قلوب نقية // بقلم جميلة شحادة
تاريخ النشر: 23/11/20 | 8:30وصلت الى البيت مرهقة بعد نهار عمل شاق. رنّ هاتفها، الرقم، صاحبه غير معلوم لها، تردّدت ثوانٍ قبل أن ترد. نظرت الى ساعتها، فوجدتها تشير الى الثانية والنصف. يستحسن أن أردَّ. فكرت قائلة لنفسها، وتابعت تقول: قد يكون ولي أمر أحد الطلاب يريد أن يستفسر عن أمرٍ ما، ولا سيما أن العام الدراسي ما زال في بدايته، ولم يمضِ على افتتاحه سوى ثلاثة أيام فقط.
– مرحبا. ردَّت قائلة.
– مرحبا. هل أنتِ المعلمة سوسن؟
– نعم، مع من أتحدث لطفا؟
– انا المهندسة ريم، مديرة شركة للحواسيب، ووالدة رنيم.
– اهلا بكِ، لكن لا أظن أني أعلم طالبة باسم رنيم.
-صدقتِ سيدتي؛ رنيم ابنتي ليست من طالباتكِ، لكنها تتعلم مع ابنك تامر في ذات الروضة.
وضعت سوسن يدها اليسرى على فمها ومشت حتى وصلت أقرب أريكة ورمت بجسمها عليها. لم تعد ساقاها قادرتان على حمل جسمها؛ بدأ القلق يساورها، وقد تملّكتها الهواجس والوساوس؛ ماذا فعل تامر لابنتها؟ هل استحوذ على لعبتها؟ هل اعتدى عليها بالضرب؟ هل شتمها؟ هل… لكن، لكن لا يمكن، انا أعرف ابني. فكرت متحدثة مع نفسها. ثم رجعت بذاكرتها سنتين الى الوراء، عندما تمَّ تشخيص تامر وتصنيفه مع فئة الأطفال التوحديين. وعادت تقول لنفسها: صحيح أن تامر طفل توحديّ، لكنه بشهادة كل من عرفه، طفل مسالم، تشع من عينيه براءة ملائكية، جميل المنظر، ابتسامته مرسومة على وجهه كل الوقت تقريبا، وكل من نظر اليه يشعر بالسلام والطمأنينة. ثم؛ لماذا تتصل هي بي وليست المعلمة إذا أحدث تامر مشكلة في الروضة؟ وقبل أن تجهر سوسن بسؤالها، تنبّهت لأم رنيم تقول:
– لقد تحدثت مع المعلمة وأخبرتها أنه لا يمكن أن تتعلم ابنتي مع طفل توحدي. لن أرسل ابنتي الى الروضة حتى تنقلي ابنكِ الى روضة خاصة به.
– ولماذا لا تنقلين أنتِ ابنتكِ الى روضة اخرى؟ سألت سوسن بشيء من الحدة.
– تعلمين سيدتي أن هذه الروضة ليست للأولاد التوحديين؛ لذلك فأنتِ مَن عليكِ نقل ابنكِ.
– آسفة. لن أنقل ابني.
– إذن سأقدم دعوى قضائية ضد الروضة بهذا الشأن.
كانت سوسن تعرف حالة ابنها؛ فعندما كان بعمر الثلاث سنوات اكتشف الأطباء عجزه الذي أعاق تطوير مهاراته. لم يكن تامر يملك القدرة على التعبير عن نفسه من تلقاء نفسه، ولم يكن يملك المقدرة على التصور والتخيّل، وهو غير قادر على تحمّل المتغيرات التي تحدث من حوله، بل وغير قادر على ايجاد ألفاظ تمكّنه من التواصل مع الآخرين. غير أن أمه سوسن التي درست التربية الى جانب علم الحاسوب وقرأت الكثير عن التوحديين، لم تخضع لواقع ابنها، وأصرّت على تغييره. لقد راحت تكرس وقتا طويلا وتبذل جهدا كبيرا مع ابنها لتغيِّر من وضعه، أو لتحسنه على الأقل. لقد استطاعت سوسن كمعلمة للحاسوب أن تسخِّر الحاسوب لمساعدتها في التعامل مع ابنها، وأن تستعمله كأداة لتحسين حال ابنها وتطوير مهاراته، ونجحت بذلك ولا سيما أن حبها غير المشروط وتقبلها لابنها، كان لهما الدور الأكبر في نجاحها وفي تحسين وضع تامر الأمر الذي مكّن تامر من التعلم في روضة عادية.
حسِبت المهندسة ريم أنها بمكانتها ونفوذ عائلتها تستطيع فرض سطوتها وهيمنتها وإجبار الآخرين للرضوخ لرغبتها وتنفيذ قرارها بنقل تامر لروضةٍ أخرى، وعندما فشلت، لجأت لوسيلة ضغط أخرى، هي عدم إرسال ابنتها رنيم الى الروضة، وقدمت دعوى قضائية ضد المسؤولين عن الروضة عن طريق زوجها المحامي. كذلك راحت تجند لجانبها اولياء الأمور الذين على شاكلتها، وتحرضهم على المطالبة بنقل تامر.
اسبوع كامل لم تداوم رنيم في روضتها، بعده، بدأت ريم تحصي خسائرها، فغيّرت بعض بنود خطتها، ولا سيما ان البتّ في الدعوى القضائية التي رفعها زوجها لن يكون بين ليلة وضحاها. هي غير مستعدة أن تتغيب عن عملها لتبقى بجانب ابنتها في البيت. فقررت ان ترسل ابنتها الى الروضة، ولو لفترة مؤقتة.
مرت أيام؛ تلتها أسابيع؛ وسوسن لا تسمع أحد يطالبها بنقل ابنها من الروضة، كما لم توجّه لها أي مستند يخبرها عن رفع دعوى قضائية بشأن نقل ابنها. كانت سوسن مع مرور الوقت تلاحظ أن تامر، ابنها، أصبح يجيد التعبير عن نفسه أكثر، وينتظر كل صباح ليذهب الى روضته سعيدا. لقد أصبح أكثر تعلُّقا بروضته؛ وقد تحسّن وضعه النفسي.
أرادت سوسن أن تعرف أكثر عن وضع ابنها في الروضة؛ وأن تستفسر عمّا آلت إليه الدعوة القضائية المرفوعة بشأن نقل ابنها، فتوجهت للمعلمة مستفسرة.
– عن أي دعوة قضائية تتحدثين؟ سألت المعلمة، ولم تنتظر إجابة من سوسن بل تابعت قائلة: ليس هناك دعوة قضائية. ألم تخبركِ والدة رنيم عن مدى حب ابنتها لتامر وعن مدى تعلقها به كتعلقها بها وبأبيها؟!
************************
* من المجموعة القصصية، لا تحالف مع الشيطان، هي المجموعة القصصية الأولى للكاتبة جميلة شحادة.