليّات تهجير أسفرت عن سقوط أعداد كبيرة من القتلى قدّرت بمئات الآلاف، وقد أدّى ذلك التّخلّي المهين إلى نشوب خلافات قتاليّة بين المقاومين اللّيبيّين والجنود الأتراك الذين رفضوا حتّى إعطاء المقاومين اللّيبيّين الأسلحة قبل خروجهم، لكن وبالرغم من الإحساس بثقل الخيانة التّركيّة لليبيّين استطاع “عمر المختار” من التّدخّل لنزع فتيل هذا الاقتتال غير المجدي مع الأتراك، ونجح في توجيه المقاومة نحو المحتلّ الإيطاليّ الجديد.
الباب العالي الواطئ:
ماذا كسبت حكومة “الباب العالي” آنذاك؟ وما هي الصّفقة التي أبرمتها مع ألدّ أعدائها، وماذا يحضّر الباب العالي الواطئ الجديد “أردوغان”! لن يستطيع أن يحمي ليبيا ولن يستطيع ترسيخ وجوده في ظلّ هذه الشّراسة الغربيّة الاقتصاديّة والسّياسيّة. أعتقد أنّه سيأتي يوم ليس ببعيد سيوقّع فيه الخليفة العثمانيّ الإسلامويّ “أردوغان” اتّفاقيّة “لوزان” أخرى تضمن له فتات الأرباح والأطماع وبعض ماء وجهه القبيح وسيتخلّى عن ليبيا لقمة سائغة لوحش غربيّ جديد كما تخلّى أجداده من قبل. كذّب مؤرّخ ليبيّ مزاعم الرّئيس التّركيّ “أردوغان” حول كون أجداده العثمانيّين قادوا حركة “جهاد” ضدّ الاستعمار الإيطاليّ في ليبيا بداية القرن العشرين، وقال المؤرّخ والأكاديميّ اللّيبيّ الدّكتور “وليد شعيب” أستاذ التّاريخ بجامعة “طبرق” إنّ الدّولة العثمانيّة عملت لمصالحها الخاصّة، وكانت دولة جباية ومذابح ودمّ وتخلّت عن اللّيبيّين في عزّ الأزمة وتنازلت عن ليبيا إلى إيطاليا. وأشار إلى أنّ العثمانيّين الجدد في تركيا يحاولون إثبات ادّعاءات كاذبة ساعدهم فيها تنظيم “الإخوان” الإرهابيّ في ليبيا وأنّ “أردوغان” الملوّث اليديْن بالدّم يدّعي ما ليس له بأنّهم شاركوا في الجهاد، واختتم المؤرّخ اللّيبيّ حديثه بقوله: “في الحقيقة ما نراه الآن من إرهاب تركيّ في بلادنا ليس إلّا جزءًا لا يتجزّأ من سلسال الدّم والإرهاب التّركيّ عبر التّاريخ”. ألم يتنازل “الرّجل المريض” العثمانيّ عن فلسطين العربيّة للإنجليز واليهود، الحكومة العثمانيّة نفسها التي تخلّت عن ليبيا هي التي سمحت لليهود بالهجرة والاستيطان في فلسطين وفي الفترة نفسها، وجاء “أتاتورك” فقطع كلّ صلة له بها، وكانت تركيا أوّل دولة إسلاميّة تعترف بإسرائيل سنة (1949) بعد أقلّ من عام على قيامها. نعم! في حالة “أردوغان” التّاريخيّة المعاصرة تأكيد على أنّ التّاريخ قد يعيد نفسه على شكل مأساة. والأجيال تنتظر وستصدر أحكامها في الميادين والشّوارع وليس في المحاكم، وحكم التّاريخ قد يمهل طويلًا لكنّه لا يهمل وقد يأتي صارمًا في كثير من الأحيان، فإنّ ولّى صدر ذاك القديم العثمانيّ فسيولّي مماثله الجديد الأدبار، “وإنّ غدًا لناظره قريب”.
كيف يتكوّن الثّائر:
ما يثيرني في شخصيّة هذا الثّائر العظيم أنّه روح مقاومة ذات توثّب نحو التّحرّر والكرامة، تنبثق هذه الرّوح من أحاسيس تختلج في أعماق ذاته ووجدانه الوطنيّ، وليس من شباب في عنفوان حماسيّ، فالرّجل بدأ نضاله ومقاومته وهو في سنّ الثّالثة والخمسين وانتهت بإعدامه في سنّ الثّالثة والسبعين منذ سنة (1911 – 1931) مع استيطان الحمّى في صدره لفترة طويلة. عشرون عامًا من المقاومة وهو إلى الكهولة بل إلى الشّيخوخة أقرب، لم يستسلم، لم يلقِ سلاحه ولو للحظة واحدة، “نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت”. اعتقلته قوّات الغزو الإيطاليّة وهو يحمل بندقيّته، ونقل إلى روما وعرضت عليه صفقات هائلة من الإغراءات الماديّة وصور من الرّخاء المعيشيّ، لكنّه أبى ذلك العار بشموخ ومجد، فحوكم بمحاكمة صوريّة بالإعدام وسيق إليه في بلدة “سلوق” بحبل “العدالة” الاستعماريّة وأعدم شنقًا أمام النّاس ليعتبروا، فاعتبروا كما أراد المشنوق وكثّفوا من مقاومتهم ضدّ الشانق، الظالم والمحتلّ. وبهذا فعلًا تكون حياة “سيدي عمر” كما قال: “سوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم، أما أنا فحياتي سوف تكون أطول من حياة شانقي”. وانتهى الاحتلال الإيطاليّ من ليبيا سنة (1943) ليس لأنّ قوّات الحلفاء دخلت إلى ليبيا وانتصرت على دول” المحور” في الحرب العالميّة الثّانية، بل تحت الضّربات القاسية والموجعة للمقاومة الليبيّة الباسلة التي بدأت قبل “عمر المختار” ودامت واشتدّت تحت قيادته واستمرّت بوحي من إلهامه العظيم للمقاومين الأبطال من الأجيال القادمة.
فكيف تكوّن هذا المقاوم الثّائر؟ لقّب بِ “شيخ الشّهداء” وَ “شيخ المجاهدين” وَ “الأسد الشّيخ” وناداه رفاقه المقاومون بِ “سيدي عمر”. قد تعود جذوره العربيّة إلى “عبد مناف بن هلال”، من أولى القبائل العربيّة التي سكنت في “برقة”، فهو “عمر بن مختار بن عمر المَنَفيّ الهلاليّ”، ولد في “البطنان” (يوم 20 أيلول سنة 1858) ربّاه أبوه تربية إسلاميّة وفقًا لتعاليم الحركة “السّنوسيّة” التي تستند إلى القرآن والسّنّة النّبويّة، مات أبوه وهو في الطّريق إلى مكّة لأداء فريضة الحجّ، أمّه “عائشة بنت محارب”، من قبيلة “فرحات” التي ينتمي إليها والده. كان “أحمد الغريانيّ” مرافقًا له في الرّحلة فطلب منه أن يبلّغ شقيقه الشّيخ “حسين” بكفالة ولديه: “عمر” وأخيه “محمّد”، وفعلًا قام الشّيخ “حسين” بالمهمّة على أحسن ما يكون، وأرسلهما لتعلّم القرآن الكريم بزاوية “جنزور”، وبعدها أرسل “عمر” ليتابع العلم في معهد “جغبوب” الذي كان منارة للعلم وملتقى العلماء والفقهاء الّذين يعلّمون الطّلّاب حمل رسالة الإسلام المكافح، ليتحوّلوا إلى معلّمين في بلدات القبائل اللّيبيّة. لقد لفت الطّالب اليافع اليتيم “عمر” انتباه معلّميه بذكائه ونباهته ورجاحة عقله، 8 أعوام في المعهد استفاد فيها من معلّميه: “السّيّد الزرواليّ” وَ “السّيّد الحورانيّ” وَ “فالح الطّاهريّ” في الفقه والتّفسير والحديث، وكذلك لم يتوانَ عن خدمة زملائه ولا عن القيام بواجباته، فلم يعرف عنه أنّه أجّل عمل يومه إلى غده. كان جدّيًّا، حازمًا، مستقيمًا وصبورًا، ومتفوّقًا في العلوم الدّينيّة، ولكنّه تعلّم إلى جانبها العلوم الدّنيويّة كعلوم البيئة وعادات المجتمع القبليّ ونسبها وتقاليدها، حتّى أمراض المواشي وطرق علاجها تعلّمها “عمر المختار” والتّاريخ وتعلّم وسائل فضّ الخلافات وجغرافيّة الصّحراء ومسالكها وأنواع نباتاتها، والطّرق المؤدّية إلى مصر والسّودان وغيرها من الدّول الّتي قد تمدّ يد العون للثّورة، أو للتّواصل والتّشاور مع الأخوة من المناضلين المنفيّين أو المبعدين.
العلم سلاح لمقاومة الظّلم:
إنّ هذه النّبذة القصيرة لها دلالاتها المفيدة في التّعرّف على مسيرة “عمر المختار” المستقبليّة، من حيث أنّها تنطوي على معانٍ وتلقي ظلالًا على نضاله ومقاومته للمحتلّين الّذين دنّسوا التّراب اللّيبيّ باحتلالهم الوحشيّ وحرموا الشّعب اللّيبيّ حرَيّته ومن صياغة حياته وفقًا لاختياراته، فقد نهل على يد الفقهاء علوم الإسلام السّمح كدين يربّي الإنسان على السّموّ بالنّفس والسّعي من أجل الحقّ والعدل ورفض الباطل والظّلم، ويعلّمه على النّضال وبكافّة الوسائل من أجل الوطن الحرّ والحياة الكريمة. كان يقول: “إنّنا نقاتل لأنّ علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحرّيّتنا حتّى نطرد الغزاة أو نموت نحن، وليس لنا أن نختار غير ذلك”، فالدّين عنده وسيلة كفاحيّة وغاية سامية كالحرّيّة تمامًا، وليس دين الخنوع والقبول بالذّلّ ومناصرة باطل البرامج الأميركيّة والصّهيونيّة على حقوق الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، ليس دين الرّؤساء والملوك العرب “المسلمين”، وليس بالطّبع دين الإرهاب وداعش والحركات الظّلاميّة المستندة إلى فكر الوهّابيّة والإخوانيّة، الذي يجعل من المسلم قاتلًا ومتوحّشًا يكره البشر ويهدم الحضارة ويتحالف مع الشّيطان الأميركيّ ضدّ بلاده وينهب ثرواتها ويبيعها للأعداء بثمن بخس، نعم الإسلام الحنيف والمستقيم والسّمح والإنسانيّ والمكافح من أجل الأمر بالمعروف والخير والحقّ ومن أجل النّهي عن المنكر والبغي والظّلم والباطل. ومستعدّ هذا الفكر الإسلاميّ النيّر أن يقاتل ويناضل من أجل ذلك، إنّه إسلام “سيدي عمر” وليس إسلام المأجور “محمّد بن عبد الوهاب” ولا إسلام آل “سعود” الذين باعوا أولى قبلتيْ الإسلام، حكّام مكّة اليوم، وليس إسلام “الإخوان المسلمين” الأصوليّ والكذّاب الظّلاميّ ولا إسلام “أردوغان” العضو في الحلف الأميركيّ والغربيّ والمتدخّل في ليبيا اليوم من أجل الفكر الإخوانيّ الإرهابيّ ومن أجل اللّصوصيّة ونهب ثروات النّفط والغاز، وحارم منطقة “الحسكة” السّوريّة من ماء الشّرب. أتردم الآبار يا حضرة “الخليفة المسلم” كي تقتل النّاس المسلمين عطشًا! أهذا الذي يؤمرك به الإسلام يا حضرة “الخليفة القادم” – لا سمح الله – والكافر بعون الشّيطان.
وتعلّم العلوم الدّنيويّة من تاريخ وجغرافية وبيئة وبيولوجيا وعلم الاجتماع والتّقاليد القبليّة، وبالنّظر الممعن في هذه العلوم سنرى أنّ “عمر المختار” كان يحضّر بها نفسه كمقاوم سيثور على الظّلم الإيطاليّ ولن يدع هذا العدوّ ينعم بالرّاحة طالما ظلّت قدمه الاستعماريّة تدنّس ذرّة تراب ليبيّة واحدة، كلّ العلوم التي درسها كانت كأنّها مقدّمات معرفيّة وثقافيّة تمهّد للثّورة وأساليب المقاومة، بل تمهّد لتكوّن شخصيّته كمناضل عنيد يأبى كلّ ظلم واستعباد واستغلال. فكيف سيقاتل في الجبال ولا يعرف طرقها وشعابها ونوع نباتها وما يؤكل منها وما لا يؤكل، وكيف سيتواصل مع رفاقه المقاومين المبعدين أو اضطراره للسّفر لطلب معونة أو إمداد يعين على مداومة المقاومة وتصعيدها، وكيف سيجنّد القبائل وهو لا يعرف علاقاتها المتبادلة وخصوماتها وعاداتها وتقاليدها ولا يتقن كيف يسوسها ويعالج أمورها ليزرع الحميّة الوطنيّة فيها ويذكي في وجدانها أحاسيس الغضب على المحتلّ ومقاومته وطرده.
علاقاته مع السّنوسيّين وقصّته مع الأسد:
من سمعته الحسنة التي اكتسبها من معهد “جغبوب” وشيوخه وذاع صيتها أعجب به شيوخ الحركة “السّنوسيّة”، هذه العلاقة وغيرها على مدى المناطق اللّيبيّة في الجبل والصّحراء والسّاحل والمدن والأرياف وتجمّعات البدو والقبائل كانت من مكوّنات شخصيّته الأساسيّة كمناضل ومقاوم، لقد سعى إلى إقامة علاقات حسنة مع الجميع لتأليبهم ضدّ العدوّ الواحد والمشترك، الاحتلال الإيطاليّ. لقد أثمرت هذه السّمعة الطّيّبة عن علاقات مع “محمّد مهدي السنوسيّ” فيصطحبه معه سنة (1895) إلى “الكفرة” في الصّحراء ومن ثمّ إلى السّودان ليصبح شيخ زاوية، “وربّ ضارّة نافعة” كلّ الأحداث تأتي لتظهر شخصيّته القويّة، حتّى الطّارئة منها، ففي طريق السّفر اعترض القافلة أسد شرس وجائع، فأراد “السّنوسيّ” تقديم شاة له لاتّقاء شرّه فرفض “عمر المختار” قائلًا: “إنّ الإتاوات التي كان يفرضها القويّ منّا على الضّعيف قد أبطلت، فكيف يصحّ أن نعيدها لحيوان! والله إنّها علامة ذلّ وهوان، والله إن خرج علينا لندفعنّه بسلاحنا”، وتوجّه نحو الأسد وقتله، يا لقوّة الإيمان عند هذا الشّيخ الأسد، ويتمتم: “وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى”، فقال “السّنوسيّ” بإعجاب: “لو كان عندنا عشرة مثل “عمر المختار” لاكتفينا بهم”. ألا يعكس هذا جانبًا من شخصيّة “السّنوسيّ” السّياسيّ المهادن القابل للانصياع! وجانبًا من شخصيّة “سيدي عمر” المناضل الأبيّ الذي يأبى الانصياع للتّهديد! مكث في السّودان ثلاث سنوات وعاد إلى ليبيا سنة (1897) فصار شيخًا لبلدة “زاوية القصور” في “الجبل الأخضر”.
في هذه الآونة احتلّت فرنسا المعادية للسّنوسيّة في ليبيا تشاد الدّولة الجارة، وممّا يجدر ذكره أنّه في هذه الفترة كان السّنوسيّون يشكلّون حركة دينيّة ووطنيّة ومقاومة، يناضلون ضدّ المحتلّين، ومن هنا نفهم أهمّيّة علاقة “عمر المختار” بهم، وقد استطاعت الحركة من تكوين فرقة عسكريّة توجّهت لقتال الفرنسيّين في تشاد، وكان “عمر المختار” أحد أبرز قادتها. لقد ساهم أيضًا كعالم بأمراض الماشية في علاج داء الجرب الذي أصاب 4000 رأس كانت ضروريّة لأصحابها الرّعاة في القبائل المتخاصمة، وكان الحدث سببًا في نزع فتيل الخصام بينها، إذ جلب لها الهدوء والاستقرار بحسن معاملته ولطف سياسته، فنقل الإبل إلى بلدة “عين كلك” ذات المياه النّقيّة فشربت وتعافت، فتحوّل أبناء القبائل التي اشتهرت بصعوبة انقيادها وشدّة مراسها إلى مقاتلين أشدّاء ضدّ الاحتلال الإيطاليّ. مات “محمّد مهدي السّنوسيّ” سنة (1902) فعاد شيوخ “السّنوسيّة” واستدعوه ليكون شيخًا في “زاوية القصور” مرّة أخرى، وفيها قبيلة من العبيد شديدة البأس، وظلّ فيهم حتّى سنة (1911) سنة الانطلاق والمواجهات الحقيقيّة مع القوّات الإيطاليّة. ولكن ولنستوفي صورة مكوّنات شخصيّته لا بد من الإشارة والإشادة بقتاله في عدّة معارك مع مجموعات ليبيّة ومصريّة مقاومة ومقاتلة ضدّ الجيش البريطانيّ على الحدود اللّيبيّة المصريّة سنة (1908) وكانت أشهر هذه المعارك معركة “السّلّوم”. وكأنّي بِ “عمر المختار” في هذه الفترة “تشي جيفارا” بعد نصف قرن من الزّمان، يؤمن بحتميّة الكفاح ضدّ الظّلم في كلّ مكان وزمان، “أينما وجد الظّلم فذلك وطني وواجبي أن أقاتله”.
المقاومة حتّى النّصر أو حتّى الموت:
“إنّني أؤمن بحقّي في الحرّيّة، وحقّ بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كلّ سلاح”. هذا هو الإيمان الرّاسخ في النّفس المطمئنّة العامرة بالوطن وخلاصه من مستعمريه ومستعبدي شعبه، الإيمان الرّاسخ بقوّة المعنويّات العالية الّتي لا تستطيع أقوى قوّة في العالم من هزيمتها، بل لا تستطيع حرف تصميمها على الانتصار وصمودها أمام العدوّ وفي كلّ الظّروف، ولا يمكن إلّا أن تقرّر النّهاية بحتميّة كسرها للغاصب الظّالم ودحره وطرده، فيخرج من الوطن ناعم ذيل ذليلًا، وليس كما دخل وحشًا، خشنًا، كاسرًا، مندفعًا ومتعاليًا. “يمكنهم هزيمتنا إذا نجحوا باختراق معنويّاتنا”. هكذا كان يردّد أمام المقاومين حين يمروّن في وقت عصيب لقلّة المؤن والإمداد والسّلاح أو بعد انتكاسة عسكريّة.
كانت الانطلاقة المقاومة من “الكفرة” في الجنوب، في عمق الصّحراء، لقاء سريع مع السّنوسيّين وتجنيد ألف مقاتل من عبيد “زاوية القصور” الأشدّاء، ومن هناك يقام معسكر للانطلاق والانقضاض على القوّات الإيطاليّة، كان الشّيخ “الأخضر العيساويّ” رفيقه في معركة “السّلّاوي” سنة (1911) في هذه المعركة مع شدّة إصراره في التقدّم ينجو “عمر المختار” بأعجوبة من الموت في مصيدة أعدّتها له الفرقة الإيطاليّة، وتنهال المعارك والمواجهات ولا خيار إلّا النّصر. حرب عنيفة بدأت في أنحاء الجبل الأخضر، وفي هذه المعارك لمع اسم “عمر المختار” وبدأ أبناء القبائل بالانضمام إلى صفوف المجاهدين بقيادته، وأخذت القبائل تمدّ المجاهدين بالمؤن والعتاد والأسلحة، وكان معسكر “البراغيث” مقرّ قيادة “عمر المختار”. اعترف حاكم “بُرقة” فيما بعد في مذكّراته أنّ ملاحقة الثّوّار في الجبل الأخضر أنهكت الجيش الإيطاليّ، إذ أنّ الضّربات المتلاحقة التي وجهها الثّوّار للجيش الإيطاليّ كان لها أثرها المعنويّ السّيّء على الفرق العسكريّة الإيطاليّة التي لم تستطع الرّدّ على هجمات الثّوّار المفاجئة، ومن أشهر هذه المعارك التي كانت سنة (1913) وقادها “الأسد الشّيخ” لمدّة يوميْن متتالييْن من القتال الشّديد خسرت فيها الكتيبة الإيطاليّة 70 قتيلًا وَ 400 جريح. كانت الفترة بين سنة (1913 – 1914) أشدّ الفترات قتالًا ومقاومة، لم تردع الخلافات التي نشبت بين السّنوسيّين وكان أميرهم “إدريس السّنوسيّ” في “برقة” وغيرهم من القوى الفاعلة على ساحة المقاومة سنة (1916) كالحكومة الطّرابلسيّة بقيادة “سليمان البارونيّ” الذي دعا إلى تشكيل حكومة توحّد الجميع تحت شعار المقاومة وتعبئة كافّة القوى ضدّ الاستعمار الإيطاليّ. “عمر المختار” الذي يؤمن بالأفعال ظلّ مستمرًّا في المقاومة مع رفاقه المجاهدين: “عبد النّبي بالخير” وَ “أحمد المريض” وَ “رمضان السويحليّ” وبالرّغم من تلك الخلافات ومن القحط الذي أصاب البلاد سنة (1915) ظلّ “عمر المختار” يقود الهجمات القويّة كحرب عصابات، شنّها الثّوّار اللّيبيّون ضدّ القوّات الإيطاليّة، ممّا جعل النّظام الإيطاليّ الفاشيّ يشدّد من محاولاته للقضاء على القائد الذي غدا معروفًا ومقلقًا كقائد صلب وعنيد ولا يساوم “عمر المختار”، وكانوا شبه متيقّنين بأنّ القضاء عليه سيكسر معنويّات المقاومين والمجاهدين وسيهزم روح المقاومة فيهم.
الفاشيّة مرحلة جديدة:
وصل “بنيتو موسوليني” إلى الحكم في إيطاليا سنة (1922) فبدأت به مرحلة جديدة بإعلان النّظام الفاشيّ للحكم في إيطاليا، الذي تحالف فيما بعد مع النّازيّة الألمانيّة والعسكريّة اليابانيّة بُعيد اندلاع الحرب العالميّة الثّانيّة، وكانت أوّل قراراته إحكام القبضة على ليبيا وإخضاعها للحكم الفاشيّ بالقضاء على كافّة حركات المقاومة وأشكالها، وقد أرسل لهذه المهمّة أفضل قادته الجنرال “رودلفو غراتسياني” المعروف بقسوته ووحشيّته. فقد اعتمد سياسة جديدة تشدّد الخناق المعيشيّ واليوميّ على الفلّاحين اللّيبيّين، فقد صودرت أملاكهم وأراضيهم واعتبرت ملكًا لإيطاليا، وقامت سياسته كذلك على نزع ملكيّة كلّ من يشكّ بتورّطه مع المقاومة من القرويّين والفلّاحين. في فترة الحرب لم يستطع الفلّاحون من الوصول لزرع أراضيهم وغرسها قام الإيطاليّون بمصادرتها على اعتبار أنّه مهملة. لقد كان مقدار الأراضي المصادرة حتّى سنة (1940) حوالي مليون هكتار، ووصل عدد الإيطاليّين المستوطنين إلى 110 آلاف، اشتغل منهم في الزّراعة حوالي 24 ألفًا.
في هذه الأثناء وعلى وجه التّحديد سنة (1923) سافر “محمّد إدريس السّنوسيّ” إلى مصر لأسباب غامضة، أحد تفسيراتها الهروب والتّخلّي عن المقاومة مع اشتداد المعارك وسقوط “طرابلس” بأيدي القوّات الإيطاليّة. سافر “عمر المختار” إلى مصر لإطلاع “السّنوسيّ” الهارب على مجريات الأحداث والطلب إليه بالعودة إلى ليبيا ومساندة المقاومة، لكنّ زيارته باءت بالفشل، بل أكثر من ذلك فقد تعرّض “عمر المختار” خلال عودته إلى كمين إيطاليّ نجا منه بأعجوبة، فهل تحوّل الهارب إلى خائن ومتآمر وعميل! ظلّ “عمر المختار” صامدًا لا يخضع ولا ينحني مع 1000 مقاتل سلاحهم البنادق، ومع محاولاته الحثيثة لإقناع أهالي الجبل الأخضر وغيرهم من اللّيبيّين للتّطوّع للمقاومة وتأييدها، وأصبح قائدًا للمقاومة على كلّ جبهاتها القليلة. هذا القائد العظيم الذي لم يلوِ “غراتسياني” ذراعه المقاوِمة، تحضرني قصّة بكائه عندما ماتت زوجته، فيروى أنّه بكاها بكاء مرًّا فسئل: لماذا؟ فقال: ” كانت ترفع لي باب الخباء عندما أهمّ بالدّخول أو الخروج فأسألها لماذا تفعلين ذلك؟ فتجيب: “كي لا تنحني إلّا لله”. هذا الرّجل العظيم كان يؤمن إيمانًا راسخًا بحقّه في القتال مهما بلغ الثّمن من دماء تسيل ومن أرواح تزهق، كان يقول: ” كن عزيزًا وإيّاك أن تنحني مهما كان الأمر ضروريًّا فربّما لا تأتيك الفرصة كي ترفع رأسك مرّة أخرى”.
الضّربات التي لا تقصم ظهرك تقوّيه:
لم تكن طريق المقاومة مفروشة بالورود ومختومة بالانتصارات دائمًا، بل كانت تتعرّض لضربات قويّة من القوّات الإيطاليّة وتمرّ عليها انتكاسات تترك آثارها السّلبيّة على المقاومين “فالحرب سجال”، وبخاصّة في الفترات والظّروف التي ينقطع فيها الإمداد والعون والسّلاح وتنقص أعداد المقاتلين ويشتدّ القمع الإيطاليّ على الفلّاحين والبسطاء وتستعمل القوّات الإيطاليّة أسلحة جديدة كالدّبّابة والطّيّارة والمدافع الثّقيلة، ويزيد الهدم والدّمار والتّخريب وإتلاف المحاصيل وحصار النّاس بالأسلاك الشّائكة في معسكرات تشبه معسكرات الإبادة، واقتراف الجرائم الفظيعة وارتكاب المجازر الجماعيّة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أباد الإيطاليّون أهل “المنشيّة” التي تقع شرقيّ مدينة “طرابلس”، ولم ينجُ من تلك المذبحة البشعة حتّى الأطفال والنّساء والشّيوخ، وامتدّت مجازر الإيطاليّين إلى غيرها من البلدان، حتّى قتلوا خلال ثلاثة أيّام نحو سبعة آلاف مواطن ونفوا نحو ألفيْن آخرين من الأهالي العزّل، وبلغت فظائعهم وجرائمهم مبلغًا كبيرًا، فقد هتكوا أعراض النّساء وأعدموا الكثيرين دون تحقيق أو محاكمة، فأسفرت إيطاليا عن وجهها الاستعماريّ الوحشيّ القبيح وأطماعها الاستعماريّة الدّنيئة وهي تبيد شعبًا أعزل هبّ ليدافع عن حرّيّته. يقترفون الفظائع ويرتكبون المجازر وفي الآن ذاته يتودّدون إلى اللّيبيّين، ويخاطبونهم باسْم الدّين ويؤكّدون على احترامهم الشّرائع والتّقاليد الدّينيّة، وعلى محافظتهم على الحقوق والحرّيّات الشّخصيّة والمدنيّة، ويلوّحون بالآمال العريضة التي توهم بها إيطاليا اللّيبيّين بمستقبل بلادهم ونهضتها، والنّعيم الّذي ينتظرهم في كنف السّيادة الإيطاليّة، إلى غير ذلك من وسائل الخداع والوعود الكاذبة. ففي الوقت الّذي كان قائد الحملة يصدر هذه التّصريحات ويدبّجها بلغة معبّرة عن الودّ والتّسامح، كان جنوده يرتكبون أبشع المذابح ويقترفون أفظع الجرائم ضدّ أهالي البلاد من المواطنين اللّيبيّين العزّل. خاض اللّيبيّون منذ أن غزا الإيطاليّون ليبيا سنة (1911) وهي السّنة الّتي بدأ فيها “عمر المختار” مقاومته ومن ثمّ قيادته للمقاومة حتّى أعدم سنة (1931) أي خلال 20 عامًا، 112 معركة بمعدّل 6 معارك كلّ سنة، لم تكن في صالح الثّوّار اللّيبيّين دائمًا، يكفي أن نعلم أن خسائر اللّيبيّين في الأرواح قد بلغت مئات الآلاف، ممّا يدلّ على وحشيّة القوّات الإيطاليّة وعلى عدم التّكافؤ في القدرات والأعداد ووسائل القتال، فالقوّات الغازية تمتلك المدافع والسّيّارات المصفّحة والدّبّابات والطّائرات وما دون ذلك من أسلحة وبأعداد هائلة، واللّيبيّون يمتلكون البنادق والألغام والعبوّات النّاسفة ويركبون الخيول في أحسن الأحوال. كانت الانتكاسات تجعل “عمر المختار” يعيد النظر أو يغيّر الأسلوب النّضاليّ والقتاليّ ومكانه وزمانه، لكنّه لم يؤمن بكلّ وعود الإيطاليّين بل كان يؤمن بضرورة قتالهم حتّى النّصر وإحراز المجد الوطنيّ أو الموت بشرف من أجل الوطن. “حينما يقاتل المرء لكي يغتصب وينهب، قد يتوقّف عن القتال إذا امتلأت جعبته أو أنهكت قواه، ولكنّه حين يحارب من أجل وطنه يمضي في حربه إلى النّهاية”. هذا ما آمن به العظيم “عمر المختار”: “إنّ “الضّربات التي لا تقصم ظهرك تقوّيه” كان يردّد بعد كلّ انتكاسة.
عبثيّة المفاوضات مع المحتلّ:
عشرون عامًا من المفاوضات منذ مؤتمر “مدريد” سنة (1991) وصولًا لاتّفاق المبادئ في “أوسلو” سنة (1993) بين الفلسطينيّين والعرب من جهة والإسرائيليّين من جهة أخرى ولمّا تتعلّم القيادة الفلسطينيّة والعربيّة أنّ المفاوضات مجرّد إضاعة للوقت، تنتهزه إسرائيل المدعومة أميركيًّا وغربيًّا لزيادة هيمنتها على مقدّرات الشّعب الفلسطينيّ وإيقاف كفاحه وانتفاضاته الثّوريّة ومن أجل الاستيلاء والسّيطرة على موارده وثرواته، وبخاصّة الأرض لتوسيع الاستيطان وترسيخه وخلق حقائق جديدة ومعادلات وموازين سياسيّة ترجح في صالحها، عشرون عامًا من التّفاوض المباشر لنتوافق على التّفاوض غير المباشر، ومن غير المباشر إلى التّفاوض على شكل التّفاوض ومن شكله على مكانه، دون الدّخول إلى صميم القضايا الكبرى المختلف عليها: القدس والعاصمة، اللّاجئين العودة، الحدود والمضمون، عشرون عامًا نتفاوض بالتّفاوض عن التّفاوض من أجل التّفاوض، ونتّهم في النّهاية كمعرقلين للتّفاوض، إذا أعلنت إسرائيل عن مسألة في غاية “البساطة” هي القدس الموحّدة: الغربيّة “اليهوديّة الإسرائيليّة” والشّرقيّة العربيّة الفلسطينيّة عاصمة أبديّة لإسرائيل. (فلنضحك ساخرين أو لنشمئزّ كثيرًا) أمّا “عمر المختار” فقد فهم منذ اللّحظة الأولى أن لا مفاوضات مع المحتلّ كما فهم بعده العظيم “جمال عبد الناصر” في مصر حتّى بعد الهزيمة، وكما فهم بعده أيضًا العظيم “هو تشي منّه” في فيتنام. ولذلك كان هذا المبدأ الحكيم من مقولات “عمر المختار” المأثورة: “التّردّد أكبر عقبة في طريق النّجاح”، وكان يعرف أنّ اللّجوء للمفاوضات الّتي لم يقتنع بها مع الإيطاليّين كان نتيجة طبيعيّة لتردّد البعض من الّذين يعوّلون على الوعود الإيطاليّة “العرقوبيّة” المكشوفة له بوضوح، ولكنّ الأمر مختلف عند السّنوسيّين الّذين أبرموا مع الإيطاليّين اتّفاقًا عرف باسْم اتّفاق “الرّجمة” في سنة (1920) والذي اعتُرف بموجبه بِ “السّنوسيّ” أميرًا حاكمًا في “بُرقة” بنظام حكم وراثيّ ينحصر به وبأولاده. “وكفى الله المؤمنين القتال”.
ومع ذلك كان يلجأ لتلك المفاوضات إرضاء لفريق معه أو لجهة ذات نفوذ وتأثير على جماعة من الشّعب اللّيبيّ، أو لإقناع اللّيبيّين بالانضمام إلى المقاومة، لأنّ “غراتسياني” القائد الإيطاليّ كان ينجح بالتّرهيب والتّرغيب أحيانًا في إقناع عدد من رؤساء القبائل بالكفّ عن دعم الثّوّار، وقد أغراهم بالمال والدّعم المادّيّ. ومن ناحية أخرى بدأ “الرّضا السّنوسيّ” بمفاوضات مع الإيطاليّين، وطلب من “عمر المختار” التّوقّف عن قتال الإيطاليّين إلى أن تتّضح الصّورة، وافق على مضض إرضاء له لفترة قصيرة. ولكسب الوقت قرّرت الحكومة الإيطاليّة البدء بمفاوضات مع “عمر المختار” وماطلت في عقد اللّقاءات معه كي تكثّف قوّاتها وتعيد تنظيمها، من ناحيته رفض “عمر المختار” كلّ الاقتراحات الإيطاليّة لأنّها لم تضمن أيّ حقّ سياسيّ أو وطنيّ للّيبيّين. كان يعلم أنّ المفاوضات مع الإيطاليّين يريدونها لكسب الوقت والتجهّز ولإبعاد الناس عن المقاومة، وتبديد القوى الثّوريّة الفاعلة ضدّهم وبكافّة الوسائل. في سنة (1923) ألغت الحكومة الفاشيّة وتنصّلت من كلّ الاتّفاقيّات مع السّنوسيّين. تأكّد “عمر المختار” أن لا جدوى للمفاوضات مع المحتلّ المستعمر، فخطب في أبناء شعبه ومجاهديه قائلًا: “فليعلم إذًا كلّ مجاهد أنّ غرض الحكومة الإيطاليّة إنّما بثّ الفتنة والدّسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتّحادنا ليتمّ لهم الغلبة علينا واغتصاب كلّ حقّ مشروع لنا، كما حدث كثير من هذا خلال الهدنة، لكن بحمد الله لم توفّق إلى شيء من ذلك”.
معركتان والحرب سجال:
وتوالت ضربات المقاومة بقيادة “عمر المختار” فقرّر الإيطاليّون تشديد قبضتهم لإخضاع اللّيبيّين بالقوّة الوحشيّة والقتال الدّامي. في سنة (1927) تولّى “مازيني” منصب القائد العامّ للقوّات الإيطاليّة في ليبيا، وكان عضوًا في الحزب الفاشيّ، وظلّ القائد “غراتسياني” معه، فوجّهه لاحتلال “جغبوب” منارة العلم، وقد نجح في احتلالها واحتلال مناطق أخرى غيرها، لكنّ ذلك لم يوقف “عمر المختار” عن مقارعة الإيطاليّين، ففي يوم 28 تمّوز، سنة (1927) وقعت معركة بين المجاهدين والإيطاليّين كبيرة بحجمها وبحجم انتصارها عرفت بمعركة “الرّحيبة”، قادها القائد الإيطاليّ “باتي” الذي لم يقدّر جيّدًا أعداد الثّوّار ولا قوّة المقاومة وشراستها وبعد هجمات مركّزة ومتتالية للثّوّار اللّيبيّين بقيادة “الأسد الشّيخ” هُزِمت فيها القوّات الإيطاليّة وانسحبت متكبّدة خسائر جسيمة بلغت 6 ضبّاط كبار وَ 304 جنود، ما يعني نصف القوّة التي شاركت في هذه المعركة، أضف ما لاقاه الجيش الإيطاليّ من ذلّ وهوان وما أدّته من ارتفاع في معنويّات الثّوّار، الأمر الذي جعل القيادة الإيطاليّة تحضّر لمعركة تستعيد فيها شيئًا من هيبتها المفقودة، فدفعتها تلك الهزيمة إلى تكثيف القوّات استعدادًا لاحتلال “الجبل الأخضر” وشملت القوّات هذه المرّة دبّابات وسيّارات مصفّحة وشارك سلاح الطّيران الإيطاليّ أيضًا، اشتبكت هذه القوّات مع قوّات الثّوّار التي بلغت ألفيْ جنديّ في معركة “أم الشّفاتير”، بعد شهر واحد من معركة “الرّحيبة”، التي كانت المواجهة فيها مباشرة بين الفريقيْن كما المعركة الثّانية التي لم يقدها “عمر المختار”، فقد كان في جانب آخر من القتال. لقد ساعد القصف الجويّ والبريّ الإيطاليّين على كسب هذه المعركة بعد كرّ وفرّ وانتهت بانتصارهم، وخسر الثّوّار 200 شهيدًا كان الأطفال والنّساء من بينهم، بسبب القصف الوحشيّ. لقد تعلّمت المقاومة درسًا تكتيكيًّا هامًّا، ففي المواجهة المباشرة والحرب المفتوحة مع العدوّ ونتيجة لتفوّقه الكميّ والنّوعيّ، فإنّ احتمالات الانتصار قليلة، ولذلك قرّر القائد “عمر المختار” العودة إلى أساليب حرب العصابات، وبه استعادوا هجماتهم المتقطّعة والخاطفة، وعادوا إلى تكبيد القوّات الإيطاليّة خسائر متوالية. “إنّ الضّربات الّتي لا تقصم ظهرك تقوّيه”. وقال: “لئن كسر المدفع سيفي، فلن يكسر الباطل حقّي”. أو برواية شبيهة أخرى: “يستطيع المدفع أن يسكت صوتي، ولكنّه لا يستطيع إلغاء حقّي”.
أولى المعارك وأخراها صمود دائم:
“إنّني أؤمن بحقّي في الحرّيّة، وحقّ بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من أيّ سلاح”، هذا هو المرتكز النّضاليّ الأساسيّ الذي آمن به واستند إليه “عمر المختار” منذ معركته الأولى مع العدوّ الإيطاليّ المغتصب للوطن والحرّيّة. فمنذ معركة “السّلّاوي” الأولى في المواجهة العسكريّة سنة (1911) حتّى آخر معركة سنة (1930) والّتي كبا فيها حصانه ومات وسقطت نظّاراته، عثر الإيطاليّون على النظّارات والحصان فقال “غراتسياني” بأمل وخبث: “لقد أخذنا اليوم نظّارات المختار، وغدًا نأتي برأسه”. في 11 أيلول سنة (1931) وقرب “عين اللّفو” كان آخر اشتباك مسلّح بين قوّة من الثّوّار بقيادة “عمر المختار”، كان مع رفاقه في زيارة ضريح الصّحابيّ “رويفع بن ثابت” بمدينة البيضاء. حرّكت القيادة الإيطاليّة بعض فصائل مرتزقيها من اللّيبيّين والإريتريّين لمطاردة القائد ورفاقه. وعلى لسان المجاهد “التّواتيّ عبد الجليل المنفيّ” الذي كان شاهدًا على اللّحظة التي أُسر فيها “عمر المختار” على يد الجيش الإيطاليّ قال: “كنَّا غرب منطقة “سلنطة” هاجمنا الأعداء فقُتل حصان “سيدي عمر المختار”، فقدَّم له ابن اخيه المجاهد “حمد محمّد المختار” حصانه وعندما همَّ بركوبه هجم الأعداء عليه، ورآه أحد المجنّدين العرب المرتزقة الخونة (وهو مجاهد سابق له دوره) ذُهل واختلط عليه الأمر وعزَّ عليه أن يُقبض على “عمر المختار” فقال: “يا سيدي عمر .. يا سيدي عمر” فعرفه الأعداء وقبضوا عليه. ما أشبه هذا النّداء الخائن للعميل العربيّ بقبلة “يهوذا الإسخريوطيّ” عندما دخل على “المسيح” وكانت القبلة علامة التّعريف عليه. بعد الاعتقال أخذوه إلى معتقل في “سوسة” وهناك جاء الكومندار “دودياتشي” الّذي كان شريكه في المفاوضات وأكّد شخصيّته، ومن “سوسة” مكبّلًا بالسّلاسل إلى “بنغازي” وخلال الطّريق كان يجيب بهدوء وبصوت ثابت على أسئلة السّياسيّين الإيطاليّين الذين تجمّعوا في الميناء مع الصّحفيّين والمواطنين ليشاهدوا “الأسد الشّيخ” الّذي قارع وقاتل الاحتلال الإيطاليّ لعشرين عامًا. هل تذكرون الرّحلة الشّاقّة التي سيق بها “آل البيت” بعد استشهاد “الحسين” من رجال ونساء وأطفال بجيش “يزيد” الإجراميّ والسّفّاح إلى الشّام لإذلالهم وتركيعهم. فهل ركعوا وذلّوا أم كان الجواب “هيهات منّا الذلّة”! وهكذا سيكون جواب “عمر المختار” بعزّ وشموخ “نحن لن نستسلم ننتصر أو نموت”!
الأسد الشّيخ وأسد الصحراء:
في السّجن وقبل لقائه مع الجنرال “غراتسياني” القائد العامّ للقوّات الإيطاليّة حينما اعتقل “عمر المختار”، أرسلوا إليه صديقه القديم “الشّارف الغريانيّ” المتعاون مع الاحتلال، على اعتبار أنّ “عمر المختار” قد طلب لقاءه وَ “عمر المختار” لا يعلم بل تفاجأ برؤيته أمامه في السّجن فقال له: “ما وددت أن أراك هكذا ولقد أرغمت نفسي للمجيء بناءً على طلبك”، فقال “عمر المختار” متعجّبًا: والجبل الشّامخ أنا لم أطلبك ولن أطلب أحدًا ولا حاجة لي عند أحد”، ووقف دون أن ينتظر جوابًا من “الشّارف الغريانيّ”. عاد الأخير إلى منزله مهمومًا حزينًا وقد صرّح بأنّه شعر في ذلك اليوم بشيء ثقيل في نفسه ما شعر به طيلة حياته، ولمّا سُئل “الشّارف الغريانيّ” عن نوع الثّياب التي كان يرتديها “عمر المختار” أهي ثياب السّجن أم ثيابه التي وقع بها في الأسر كان جوابه بيتيْن من الشّعر:
“عليْهِ ثيابٌ لوْ تُقاسُ جميعُها – بفلسٍ لكانَ الفلسُ منْهنَّ أكثرا
وفيهنَّ نفسٌ لوْ تُقاسُ ببعضِها – نفوسُ الورى كانَتْ أجلَّ وأكثرا”
يكبو الحصان ولا يكبو الفارس، ها هو “الأسد الشّيخ” أسيرًا في مكتب “غراتسياني أسد الصّحراء” عدوّه اللّدود، قطع رحلته إلى روما وعاد إلى “بنغازي” عندما سمع بخبر اعتقال “عمر المختار” في (14 أيلول، سنة 1931) في صباح اليوم التالي (15 أيلول) جرت المقابلة بين الاثنيْن في مكتب “غراتسياني”، الّذي كتب عنها بالتّفصيل في مذكّراته، فمن أقوى نفسًا وشكيمة وإصرارًا الآسر أم المأسور! المفاجأة الكبرى للقائد الإيطاليّ أنّ الأسير “عمر المختار” كان يمتاز بهدوء رغم كلّ ما يعانيه من تعب الرّحلة والجروح في جسده وثقل القيود والسّلاسل في يديْه ورجليْه، انبهر “غراتسياني” بهذا الرّجل الذي قال عنه في مذكّراته “إنّه أسطورة الزّمان الذي نجا آلاف المرّات من الموت ومن الأسر، واشتهر عند الجنود بالقداسة والاحترام لأنّه الرّأس المُفكّر والقلب النابض للثّورة العربيَّة الإسلاميَّة في “بُرقة” وكذلك كان المُنظّم للقتال بصبر ومهارة فريدة لا مثيل لها سنين طويلة، والآن وقع أسيرًا في أيدينا”. وعند سؤال “غراتسياني” وطلبه من “عمر المختار” بأن يصدر أمرًا للثّوّار بترك المقاومة: “لما لك من نفوذ وجاه، في كم يوم يمكنك أن تأمر الثّوّار بأن يخضعوا لحكمنا ويسلّموا أسلحتهم”! فأجاب “عمر المختار” منكرًا: “لا يُمكنني أن أعمل أيّ شيء، وبدون جدوى نحن الثّوّار سبق أن أقسمنا أن نموت كلَّنا الواحد بعد الأخر ولا نستسلم ولا نلقي السّلاح”! يستطرد “غراتسياني” حديثه: “وعندما وقف ليتهيّأ للانصراف كان جبينه وضّاء، كأنّ هالة من نور تحيط به، فارتعش قلبي من جلالة الموقف، أنا الّذي خاض المعارك والحروب العالميّة والصّحراويّة، ورغم هذا فقد كانت شفتاي ترتعشان ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد، فأنهيت المقابلة وأمرت بإرجاعه إلى السّجن لتقديمه إلى المحاكمة في المساء، لقد خرج من مكتبي كما دخل عليّ وأنا أنظر إليه بكلّ إعجاب وتقدير”.
لا المحاكمة ولا الإعدام نهاية:
والمريع والمثير والذي يدعو للسّخط والاشمئزاز من كلّ احتلال أو ظلم أو استغلال، أنّ المسؤولين المحتلّين الظّالمين والمستغلّين يملكون من الوحشيّة والاضطهاد ما لا يُتوقّعه عقل ولا يتصوّره خيال! إنّهم أعدّوا وسائل الإعدام وأقرّوا مكانه وزمانه قبل المحاكمة، واستبدلوا المدّعي العامّ الإيطاليّ لأنّه أظهر قليلًا من التّعاطف مع “الأسد الشّيخ” ابن الثّالثة والسّبعين والمدجّج بالسّلاسل، استبدلوه بنائب عامّ يهوديّ اسْمه “بيدندو” وبعد سؤاليْن اثنيْن: “هل قاتلت القوّات الإيطاليّة طيلة عشرين عامًا؟ ولماذا قاتلتنا”. قال “عمر المختار” بهدوء الواثق وصراحة مذهلة: “نعم قاتلتكم لأنّكم مغتصبون وقتالكم فرض علينا، ولن أفكّر بالهرب ولن استسلم! نحن نموت ولا نسلّم ولا نلقي سلاحنا”. بعد السؤاليْن طلب المدّعي العامّ اليهودي الحكم بالإعدام! محامي الدّفاع وكان ضابطًا إيطاليًّا شابًّا يدعى “روبرتو لونتانو”، حاول أن يبقي على حياة “عمر المختار”، فطالب بالسّجن المؤبَّد حكمًا عليه، نظرًا لشيخوخته وكِبر سنّه، بحجّة أنَّ هذا عقاب أشدّ قسوةً من الإعدام.
لمّا حكم القاضي على “عمر المختار” بالإعدام شنقًا حتّى الموت قهقه بكلّ شجاعة قائلًا: “الحكم حكم الله لا حكمكم المزيّف”. “نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت ولا تظنّوا أنّها النّهاية، سيكون عليكم أن تقاتلوا هذه الأجيال والأجيال التي تليها”، لا نهاية لمقاومة الظّلم والاحتلال هذا هو المبدأ الإيمانيّ الوطنيّ الرّاسخ الذي آمن به “عمر المختار” وسار عليه قولًا وفعلًا. “صاحب الحقّ يعلو وإن أسقطته منصّة الإعدام”. لقد كانت المحاكمة صوريّة بامتياز. وما كان يُرجى من الإعدام بعد سقوط القائد والمخطّط والمدبّر من تثبيط لعزيمة الثّوّار وسقوط المقاومة لم يحدث، العكس هو ما حدث فقد ازدادت المقاومة تصميمًا وإرادة على القتال، فغدا الإعدام والسّقوط علوًّا وشموخًا وإلهامًا حتّى خسارة إيطاليا الحرب العالميّة الثّانية فتركت ليبيا بعد دخول الحلفاء إليها سنة (1943)
بين يوم الاعتقال في (11 أيلول سنة 1931) وحتّى يوم الإعدام في (16 أيلول) لم يمرّ إلّا بضعة أيّام قليلة، ممّا يؤكّد أنّ حكم الاستعمار لا يقوم إلّا على الظّلم والوحشيّة، وبين المحاكمة والإعدام لم تمرّ إلّا ليلة واحدة! وكان أعظم ما في حياة “عمر المختار” يوم إعدامه الثّوريّ في (16 أيلول سنة 1931) وما تركه من أثر طيّب وخالد في النّفوس المؤمنة بحرّيّة الوطن إنّه يوم مشهود في حياة اللّيبيّين وفي حياة الثّورة ضدّ الظّلم ومقاومة الاستعباد في كلّ مكان وزمان. يوم كان له ما قبله من تصميم على المقاومة وسيكون له ما بعده على أبد هذا الطّريق الإنسانيّ حتّى يموت الوحش، وشهدنا نهاية الوحش الإيطاليّ! أمّا “عمر المختار” ويوم إعدامه فكانا بداية ثوريّة وظلّا علمًا خفّاقًا وغضبًا ساطعًا وأملًا مشرقًا يرفرف في وجدان الشّعوب الفقيرة ويملأ نفوس المظلومين المعذّبين في هذه الأرض تصميمًا ومقاومة.
نحني هاماتنا وكلّ اعتزازنا القوميّ:
أمام هذه القامة النّضاليّة السّامقة التي لم تنحنِ لغير الله، يجب أن نتشرّف ونحني هاماتنا وكلّ اعتزازنا بتاريخنا المجيد وإنجازاتنا القوميّة والسّياسيّة على المستوى العربيّ، أمام قامة “عمر المختار” لا قامات تعلو. أحضروا 20 ألفًا من الأهالي ليشاهدوا إعدامه وسقوطه فرأوا شموخه وخلوده، أمروهم بالصّمت، فعلت أصواتهم “يا أيتّها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة” وهدّدوا بالتّعذيب لكلّ من يذرف دمعة أو يصدر صوتًا حزينًا، فبكى “جربوع عبد الجليل” وضُرب ضربًا مبرحًا، صرخت: “فاطمة العبّاريّة” وندبت فجيعة الوطن، فقال عنها الإيطاليّون: “المرأة التي كسرت حاجز الصّمت”.
بعد يوميْن من استشهاده نقلت جريدة “الأهرام” المصريّة خبرًا تحت عنوان “أسر عمر المختار وقتله، بطل العروبة والإسلام”. وقالوا عنه الكثيرون، وبخاصّة أعداءه، “غراتسياني” قال: نزيه، متواضع، حادّ الذّكاء، قاسي الطّباع، واسع الثّقافة، فقير لا يملك شيئًا، متديّن جدًّا مخلص لوطنه، لا يلين ولا يهادن، موضع احترام لدى شعبه، لم يخن وطنه وسلك بعكس صالحنا دائمًا”. حاكم “بُرقة” الإيطاليّ بين عامي (1927 – 1929) “إتيليو تروتسي” كان العدوَ الأوّل لِ “عمر المختار” طوال سني حكمه في “بُرقة” إلّا إنّه وصفه في مذكّراته المنشورة بعنوان “بُرقة الخضراء” بأنّه “الرّجل الّذي لا يسعنا إلّا أن نعترف له بالصّمود وبقوَة الإرادة الخارقة حقًّا”. صحيفة “التّايمز” البريطانيّة في اليوم التالي لإعدامه كتبت مقالًا، وصفته فيه بِ “الرّجل الرّهيب” وَ “شيخ القبيلة الضّاري العنيف الذي بقي لسنواتٍ طويلةٍ يمثّل روح المقاومة العربية”. ومن شدَّة رمزيَّة “عمر المختار” في ليبيا خصوصًا، أقدم رئيس الوزراء الإيطاليّ “بيرلسكوني” على الانحناء أمام نجله “محمّد المختار”، وقبَّل يده معتذرًا عن كلّ المآسي التي تسبّبت بها إيطاليا للشّعب اللّيبيّ. تمّ بناء ضريح كبير في “بنغازي” ونقلت رفات “عمر المختار” في حفل كبير ليكون قبلة السّيّاح والزّوّار من جميع أنحاء العالم، بمن فيهم الرّؤساء العرب والأجانب الّذين زاروا ليبيا، إذ كانت زيارة ضريح “عمر المختار” جزءًا هامًّا يحمل رمزيّة مشرّفة. ولكن بطلب من أسرته أعيدت رفاته للدّفن في بلدة “سلوق” حيث أعدم واستشهد.
ترك “عمر المختار” ستّة من الأولاد والبنات، أصغرهم “محمّد” الّذي ذُكر آنفًا، وقد تكلّم بمقابلة صحفيّة وهو فوق الثّمانين من العمر، عن تاريخ أبيه فأسهب في تفاصيل الأحداث وحول شخصيّة والده الّذي نعته دائمًا بِ “الأسد”، وقد أجرت المقابلة معه جريدة “الهدهد” ومن أشهر ما قال فيها: ” الضّابط الإيطاليّ الّذي أعدم أبي ألّف كتابًا عنه”. نحني هاماتنا إجلالًا مرّات ومرّات حتّى تحتكّ جبهاتنا بالتراب كما احتكّت هامتك بالسّحاب أيّها الأسد، يا “سيدي عمر”.
مصدر إلهام ثوريّ وفنيّ:
عندما اندلعت ثورة 17 شباط ضدّ حكم “القذافيّ”، سار الثّوَّار على نهج “عمر المختار” واتّخذت آراؤه وأقواله مصدرًا لإلهام الثّورة، فمنذ اللّحظة الأولى لخروج اللّيبيّين إلى الشّوارع للتّظاهر، رفعت صور “عمر المختار”، كرمز ثوريّ مقاوم للظّلم والاستبداد على النّظام الدّكتاتوريّ الّذي نهب ثروات البلاد، فخرج الشّعب اللّيبيّ لإسقاطه، وشوهدت شعارات أخرى تحمل أقوالًا مشهورة لِ “عمر المختار”، لعلّ أبرزها “نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت”. وبعد سقوط النّظام عبَّر “محمد الشريف” رئيس المجالس المحليَّة بالمجلس الانتقاليّ الوطنيّ اللّيبيّ فقال: “إنَّ “عمر المختار” لهو المصباح الذي سارت على هديه الثّورة”.
تناولت أعمال أدبيّة “عمر المختار” كمناضل عظيم أشهرها ما قاله أمير الشّعراء “أحمد شوقي” بقصيدة:
“ركزوا رفاتَكَ في الرّمالِ لواءَ – يسنهضُ الوادي صباحَ مساءَ
جرحٌ يصيحُ على المدى وحميّة – تتلمّسُ الحرّيّةَ الحمراءَ
يا أيُّها السّيفُ المجرّدُ بالفلا – يكسو السّيوفَ على الزّمانِ مضاءَ
أفريقيا مهدٌ للأسودِ ولحدُها – ضجّتْ عليْكَ أراجلًا ونساءَ
يا أيُّها الشّعبُ القريبُ أسامعٌ – فأصوغُ في عمرَ الشّهيدِ رثاءَ
ذهبَ الزّعيمُ وأنتَ باقٍ خالدٌ – فانقذْ رجالَكَ واخترِ الزّعماءَ
وأرحْ شيوخَكَ منْ تكاليفِ الوغى – واحملْ على فتيانِكَ الأعباءَ”
وقد وظّفت شخصيّة العظيم “عمر المختار” وشخصيّة العظيم “جمال عبد النّاصر” كثائريْن ضدّ الظّلم ومقاوميْن لأعداء الشّعوب في قصيدة لي أثناء الثّورة اللّيبيّة على نظام “القذّافيّ” الدّكتاتوريّ وقبل سقوطه وقتله، بعنوان “أبدأت تحصي من معك” ونُشرت في ديواني الأخير بعنوان “أنا مع الحسين ولست مع يزيد” الذي صدر في آذار (2020) وقلت فيها:
“ليبيا تحبُّكَ كلُّها/ يا كذبةَ التّاريخِ/ يا نكتةَ الأيّامِ/ مَن ذا أقنعَكْ/ قمْ يا عمرْ/ بقامتِكَ المديدةِ للسّما/ واهجرْ ترابَكَ والقبورْ/ أصغِ لمَنْ خانَ الخُطبْ/ وانظرْ إلى مَنْ مجدَكَ السّامي هتكْ/ قمْ يا جمالُ/ يا ناصرًا شرفَ العروبةِ كلَّهُ/ وانظرْ لمَنْ طعنَ العروبةَ والعربْ/ يا ماردًا طولَ الجبالِ/ قزمٌ رخيصٌ يدّعي قدْ ذوّتَكْ.
في السّينما ظهرت شخصيّة “عمر المختار” في فيلم “أسد الصّحراء” من إنتاج سنة (1981) ومن إخراج العظيم “مصطفى العقَاد”، وهو فيلم ناطق باللّغة الإنجليزيَة، لعب فيه الممثّل المكسيكيّ – الأمريكيّ القدير “أنطوني كوين” دور “عمر المختار”، وقد ظهر فيه “كوين” شديد الشّبه به، بعد أن أطلق لحيته وقد أدّى الدّور بفنّيّة عالية المستوى. وعُرض الفيلم في الصّالات السّينمائيَّة سنة (1981)
وتخليدًا له تظهر صورة “عمر المختار” على العملة الورقيَّة اللّيبيَّة من فئة عشرة دنانير، وفي “غزّة هاشم” في فلسطين المحتلّة يحمل الشّارع الكبير الذي يشقّ المدينة على طولها من الشّرق إلى الغرب اسْم “عمر المختار”. يا “سيدي عمر” لقد أعدموك فقتلوا جسدك الفاني لكنّك لم تمت، غيّبوا جسدك على صارية الشّرف والمجد، لذلك ستبقى روحك الطّاهرة بشارة نور خالد للمضطهدين المعذّبين في الأرض حتّى تقوم قيامة السّماء على الظّلام والظّالمين.