الأستاذ سليم ونشيد الاستقبال
تاريخ النشر: 20/11/20 | 9:40قصة قصيرة
بقلم: نعمان إسماعيل عبد القادر
كنا في الصف الخامس، وكان الأستاذ سليم من أكثر المعلمين المواظبين في مدرستنا. فهو معلّم لا يعرف الغياب ولا التأخير. والأستاذ سليم هذا الذي تجاوز العقد السادس من عمره، أصلع الرأس، أبيض البشرة، متوسط القامة، جاء مع من جاءوا من بغداد واستقروا في بلادنا، وحصل على وظيفة معلّم في مدرستنا لتدريس الصبيان اللغة العبرية التي بدأنا في تعلّمها منذ بداية الصّف الثّالث. لهجته العراقية التي لم نفهم بعضا من مفرداتها، ولم نجرؤ عن سؤاله عنها، كانت تدفعنا في أحايين كثيرة إلى الضحك في أعماق ذواتنا، ومن ثم إلى تقليد حركاته وترديد كلماته الجديدة على مسامعنا بعد انتهاء الحصة وخروجه من غرفة الصف. وكان من عادته أن يحتفظ بداخل حقيبته الصغيرة المصنوعة من الجلد بطعامه اليومي، وبعصا متوسطة يخرجها حال وصوله الغرفة ويضعها على الطاولة في إشارة منه إلى عقاب كل من تسول له نفسه أن يتحدث مع زميله، فنلتزم الصمت، أو كل من لم يقم بنسخ الدرس ثلاث مرات في البيت كما عوّدنا.
وكان قد علّمنا نشيدًا ننشده كل يوم استقبالا له وترحيبا به كأننا في جوقة موسيقية تستقبل أحد الرؤساء أو ملوك الدول، نردده أمامه إذا حضر ودخل الغرفة وقال لنا “بُوقِرْ طُوفْ”- صباح الخير- نقول له ونحن واقفون له بصوت عالٍ ثلاث مرات: “بُوقِرْ طُوفْ هَمُورِيهْ، بوقر طوف هموريه، بوقر طوف هموريه” وتعني: “صباح الخير يا معلم، صباح الخير يا معلم”. واعتاد إذا شرع في ضرب طالبٍ بعصاه على باطن كفّيْه أنْ يُردِّد ديباجته المشهورة: “احفظ درسك يا ولد!”.
في أحد أيام الشتاء، وكان الطقس غائمًا والجوُّ باردًا، إذ حضر إلينا متلحفًا بمعطف أسود طويل كاد أن يصل إلى قدميه، وطلب منا جميعا أن ننسخ الدرس خمس مرات كي يتسنى له تناول وجبة فطوره في الصف. إذ أخرج من حقيبته علبة صغيرة من اللبن فالتهمها بسرعة بملعقة صغيرة ثم أخرج بعدها حبة من الأفوكادو شَطَرها إلى نصفين وانهمك يحفر بها بملعقته الصغيرة. في تلك الأثناء نادته إحدى الطالبات، وتدعى “سميرة” وكان مقعدها قريب من باب الغرفة، قائلة له: “يا أستاذنا، ها هو مدير المدرسة قادم إلى غرفة صفنا”.
لم يتمالك الرجل نفسه، وأخذ يخفي آثار الطعام بسرعة عجيبة، ويدس كلَّ شيء في جيوب معطفه الجانبية الكبيرة، ثم أمسك الكتابَ وقال بصوت عالٍ وكأنه متفاعل معنا، منشغل في التدريس: ” أحسنت يا “رشيد” والآن جاء دورك يا أمين، هيا أسمعنا صوتك وأقرأ الدرس مرة أخرى!”. ثمّ قُرئ الدرس وكأنّ شيئا لم يحدث، وغادر المدير الصف وهو مسرور من أدائه المميز.
أتذكر ذات يوم بعد أن قرأ لنا نصًّا جديدًا بالعبرية، رفعتُ يدي اليمنى ومددتُ سبّابتي وقلت له بجرأةٍ لم أعتدها من قبل: “ماذا تعني كلمة بوخيهْ- בוכה يا أستاذنا؟” أجابني إجابة غير تربوية قائلا: “عيبٌ عليك يا ولد. عيب عليك ألا تعرف معنى هذه الكلمة، وهي كلمة تحمل نفس المعنى باللغة العربية. هيا اقرأ الدرس الآن بصوت عالٍ! بعد أن فرغت من قراءة الدرس أمام الحاضرين، تساءلت في نفسي، أي كلمة هذه التي تشبهها بالعربية؟ وهمستُ في أذن زميلي الذي يجاورني سائلا إياه عن معنى الكلمة، والهمسُ في درسه كان حرامًا وكلّ من يرتكب الحرام يعاقب. وكان جواب زميلي بأنه هو الآخر لا يعرف المعنى. ولا أدري كيف لاحظَنا من مكانه مع أننا كنا من الجالسين في المقاعد الأخيرة، فنادانا أن ائتيا إليّ في الحال، وضربنا نحن الاثنين كالمعتاد على باطن كفّيْنا أربع ضربات بعصاه المقدّسة وهو يردّد عبارته المشهورة قائلا: “احفظ درسك يا ولد!”.
في اليوم التالي أراد زملاؤنا الانتقام لنا منه ومن فعلته إذ تقدموا باقتراحات كثيرة كي يتوقف عن التنكيل بالطلاب ودبّ الرعب في قلوبهم، اقترح أحدهم ويدعى “عاطف” علينا جميعا أن نبدل حرفًا واحدًا من نشيد الاستقبال ليصبح: “بوقر طوف حموريه”.
وما إن حان موعد الدرس وسمع الأستاذ هذا النشيد الجديد إذ جُنّ جنونه وقال بلهجته العراقية: “ما أرزلكم ما أرزلكم يا كلاب!” وشرع يعاقبنا جميعا ذكورا وإناثا بالضرب أربع مرات على أيدينا واحدا تلو الآخر وهو يردد: “احفظ درسك يا ولد!”. ومنذ ذلك اليوم ألغى الأستاذ سليم قانون النشيد الذي فرضه علينا وعلى جميع الصفوف التي كان يدرّسها في المدرسة.