العظماء (19) سيف بن ذي يزن قاهر الأحباش
تاريخ النشر: 08/12/20 | 12:08بقلم: علي هيبي
سيبقى اليمن سعيدًا:
عاد اليمن اليوم بلدًا عربيًّا، فقيرًا، مضطربًا، لا ينعم بأيّ استقرار، يئنّ تحت وطأة عدوان أميركيّ وحشيّ تنفّذه أسنان ومخالب عربيّة رجعيّة فاسدة، وحوشها قبيلة الفساد والظّلام والتّرف، مملكة العار والخيانة الّتي تحكم الآن في “الحجاز” حيث أسمى مقدّساتنا وأطهرها، فتدنّسها ولا تستطيع أن تحميها من “أبرهة ترامب” كما حماها “عبد المطّلب بن هاشم” من “أبرهة الأشرم”، فمن يفرّط بأولى القبلتيّن “القدس الشّريف” فسيفرّط بثانيهما وثالثهما إلى آخر المقدّسات، إنّها مملكة الجاهليّة الأولى والثّانية والثّالثة والرّابعة و….، بحكّامها وملوكها الأذلّاء الخانعين بقصورهم وقصورهم لدولة الطّاعون الأميركيّ في “البيت الأبيض” الّذي يحتقر كلّ شيء فيهم، ولا يعزّ إلّا ذهبهم الأصفر والأسود، إنّها الطّغمة السّعوديّة الوهّابيّة الظّلاميّة مذ كانت إلى يوم الدّين. ولكنّ اليمن سيبقى سعيدًا، أشمّ العرنين، كريمًا رغم أنوف من لا أنفة لهم ولا كرامة عندهم!
هكذا كان اليمن في الرّبع الثّاني من القرن السّادس الميلاديّ يئنّ تحت عدوان حبشيّ وحشيّ بدعم إمبرياليّ رومانيّ دنس، ليس فيه من المسيحيّة شيء، كما يئنّ اليمن الآن تحت هجوم سعوديّ وخليجيّ وحشيّ أشدّ دنسًا، ليس فيه من الإسلام شيء بدعم إمبرياليّ أميركيّ وغربيّ دنس، ليس فيه من المسيحيّة شيء كذلك. وأحرار اليمن قديمًا ينتظرون ويراقبون ويقاومون بقيادة الملك العظيم “سيف بن ذي يزن” الرّافض والمقاوم للاحتلال وبدعم فارسيّ ينتصرون، وأحرار اليمن اليوم ينتظرون ويراقبون ويقاومون ويضربون العدوّ بقيادة “عبد الملك برهان الدّين الحوثيّ” المقاوم للعدوان وبدعم إيرانيّ وسينتصرون هذه المرّة على العدوان السّعوديّ – الأميركيّ من “صنعاء” سيتصورون كما انتصر أجدادهم أوّل مرّة على الغزو والاحتلال الحبشيّ من “صنعاء” أيضًا.
أسياد وعبيد:
عندما كنت في خضمّ كتابتي لهذا النّصّ أمسكت بجريدة “الاتّحاد” وقرأت مقالة كتبها صديقي “محمّد بركة” رئيس لجنة المتابعة العربيّة العليا (صفحة 2) بعنوان “ملاحظتان في زمن الكورونا” وقد أعجبني توصيفه للحالة الرّاهنة والواقع المعيش تحت شبح هذه الجائحة ومستغلّيها المهيمنين المتغوّلين في الاحتكارات الرّأسماليّة، ونقلًا لفقرة ممّا جاء فيها: “هذا الواقع قد يعيد إنتاج مجتمع العبيد والأسياد بشكل عصريّ وجديد مع تطويع الإمكانيّات الإعلاميّة الهائلة العابرة للقارّات لخدمة المشروع الجديد”. وأنا أعتقد بعد موافقتي لرأيه وتعليقًا عليه أزيد، لو تسنّى لِ “ترامب” وسياسة دولته/ إمبراطوريّته العسكريّة الاستغلاليّة وهيمنته الاقتصاديّة وقدراته الإعلاميّة أن يحقّق ذلك اليوم بمساعدة مجروراته في العالم العربيّ كالسّعوديّة ودول الخليج الذّليل، وفي أميركا اللّاتينيّة كأنظمة الدّمى الأميركيّة في بوليفيا وهندوراس والبرازيل، لو تسنّى له الآن لفعل ذلك بلا تردّد وأعاد العالم إلى التّقسيمة الّتي يرغب فيها: قلّة من الأسياد المسيطرين المخدومين وكثرة من العبيد مسلوبي الإرادة، الّذين يخدمونهم بالسّخرة أو باللّقمة بلا كرامة وبلا حرّيّة وبلا أيّ حقوق تُذكر، هذا إذا بقي من العبيد الكثير ولم يتعرّضوا للإبادة بالكورونا ظاهرًا وبالأسلحة الفتّاكة المرئيّة وغير المرئيّة فعلًا، لأنّ تحقيق الأرباح الماليّة وفقًا لآلة التّفكير الاقتصاديّة “التّرامبيّة” وأرباب المال صارت في هذا الزّمان الأعوج والأهوج أهمّ من حياة البشر. ليس المهمّ كم يعيش من النّاس أو يموت بل المهمّ هو كم نربح من المال من حياتهم أو موتهم، وعند هؤلاء الأرباب الوحوش المجرمين موت النّاس يدرّ ربحًا أكبر.
يجب تصحيح هذا الاعوجاج الحيوانيّ وإعادة الزّمان إلى رشده الإنسانيّ أيّها العبيد!
كما كانت الإمبراطوريّات القديمة: الفارسيّة والرّومانيّة قبل الميلاد وبعده، كذا العقليّات الاستعماريّة البريطانيّة والفرنسيّة والألمانيّة في منتصف القرن العشرين، والآن في الرّبع الأوّل من القرن الحادي والعشرين تأتي هذه السّياسة والهيمنة أشدّ شراسة وإجرامًا ونهبًا حتّى من النّازيّة الألمانيّة والفاشيّة الإيطاليّة. ولنا في الحرب على اليمن الآن أوضح نموذج لهذه الوحشيّة الإرهابيّة الاستغلاليّة الّتي تبغي السّيطرة على النّفط والثّروات وعلى “باب المندب” والبحر الأحمر والمنافذ المائيّة ومحاصرة إيران وتدمير الشّام والعراق وتطويع كلّ العرب خدمة للمشاريع الصّهيو – أميركيّة، لتصبح المنطقة مهدًا وثيرًا لإسرائيل تنام فيه آمنةً مطمئنّةً بمزيد من سياسة الاستيطان والضّمّ والهيمنة، كما ينام رضيع في حضن أمّه في ليلة عربيّة ساجية القصور لا حراك فيها، لا ذئب يعوي ولا جرو “ينعوص” ولا قطّ يموء. هكذا كان الفكر الاستعماريّ المتوحّش منذ فجر التّاريخ ولم يقلع ولن يقلع عن وحشيّته إلّا إذا ثارت الشّعوب ضدّ الوحش ومن أجل حقوقها الأساسيّة في الاستقلال والحرّيّة والحياة الكريمة، تمامًا كما فعل شعب اليمن قديمًا ضدّ الاحتلال الحبشيّ وكما يقاوم الآن ضدّ الهيمنة الأميركيّة ومجرورتها السّعوديّة الخنوعة، وتمامًا كما قاومت الشّعوب في شمال أفريقيا وجنوبها وفي أميركا اللّاتينيّة وفي آسيا وشبه الجزيرة الهنديّة والهند الصّينيّة، حتّى طردت المحتلّين، وتمامًا كما يتصدّى الشّعب الفلسطينيّ الآن للاحتلال الإسرائيليّ الغاشم والظّالم، ولن يدع هذا الاحتلال ينام مطمئنًّا آمنًا حتّى لو طالت اللّيالي العربيّة السّاجية في القصور الملكيّة والجمهوريّة.
إنّه اليمن السّعيد:
إنّه اليمن السّعيد من الأزل إلى الأبد، يمن عريق بحضارته وأمجاده ورجاله الأشدّاء الّذين قاتلوا أعداءه ببسالة وقاوموا وظهورهم إلى الجدران محتلّي الوطن الحبيب ومدنّسي ثراه الطّاهر، أولئك هم الّذين شيّدوا الحضارة وأتقنوا فنون العمران ووفدوا إلى التّاريخ من سدّ “مأرب” وقصر “غمدان” وانتصارات العظيم “سيف بن ذي يزن” على ممالك الطّاعون والأخاديد القديمة “قُتل أصحاب الأخدود”، لم يستكينوا لضيم ولا خضعوا لمعتد أثيم، بينما تخضع لأسيادها القبيلةُ السّعوديّة برمّتها ورممها وأموالها وبترولها وشماغات العار على رؤوس ملوكها وعباءات الخزي الّتي تلفّعهم من أساسهم وتنتهي بعُقُل الدّنس المقصّبة الّتي ازدادت دنسًا من راسهم.
إنّه اليمن الشّقيق المنبوذ من أشقّائه، هل يبتغون إلقاءه في غياهب الجبّ للعبث بمقدّراته وثرواته وبيعها بثمن بخس أمام عينيْ ذليل مصر الجديد العسكريّ اللّامع لعزيز أميركا وعظيم اليهود! إنّه اليمن عصيّ الدّمع وعصيّ على الكسر، الوافر العزيمة والثّبات والقادر على القتال حافيًا عاريًا، والقادر على ضرب العدوّ العربيّ الخليجيّ المطبّع وإيلامه، والقادر على عدم تمكين العدوّ غير العربيّ من راء المحيطات من تحقيق أطماعه وبرامج هيمنته، إنّه اليمن المتروك من إخوته في صحرائهم اليهوديّة ولا منّ ولا سلوى، ولكنّه سيبقى سعيدًا بفُتاته، بما بقي من خيراته، بصموده، بإيمانه الواثق بالنّصر، بالمساعدات المعنويّة والإمداديّة المتواضعة من أنصاره القليلين. إنّه اليمن المقاوم المنبوذ كفلسطين المتروكة سبيّة في صحراء الأرباع الخالية العربيّة، تتقاذفها أمواج البرامج الخيانيّة والتّطبيعيّة والصّفقات ذات القرون الناطحة للسّياسة الصّهيو – أميركيّة السّوداء القادمة من وراء البحار، من بيت الثّور الأبيض.
إنّه اليمن الّذي ذاد عن فلسطين بفرقة من الضّبّاط والجنود كجزء من جيش “الإنقاذ”، وقد ذكر الكاتب “سعيد نفّاع” في كتاب “جيش الإنقاذ وظلم ذوي القربى” وهو دراسة تاريخيّة لنشاطات هذا الجيش في فلسطين خلال النّكبة ومحاولاته العسكريّة الوطنيّة الصّادقة لإنقاذها، كتب وقد تشكّل هذا الجيش من متطوّعين عرب وغير عرب، وكانت الفرقة اليمنيّة سريّة هامّة من سريّاته، رابطت في تلّة “أبو شريتح” الواقعة غربيّ قرية “معليا”، لقد كانت هذه الفرقة اليمنيّة مصدر قلق للقوّات الصّهيونيّة الّتي قرّرت مهاجمتها ليلًا، فكمن اليمنيّون البواسل للقوّة الصّهيونية وقتلوا ستّة من أفرادها وجرحوا 21، وقد كانت هذه الفرقة آخر من غادر منطقة “ترشيحا”، وهي الّتي صدّت الكتيبة (92) من اللّواء التّاسع الصّهيونيّ (عوديد) وأبلت في قتاله بلاء منقطع النّظير، ويعود إليها الفضل في تغطية انسحاب كلّ فرق جيش “الإنقاذ” من المنطقة بلا خسائر. (هذه المعلومات استمدّها الكاتب من مصادر تاريخيّة صهيونيّة وليست عربيّة وأهمّها “زوخروت”) جيش “الإنقاذ” هذا كان من الممكن أن ينتصر في الحرب على فلسطين لو آزره العرب رسميًّا وشعبيًّا ولم يشلّوا مقاومته وقتاله وإنجازاته العسكريّة، وكان يمكن لهذا الجيش تغيير الوعي الّذي ساد ويسود الآن بالذّات وأكثر من أيّ وقت مضى، أنّه من غير الممكن الانتصار على إسرائيل المدعومة أميركيًّا، ولم يجد أصحاب ذلك الوعي الانهزاميّ طريقًا إلّا الانبطاح والخنوع والتّطبيع المتهافت وكيل الاتّهامات المغرضة لهذا الجيش. ولكن هذا هو اليمن السّعيد وسيبقى سعيدًا، عزيزًا رجوليًّا بطوليًّا بمقاومته وجنوده وعروبته واختياراته الوطنيّة والقوميّة في وقت عزّ فيه الرّجال.
هل يعيد التّاريخ نفسه؟
كثير ما يتردّد هذا السّؤال. اليمن اليوم يتعرّض لعدوان سافر وجريمة نكراء، ترتكب فيه المجازر بحقّ المدنيّين من أطفال ونساء وشيوخ وتهدم المساجد والمعابد، حتّى المآتم والأعراس لا تسلم من القصف، وتنهب الثّروات وتغلق الحدود والموانئ والمطارات، ويمنع الطّعام والماء والدّواء، وتدمّر المعالم الحضاريّة والسّياحيّة والمنشآت الاقتصاديّة والمعاهد والمدارس والآثار الثّمينة الّتي لا تقدّر بمال، وحوش الأحباش الّذين ادّعوا المسيحيّة دينًا والمسيحيّة منهم براء فعلوا هذا التّخريب من قبل ألف عام وما زال التّخريب مستمرًّا على يد وحوش أحباش جدد يدّعون الإسلام دينًا والإسلام منهم براء. لا أحد يؤيّدها ويقف معها وقوفًا سياسيًّا واضحًا ولا أحد يساند حقّها في المقاومة وقتال العدوّ حتّى كفّ يده المجرمة إلّا إيران، سوريا وحزب الله اللّبنانيّ وبموقف شبه معلن يمدّونه بقليل من السّلاح والإمدادات الإنسانيّة المختلفة. ولكن مع اليمن تقف شعوب العالم كلّه وكلّ الأحاسيس الإنسانيّة. عندما زار “سيف بن ذي يزن” “كسرى” الفرس ليمدّه بمعونة عسكريّة لقتال الأحباش المحتلّين لبلاده رفض وأمدّه بالمال فقط، ولدى خروج “سيف” من القصر نثر المال على العامّة من أهل فارس في الطّرقات، فسمع “كسرى” بذلك فاستدعاه مستفسرًا، فقال “سيف” بشجاعة عزّ نظيرها: “لم آتِ لاستجداء المال فجبال بلادي ذهب وفضّة”. لهذه المواقف الشّمّاء ولذلك التّاريخ المجيد ولهذه البطولة الجسورة والرّجولة النّادرة سيبقى اليمن مهما اشتدّ أوار الظّلم والعدوان ومهما حلك ليل الجريمة وادلهمّ، سيبقى اليمن سعيدّا. ورحم الله الشّابّيّ التّونسيّ إذ قال:
“إذا الشّعبُ يومًا أرادَ الحياةَ -فلا بدَّ أنْ يستجيبَ القدرْ
ولا بدَّ للّيلِ أنْ ينجلي- ولا بدَّ للقيْدِ أنْ ينكسرْ”
والشّعب اليمنيّ يريد الحياة وسيكون قادرًا على جلاء اللّيل والأعداء، وسيكون قادرًا على كسر قضبان سجونه، وسيقهر كلّ العوائق وسيتخطّاها إلى الفجر المشرق بنور الحياة الكريمة وغد الحرّيّة السّاطع، حينذاك لن يستطيع القدر أن يتخلّف عن ميعاد استجابته لإرادة اليمن العظيمة وسيقول بخضوع: “آمين”!
الحبشة والصّراع على اليمن:
عندما نذكر الحبشة لا يمكن ألا نشرّفَ وجداننا وخاطرنا بذكر ملكها وعظيم قومها الملك “النّجاشيّ أصحمة بن أبجر” الذي استقبل المسلمين وأواهم في بلاده وحماهم من الاضطهاد القرشيّ، وقد مات قبل الرّسول بسنتيْن سنة (630 م) وصلّى عليه الرّسول عند وفاته صلاة الغائب لجلال دعمه للحقّ ولتقواه ولعدله. ولا يمكن أن لا نذكر أشرف أهلها وأسبقهم إلى الإسلام ذاك الحرّ الأسود العظيم “بلال بن رباح” الذي لم تلوِ صخرة التّعذيب الصّمّاء قوّة ذراعه ولم تليّن موقف صدره الصّلب، بل ظلّ متمسّكًا بأقوى المقولات ثوريّة “أحد . . أحد”.
“النّجاشيّ” لقب ملوك الحبشة كقيصر عند الرّوم وكسرى عند الفرس وخاقان عند التّرك وفرعون عند مصر. وليس للنّجاشيّ “أصحمة” علاقة باحتلال اليمن سنة (525 م) لأنّه عندما حكم الحبشة كان عهد الغزو الحبشيّ لليمن قد انتهى. ومن خلال استعراض موجز لتاريخ مملكة “حمْير” الّتي استقرّت في الجنوب الغربيّ للجزيرة العربيّة، أي في مركز دولة اليمن اليوم والّتي امتدّ نفوذها إلى حضرموت وكانت “ظفار” عاصمة لها مثلما كانت “مأرب” عاصمة مملكة “سبأ” الّتي سبقتها، سنرى أنّها مملكة عربيّة جنوبيّة يعود نسب أهلها وملوكها إلى العرب الجنوبيّين اليمنيّين القحطانيّين وينتسبون إلى جدّهم “يعرب بن قحطان”.
كانت بلاد اليمن في عهد مملكة “سبأ” الّتي حكمت لأكثر من ألف عام تنعم باستقرار سياسيّ ورخاء اقتصاديّ وازدهار عمرانيّ اعتمد على مصدريْن: الزّراعة التي برعوا فيها من خلال إتقانهم لاستخدام المياه وبناء السّدود (سدّ مأرب) والتّجارة مع بلاد مصر والشّام والعراق، لقد سمّى الرّومان هذه البلاد “بلاد العرب السّعيدة”. وظلّت على هذا الحال من الهدوء والاستقرار والأمان حتّى تصدّع “سدّ مأرب” وتدمّرت الزّراعة وانهدمت البيوت واندثرت مملكة “سبأ”، وكما جاء بالمثل: “تفرّق القوم أيدي “سبأ” وهاجر من بقي من سكّانها إلى البلاد القريبة، وقامت على أنقاضها مملكة “حمْير” اليمنيّة العربيّة الجنوبيّة.
نشأت المملكة الحمْيريّة في مركز بلاد اليمن وعاصمتها “ظفار”، وقد امتدّ حكمها لحوالي 650 عامًا، حتّى فتحها المسلمون. في هذه الفترة كانت مملكة “حمْير” بعكس مملكة “سبأ”، كانت مسرحًا للصّراعات السّياسيّة والدّينيّة والأطماع الاقتصاديّة والسّيطرة على طرق التّجارة إلى مصر وأفريقيا والهند وبلاد الشّام والعراق. قد يكون الدّين مجرّد ذريعة للقيام بالغزو بين الدّول، ولكنّ في صميم دوافع هذا الغزو وأيّ غزو في التّاريخ القديم والحديث أهدافًا للسّيطرة السّياسيّة والهيمنة العسكريّة بهدف تحقيق أطماع اقتصاديّة وأرباح مادّيّة من ثروات البلاد المحتلّة وعلى حساب أهلها، خاصّة إذا كانت هذه البلاد ضعيفة بلا سند يدعمها ولا ظهر يحميها.
كانت بلاد اليمن محلّ صراع وتنافس بين قوّتيّن: الدّولة السّاسانيّة في بلاد فارس والدّولة البيزنطيّة في بلاد الرّومان، وفي هذه الفترة كانت دولة الحبشة التي تأسّست سنة (325 ق.م) ودانت بالمسيحيّة في القرن الرّابع الميلاديّ وبدأت بالأفول في القرن السّابع، بعد ظهور الإسلام وانتشاره، كانت تدعى مملكة “أكسوم” وتعتبر القوّة الثّالثة في العالم بعد الاثنتيْن، أدخل الرّومان المسيحيّة إلى بلاد اليمن لتشكّل نفوذًا سياسيًّا لهم، في هذه الآونة أيضًا انتشرت اليهوديّة، ولاقى اليهود الظّلم والتّنكيل على يد الرّومان، وبالرّغم من ذلك قوي واتّسع نفوذ اليهود في اليمن فلجأوا إلى الانتقام والتّنكيل بالمسيحيّين يؤازرهم في ذلك الفرس، وقد وصل الأمر بالملك الحمْيريّ اليهوديّ “ذي نواس” (468 – 527 م) أن تعامل بقسوة رهيبة مع المسيحيّين الّذين رفضوا التّحوّل إلى اليهوديّة، فحفر الأخدود وألقاهم في النّار، “قتل أصحاب الأخدود، النّار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود” (القرآن الكريم، سورة البروج، الآية 4 – 6) ويقال إنّه قتل حرقًا في الأخدود 20 ألفًا ونجا واحد استطاع الهرب وإبلاغ الرّومان بتلك المحرقة.
تفاقم الصّراع واحتلال اليمن:
لم يستطع الرّومان غزو اليمن لمساندة المسيحيّين وللثّأر من اليهود وذلك لبعدها، فأوعزوا للنّجاشيّ الحبشيّ الحاكم آنئذٍ (ليس النّجاشيّ أصحمة بن أبجر) وكانت الحبشة تدين بالمسيحيّة، أوعز الرّومان له وحرّضوه على غزو اليمن مستغلّين علاقة الانتماء الدّينيّ وبدافع السّيطرة على الطّرق التّجاريّة، فجرّد “النّجاشيّ” جيشًا من 70 ألف مقاتل أقلّتهم السّفن فقطعوا البحر وحطّوا على شواطئ اليمن سنة (525 م) بقيادة قائد الجيش “أرياط”(توفّي سنة 540 م تقريبًا) واستطاعوا احتلالها وحكمها لأكثر من 70 عامًا، حتّى سنة 599 م). لقد كانت هذه الحملة الحبشيّة وبالًا ليس على اليمن فقط بل على الجزيرة العربيّة كلّها. انتصر “أرياط” على “ذي نواس” واستتبّ الأمر للأحباش حتّى نشب الصّراع الدّاخليّ بين “أرياط” وبين “أبرهة الأشرم” (516 – 570 م) انتهى بمقتل الأوّل. دانت اليمن لحكم “أبرهة” فأعلن عن نفسه ملكًا على اليمن منشقًّا عن حكم “النّجاشيّ” في الحبشة، فعاث في البلاد فسادًا وظلمًا ونكّل بأهلها وهدم حضارتها ومبانيها العمرانيّة وقصورها “غمدان” وَ “سجليق” وَ “سون” وبنى له كنيسة “بيعة القلّيس” في “صنعاء” لتجذب عرب الجزيرة للحجّ إليها بدل “الكعبة” في “مكّة”، أدّى ذلك إلى استياء العرب من هذا السّلوك الاستفزازيّ فقام نفر منهم بتدنيس البيعة في “صنعاء”، الأمر الّذي حدا بِ “أبرهة الأشرم” لغزو “مكّة” بهدف هدم “الكعبة” فيها سنة (570 م) عام “الفيل” الذي ولد فيه النّبيّ “محمّد”، وكان ما كان من أمر الأحباش أصحاب الفيل وأمر الله الّذي أرسل طيرًا أبابيل رمتهم بحجارة من سجّيل فجعلتهم كعصف مأكول، وعاد “أبرهة الأشرم” مدحورًا مهزومًا يجرّ أذيال الخيبة، ومات سنة (570 م) ويا للصّدف يموت “أبرهة” الّذي أراد هدم “الكعبة” في السّنة الّتي ولد فيها “محمّد” النّبيّ العربيّ الّذي جعل من “الكعبة” أوّل حرم بين ثلاثة وقبلة يستقبلها المسلمون في صلواتهم كلّ يوم خمس مرّات، ولا حجّ ولا عمرة بلا زيارتها. وما دام الهدم بالهدم يُذكر فقد أقدمت إسرائيل على هدم قرية “العراقيب” البدويّة في “النّقب” 177 مرّة حتّى الآن وفقًا لسياسة إفراغ النّقب من سكّانه العرب، وقام الأهالي ببنائها من جديد كلّما هدمتها “دولتهم” إسرائيل. وقد كتبت في هذه المناسبة قصيدة بعنوان “حيّ العراقيب” ذكرت فيها “أبرهة الأشرم” نشرتها في ديواني الأخير “أنا مع الحسين ولست مع يزيد” صدر سنة (2020) مطلعها:
“حيِّ العروبةَ في أرضِ العراقيبِ حيِّ الفوارسَ ركّاب السّراحيبِ”
وقد قلت فيها:
“يا ناهبَ الأرضِ لنْ تحميكَ يابسةٌ -حتّى انْ تلفلفْتَ في سورِ الأكاذيبِ
يا هادمَ البيتِ اذكرْ فيلَ أبرهةٍ- خابَتْ مراميهِ بينَ الطّيرِ والنّيبِ
دمّرْتَ مدرسةً في شكلِ مصطبةٍ -ما سرُّ معهدِكُمْ نهجُ الحواسيبِ
لنْ نتركَ الأرضَ لوْ صارَتْ مدافنَنا -الموتُ أشرفُ منْ ذلِّ الأطاييبِ
يا ابنَ العراقيبِ منْ أصلابِ تربتِها- أمّا الجديدُ فأطفالُ الأنابيبِ”
فمتى سيموت المفرّطون بأولى القبلتيْن وثالث الحرميْن “القدس الشّريف” والمفرّطون بالقرآن والمسجد الأقصى مسرى الرّسول ومعراجه (الهيكل وفق التّرجمة السّعوديّة العبريّة للقرآن الكريم) الّذي بارك الله حوله. سيندثرون كما اندثرت مملكة “سبأ” وسيتفرّقون في هذه المرّة “أيدي سعود”.
المقاومة اليمنيّة للاحتلال الحبشيّ:
منذ وطئت القدم الحبشيّة الغازية أرض اليمن لاقى الغزو الذي جاء من البحر مقاومة ضارية من كافّة اليمنيّين، سواء من المسيحيّين أو من اليهود أو من الوثنيّين، ورغم قوّة الجيش الحبشيّ المحتلّ كانت هناك محاولات يمنيّة دؤوبة للمقاومة حتّى زمن حكم “أبرهة الأشرم” الّذي عاث في اليمن فسادًا ودمارًا وتميّز بالغطرسة والتّنكيل والبطش، ورغم أنّ تلك المحاولات لم تنجح في بداياتها في التّخلّص من الاحتلال، إلّا أنّها لم تقلّل من إيمان اليمنيّين المظلومين بحتميّة الانتصار وطرد المحتلّ عن الأرض اليمنيّة. بعد “أبرهة الأشرم” تسلّم الحكم ابنه “يكسوم” لفترة قصيرة ثمّ تسلّم زمام الحكم أخوه “مسروق بن أبرهة”، وهو الأخ غير الشّقيق لِ “سيف بن ذي يزن” وقد كان أشدّ بطشًا وتنكيلًا وأشدّ تدميرًا وفسادًا، فتنامت روح العداء في نفوس اليمنيّين ووجدانهم للأحباش وتزايد معها الوعي اليمنيّ بضرورة المقاومة حتّى النّصر. كان اليمنيّون يدركون أنّهم لا يستطيعون بالاعتماد على قدراتهم الذّاتيّة من دحر العدوّ الغازي، وذلك لما كان يدبّ بينهم من خلافات قبليّة ودينيّة تُذكيها القوى الاستعماريّة العظمى الطّامعة بخيرات اليمن وثرواته وموقعه الاستراتيجيّ على طرق التّجارة العالميّة آنئذٍ، وكذلك بسبب الإمكانيّات الهائلة والعدّة والعدد والسّلاح والقدرات الإمداديّة الكبيرة الّتي يمتلكها جيش الاحتلال الحبشيّ. ولذلك تطلّع اليمنيّون إلى معونة من قوّة دولة عظمى تساندهم ضدّ الأحباش، مع أنّ القبائل اليمنيّة مجتمعة كانت تشدّد المقاومة ضدّ الغزاة.
في هذه الظّروف العصيبة وغير المحتملة من التشتّت والضّعف والانهيارات في “حمْير” وفي أثنائها حالة من الإحساس بالمهانة والذّلّ بسبب الحكم الجائر لِ “أبرهة” وأبنائه، في هذه الأحوال ظهر “سيف بن ذي يزن” وقد سبى “أبرهة” أمّه “ريحانة بنت ذي جدن” من أبيه “ذي يزن” بالقوّة وأنجبت له “مسروق” القائد الّذي قاد الأحباش بعد أبيه حتّى قتل في معركة “حضرموت” أمام المقاومة اليمنيّة الباسلة الّتي قادها أخوه غير الشّقيق “سيف بن ذي يزن”.
سِيَر العظماء تلفّعها الأساطير:
يجب أن تسير بين النّقاط بحذر عندما تكتب عن بطل عظيم حقيقيّ اسمه “سيف بن ذي يزن” يحظى باحترام بين الأوساط الشّعبيّة العربيّة والإسلاميّة وأوساط العامّة في كثير من مناطق العالم الإسلاميّ وآدابها وصلت حتّى إلى الأدب الماليزيّ في الشّرق الأقصى. وكثيرًا ما يتمّ وفقًا للوجدان الشّعبيّ وبخاصّة زمن الهزائم القوميّة، أو زمن الإحساس الجماعيّ للأمّة بانتكاساتها وانكساراتها وصفريّتها (من صفر) وليس هناك أفضل من هذا الزّمان الحالك وهذه الظّروف الرّماديّة الكالحة الّتي تمرّ بها الأمّة العربيّة من تشتّت كلمتها وتراجع عن أهدافها الكبيرة ونسيان قضيّة القضايا فلسطين وخيانة حكّامها لشعوبها وبيع أمجادها وتدمير أقطارها والنّكسات المتتالية، ليس أفضل من هذا الزّمان مثالًا معبّرًا عن هكذا حال بائس ويائس. تصوّر اللّاوعي العربي كيف يرى بنظرة من اللّامعقول والخيال أنّ إسرائيل الدّولة الصّغيرة المغتصبة تستولي على فلسطين العربيّة كلّها وتنتصر على ثلاث دول عربيّة كبيرة ذات جيوش، وتحتلّ أجزاءً من أراضيها، كانت تنشد في البداية أن يقول لها أحد كلمة “سلام” من العرب، بل كان الموقف “لا مفاوضات ولا صلح ولا سلام مع إسرائيل” عندما كان في العرب رجال عظماء مثل “جمال عبد النّاصر”، وظلّ العرب يتنازلون ويتنازلون حتّى رفضت إسرائيل المبادرة العربيّة (السّعوديّة) الّتي تعترف بوجودها، وصارت تتنكّر لمبادئ “أوسلو” الّتي وقّعتها وترفض حلّ الدّولتيْن الّذي اعترفت به من قبل، وتضمّ القدس لتصبح بشقّيْها: الغربيّ والشرقيّ عاصمة موحّدة أبديّة لإسرائيل، وتُنقل السّفارات من تل أبيب إليها، ويعلن الرّئيس الأميركيّ “ترامب” ما سمّي “صفقة القرن” الّتي تنطوي على طمس فلسطين إلى الأبد وتغييب الحقوق الفلسطينيّة لقاء رخاء اقتصاديّ موهوم، وتتهافت الأنظمة الخليجيّة للتّطبيع معها، ويرفرف العلم الّذي يحمل النّجمة السّداسيّة الزّرقاء في سماء القاهرة وبالقرب من قبور: “جمال عبد النّاصر” وَ “عبد المنعم رياض” وَ “أحمد عرابي” وَ “سعد زغلول”، وفي عمّان عاصمة مملكة بني “هاشم” الجدد وفي “دبي” وَ “أبو ظبي” وَ “الدّوحة” وَ “المنامة” وَ “مسقط” وسيسقط السّودان قريبًا وَ “حفتر” في المعمل الآن “والحبل عَ الجرّار”. أمستهجن وغريب أن يخرج الإنسان العربيّ البسيط عن طوره ومن ثيابه أو حتّى من جلده! أمن الغريب والمستهجن والكثير علينا في هكذا ظروف عربيّة حالكة ومكفهرّة أن نستحضر “جمال عبد النّاصر” ماردًا عربيًّا يقول: “حَ نحارب” من قلب الهزيمة ورغمها، ونقول له مشتاقين لمواقفه المشرّفة: “قمْ يا جمالُ فإنَّني مشتاقُ عدْ يا جمالُ أما كفاكَ فراقُ”، ونستحضر “عنترة بن شدّاد” فارسًا مغوارًا يقتل ألف فارس بضربة سيف، و “الزّير المهلهل” لينتصر على نصف قبيلة، و “سيف بن ذي يزن” ليكون ابنًا للجانّ ويقوم بالخوارق لدحر المحتلّين الأحباش وتحرير بلاده، وَ “أبو زيد الهلاليّ” الّذي يقود الجيوش العربيّة نحو الانتصارات! أليس من المنطقيّ أن نستحضر هؤلاء مضخّمين بهالات من نور لنزيل ظلام هذا اللّيل المهزوم ولنملأ الفراغ القاتل في وجداننا الجمعيّ ونعوّض من شعورنا الرّاهن بالنّقص في هذا العصر القوميّ التّنكيّ الصدئ، فنجد بهذه القصص الخياليّة والأساطير الخارقة من الماضي القريب والبعيد متنفّسًا “نتمرمغ” عليه كالأطفال العرب الّذين كانوا يتلذّذون “بالتّمرمغ” على التّراب كلعبة مسليّة وممتعة، في وقت عزّت فيه الدّمى الحقيقيّة وكثرت فيه أنظمة الدّمى العربيّة الخائنة والمطبّعة مجّانًا مع إسرائيل. هذا عزاء اللّاوعي الشّعبيّ القادر على إبداع هذه الشّخصيّات العظيمة من الماضي فيضفي على كينونتها وسيرورتها الحقيقيّة، حكايات خياليّة وخرافات غيبيّة في زمن تحسّ فيه الشّعوب العربيّة حين تمرّ عليها سلسلة من هزائم مرّة وردّة سياسيّة وتقاعس قوميّ وضعف غير مبرّر، تحسّ تلك الشّعوب بيأس قاتل وهوان وذلّ، ولا أمل في غياهب الأفق السّحيق ولا قبس نور في طيّات المستقبل الضّبابيّ، ولا يبقى أمامها قبل التّململ والثّورة إلّا الهروب السّلبيّ نحو الماضي وأمجاده العظيمة ورموزه المتوهّجة بنور النّضال وروح المقاومة الّتي لا تساوم ولا تهادن، بل “تنتصر أو تموت” كما قال العظيم الخالد “سيدي عمر المختار”.
سيف بن ذي يزن المقاوم:
لا تهمّني شخصيّة “سيف بن ذي يزن” المحمّلة بالأساطير والحكايات الخياليّة، وإن أثارت اهتمامي وكتبت عنها فسيكون اهتمامي بها ثانويًّا، لذا سينصبّ اهتمامي على شخصيّته الحقيقيّة بسيرورتها وصيرورتها منذ البداية وحتّى النّهاية، لأنّها الشّخصيّة التّاريخيّة الواقعيّة الّتي أريدها محورًا لموضوعي، ولأنّها النّواة الأولى أو المادّة الأساسيّة الّتي تبلورت من تفاصيلها ولبناتها وجزيئاتها الشّخصيّةُ الأسطوريّة، ومن غير واقع لا ينشأ خيال، ومن غير حقيقة لا تنشأ خرافة، كما أنّنا لن نعرف الكذب بلا صدق يربكه ويدحضه ولن نعرف الباطل بلا حقّ يدمغه.
كان عمره عندما احتلّت الحبشة بلاده اليمن ما بين العاشرة والخامسة عشرة، فقد ولد سنة (516 م) عاش 58 عامًا ومات مقتولًا سنة (574 م) بعد ولادة “محمّد” بأربع سنوات وقبل ظهور الإسلام ومحمّد نبيًّا بستّة وثلاثين عامًا. وهو “سيف بن يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن عبد شمس بن وائل بن الغوث” لا شيء أكثر من هذا النّسب يثبت عروبة “سيف” وحقيقة وجوده، كشخصيّة عربيّة حقيقيّة كان من أشراف “حمْير” وأقيالها، عرف أبوه بكنية “أبي مرّة الفيّاض” وكان “سيف” آخر ملك يحكم المملكة الحمْيريّة من قصر “غمدان”.
كان “سيف بن ذي يزن” القائد الثّائر يعي معنى أن يرزح وطنه تحت حكم أجنبيّ، بكلّ ما يعنيه ذلك من فقدان الإرادة والشّخصيّة زيادة على نهب ثروات البلاد والعبث بمقدّراتها، وكان يعي بحسّه المقاوم ضرورة تحرير الوطن من ربقة الاستعباد المذلّ، وكان يشوب هذا الحسّ شعور عروبيّ ما، ولكنّ القبائل العربيّة في الشّمال والجنوب مبعثرة بسبب الاقتتال والتّناحر الدّاخليّ فيما بينها أو بسبب الارتهان الخارجيّ لدول عظمى كالفرس والرّوم، وأدرك بعد سلسلة من الأعمال المقاومة للاحتلال الحبشيّ والّتي لم تهدأ – كما قلنا من قبل – طيلة فترة الوجود الاحتلاليّ في اليمن والّتي امتدّت لأكثر من 70 عامًا، أدرك “سيف” أنّ اليمنيّين وحدهم وبإمكانيّاتهم العسكريّة والقتاليّة المحدودة غير قادرين على مجابهة ثالث قوّة عسكريّة في العالم آنذاك.
توجّه “سيف بن ذي يزن” لقيصر الرّوم في “أنطاكية” كي يساند بلاده ضدّ الاحتلال الحبشيّ فرفض قيصر الرّوم مساعدته بحجّة الانتماء الدّينيّ المسيحيّ المشترك الّذي يربط بين الرّوم والأحباش. فتوجّه إلى عدوّ الرّوم التّاريخيّ، توجّه إلى ملك الحيرة “عمرو بن هند” عامل الفرس على بلاد العرب، فوجّهه إلى “النّعمان بن المنذر” فرافقه إلى ملك الفرس “كسرى أنو شروان”، فرفض دعمه عسكريًّا في البداية وزوّده بالمال، فخرج “سيف” غاضبًا وبذر المال على عامّة الفرس في الطّريق، فأعاده “كسرى” معجبًا به بعد أن قال له جملته المشهورة: “ليس لاستجداء المال جئت فجبال اليمن ذهب وفضّة”، وقبل دعمه بِ 800 سجين يرافقونه لقتال الأحباش تحملهم ثماني سفن، لقد انطوت خطوة “كسرى” على خبث، فإذا انتصر هؤلاء حظي بالمجد وخيرات اليمن وإذا هزموا تخلّص من مجموعة من أخطر السّجناء على الأمن الدّاخليّ الفارسيّ. رست ستّ سفن بمن فيها من سجناء مقاتلين على شواطئ “عدن” بعد أن غرقت اثنتان في الطّريق. كان “سيف بن ذي يزن” يكره أعداءه الأحباش وقائدهم “مسروق” أخاه غير الشّقيق، ولا يأمن جانب الفرس والقائد “وهرز” بل يتخوّف من استبدال محتلّ حبشيّ ظالم بمحتلّ فارسيّ أظلم، وقد عبّر عن هذا التّخوّف بأبيات من شعره:
“يظنُّ النّاسُ بالملكيْنِ أنَّهُــــــــما قدِ التــــــــــــــــأما
ومنْ يسمعْ بلؤمِهِما فإنَّ الخطبَ قدْ فقما
قتلْنا القيلَ مسروقًا وروّيْنا الكثيبَ دمـــــــــــا
وإنْ القيلَ قيلُ النّاسِ وهرزُ مقســــــــمٌ قســــما
يذوقُ مشعشعًا حتّى يفيءَ السّبيَ والنّعــما”
كان على رأس هؤلاء وقائدًا لهم سجين اسمه “وهرز”، لم يثق “سيف بن ذي يزن” وهو صاحب الوعي الكبير بصدق المساندة وعرف ما انطوى عليه الخبث الفارسيّ، ولذلك كان في طريق عودته يؤلّب قبائل العرب لمؤازرته ضدّ الأحباش المحتلّين، فتجمّع معه الآلاف منها، كانت صورة رائعة لتكوين جيش عربيّ قوميّ مقاتل ضدّ العدوّ الخارجيّ ومع معونة فارسيّة، حبّذا لو يتعلّم منها اليوم ملوكنا ورؤساؤنا ويبنون جيشًا عربيًّا لقتال العدوّ الحقيقيّ المحتلّ بمساعدة الشّقيق الإسلاميّ إيران. أو على الأقلّ يكفّون عنّا شرّهم وسلاطة ألسنتهم وإعلامهم عن “الأوادم” المناضلين” تلك الألسنة الّتي تسيل “ريالتها” لهاثًا وراء المشاريع الصّهيو – أميركيّة ومواقفهم الخنوعة المطبّعة مع إسرائيل والمعادية للشّقيق الإسلاميّ “إيران” والّذي يقف مناهضّا للمشروع الإمبرياليّ الأميركيّ ولصيقته إسرائيل ومساندًا لقضايانا وللمقاومة في لبنان سوريا والعراق وفلسطين.
كان قائد الجيش الحبشيّ في اليمن آنئذٍ “مسروق بن أبرهة”، وبعد سلسلة من المعارك بين الفريق العربيّ المدعوم فارسيًّا بقيادة “سيف بن ذي يزن” قال لِ “وهرز” القائد الفارسيّ: “رجلي على رجلك حتّى نموت جميعًا أو نظفر جميعًا”، كان الجيش الحبشيّ بقيادة “مسروق” الحبشيّ مدعومًا سياسيًّا من الرّوم. ألم يتعلّم الثّائر الأسد الشّيخ “عمر المختار” ضدّ الاحتلال الإيطاليّ حديثًا من كلام الثّائر “سيف بن ذي يزن” قديمًا عندما قال: “نحن لن نستسلم! ننتصر أو نموت”. وبعد كرّ وفرّ تطوّرت المعارك وانتهت إلى معركة “حضرموت” الفاصلة سنة (570 م) الّتي سجّل فيها المظلومون اليمنيّون نصرًا مؤزّرًا على الجيش الحبشيّ المحتلّ، وقتل فيها “وهرز” الفارسيّ “مسروقًا” الحبشيّ وانهزم الأحباش وتفرّقوا بعد مقتل قائدهم. اُلحقت اليمن بحكم فارس صوريًّا وصار “سيف بن ذي يزن” المنتصر ملكًا على اليمن متّخذًا من قصر “غمدان” مقرًّا لحكمه، على أن يدفع خراجًا سنويًّا للفرس، وقد دام حكمه لأربع سنوات حتّى سنة (574 م) ومات مقتولًا بأيدي عبيد من السّودان والأحباش، فنُصّب ابنه “معدي كرب” ملكًا بعده، وظلّ على موالاته للفرس حتّى الفتح الإسلاميّ.
زيارة وفد قريش وانتشاء الشّعور القوميّ:
كان “سيف بن ذي يزن” آخر ملك حمْيريّ يمنيّ عربيّ حكم اليمن بشكل شبه مستقلّ، وكان لنصره الكبير على الأحباش وكنس احتلالهم الدّنس عن طهارة التّراب في اليمن السّعيد سنة (570 م) والّذي تزامن مع هزيمة “أبرهة الأشرم” في مكّة في عام الفيل. يا للرّسول يولد في سنة خير طافحة بالانتصارات في الشّمال العربيّ وفي الجنوب العربيّ ضدّ عدوّ واحد، آهٍ لو نتعلّم اليوم مَن هو عدوّنا الحقيقيّ الواحد ونعدّ له ما استطعنا من قوّة ومن رباط الخيل ونحشد له قوانا ونرهبه مؤمنين بحقّنا المقدّس وننتصر عليه كما انتصر الّذين من قبلنا بعد أن حدّدوا عدوّهم وأعدّوا له وحشدوا وآمنوا بحقّهم وقدراتهم وفعلوا ما هو مستحقّ فانتصروا.
كان لذلك النّصر في الجنوب اليمنيّ العربيّ وهزيمة الأحباش بقيادة “أبرهة الأشرم” في الشّمال الحجازيّ العربيّ أن نما الإحساس بعروبة مبكّرة وانتشى الشّعور القوميّ، وكان ذلك الإحساس محفّزًا ودافعًا لقيام وفد من سادة “قريش” بزيارة قاهر الأحباش الملك المنتصر “سيف بن ذي يزن” في اليمن. وما يؤكّد وجاهة “بني هاشم” بين قبائل العرب ليس غناهم بل السّيادة الخالدة الّتي كانت لهم في “الكعبة” أمّا الغنى الفاني فكان لِ “بني أميّة”، فقد ضمّ الوفد خمسة من أشهر السّادة، وكان برئاسة “عبد المطّلب بن هاشم” جدّ الرّسول، وكان أعضاء الوفد أربعة: “أميّة بن عبد شمس” وَ “خويلد بن أسيد” أبو “خديجة” زوجة الرّسول الأولى، وَ “عبد الله بن جدعان” وَ “وهب بن عبد مناف”. ووقف “عبد المطّلب” خطيبًا بين يدي الملك في قصر “غمدان” في “صنعاء” وبعد أن استأذنه قال “إِنَّ اللهَ تعالى أَيُّها المَلِكُ أَحَلَّكَ مَحَلاً رَفِيعًا، صَعْبًا مَنِيعًا، باذِخًا شامخًا، وَأَنْبَتَكَ مَنْبِتًا طَابَتْ أُرُومَتُهُ، وَعَزَّتْ جُرْثُومَتُهُ، وَثَبَتَ أَصْلُهُ، وَبَسَقَ فَرْعُهُ؛ في أَكْرَمِ مَعْدِنٍ، وَأَطْيَبِ مَوْطِنٍ؛ فأنت – أبَيْتَ الّلعْنَ – رَأْسُ العَرَبِ وَرَبِيعُها الّذي به تَخْصُبُ، ومَلِكُها الّذي به تَنْقَادُ، وَعَمُودُها الّذي عليه العِمَادُ، ومَعْقِلُها الذي إليه يَلْجَأُ العِبَادُ، سَلَفُكَ خيرُ سَلَفٍ، وأنت لنا بعدَهم خيرُ خَلَفٍ، وَلَنْ يَهْلِكَ مَن أنت خَلَفُهُ، ولن يَخْمُلَ مَن أنت سَلَفُهُ. نحنُ أيُّها المَلِكُ أهلُ حَرَمِ اللهِ وَذِمَّتِهِ، وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ، أَشْخَصَنَا إليك الذي أَبْهَجَكَ بِكَشْفِ الكَرْبِ الذي فَدَحَنَا، فنحن وَفْدُ التَّهْنِئَةِ لا وَفْدُ المُرْزِئَةِ”. ولعلّ أكثر ما يلفت النّظر ويؤكّد ما قلناه عن تنامي الشّعور القوميّ العربيّ الّذي يجمع بين شمال الجزيرة وجنوبها هو جملة “عبد المطّلب” الّتي قال فيها: “أنت أيّها الملك رأس العرب وربيعها وملكها وعمودها ومعقلها”. وحين قال: “نحن أهل حرم الله وذمّته وسدنة بيته”، أين حكّام البيت والحرم وذمّته وسدنته اليوم؟ في أيّ بيت أبيض دنس يصلّون، يقومون ويقعدون ويخضعون وفي أيّ بيت دعارة أسود يركعون ويسجدون ويخنعون!
سَعِد الملك العربيّ اليمنيّ بزيارة الوفد العربيّ الحجازيّ فأكرم وفادتهم وكانوا في ضيافته شهرًا كاملًا ثمّ حمّلهم بالهدايا والنّفائس، وعادوا إلى حجازهم مطمئنّين منتشين بروح عربيّة وإحساس بتآخي شمال جزيرة العرب مع جنوبها وبشعور من الفخر العظيم والعزّة القوميّة. يكفي أن نقرأ أبياتًا لأحد أعضاء الوفد القرشيّ “أميّة بن عبد شمس” لنعرف مدى التّكريم المعنويّ والاحتفاء والعطاء المادّيّ الّذي حظوْا به:
“جلبْنا النّصحَ تحقبُهُ المطايا -على أكوارِ أجمالٍ ونوقِ
مقلّفةٌ مراتعُها تعالى- إلى صنعاءَ منْ فجٍّ عميقِ
تؤمُّ بنا ابنَ ذي يزنٍ وتغري- بذاتِ بطونِها ذمُّ الطّريقِ
وترعى منْ مخائلِهِ بروقًا -مواصلةَ الوميضِ إلى بروقِ”
نبوءة سيف تاريخ أم أسطورة:
بعد سماع الملك “سيف” خطاب “عبد المطّلب” الّذي أراد أن يقول فيه إنّك قادر على لمّ شمل كلمة العرب تحت راية قوميّة واحدة، بها انتصرت على المحتلّين الأحباش، فما أحوجنا اليوم في هذه الظّروف إلى الاتّحاد واجتماع الكلمة العربيّة ولمّ الشّمل القوميّ لطرد المحتلّين الإسرائيليّين. سأل الملك عن صاحب الخطاب، فقال: “أنا عبد المطّلب بن هاشم” فقال الملك: “أنت ابن أختنا” وأعجب به وقرّبه وخصّه بلقاء منفرد، مزمعًا إبلاغه بكلام خطير، وقال: “يا عبد المطّلب إنّي مفضٍ إليك من سرّ علمي ما لو يكون غيرك لم أبح به، ولكنّي رأيتك معدنه، فأطلعتك طليعه، فليكن عندك مطويًّا حتّى يأذن الله فيه. إنّي أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الّذي اخترناه لأنفسنا واجتنيناه دون غيرنا خبرًا عظيمًا وخطرًا جسيمًا فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاء للنّاس عامّة ولرهطك كافّة ولك خاصّة. وتابع: “إذا ولد بتهامة غلام به علامة بين كتفيْه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزّعامة إلى يوم القيامة. هذا حينه الّذي يولد فيه أو قد ولد، واسمه “محمّد” يموت أبوه وأمّه ويكفله جدّه وعمّه، يعزّ بهم أولياءه، ويذلّ بهم أعداءه، ويضرب بهم النّاس عن عرض ويستبيح بهم كرائم أهل الأرض ويكسر الأوثان ويخمد النّيران ويعبد الرّحمن ويدحر الشّيطان، قوله فصل وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله”.
فصارح “عبد المطّلب” الملك بأنّ له حفيدًا تنطبق عليه الأوصاف الّتي ذكرها، وقال له: “أيّها الملك كان لي ابن وكنت به معجبًا وعليه رفيقًا فزوّجته كريمة من كرائم قومه “آمنة بنت وهب” فجاءت بغلام سمّيته “محمّدًا” فمات أبوه وأمّه وكفلته أنا وعمّه”.
فانفرجت أسارير “سيف بن ذي يزن”، وأخذ يحذّر “عبد المطّلب” من اليهود وأنّهم سيكونون أعداء له، وأوصاه أن يكتم أمره عن رهطه الّذين معه خوفًا من أن يحرّكهم حبّ الرّئاسة فينصبون له المكائد وأنّهم سيفعلون ذلك هم وأبناؤهم. وممّا يجدر ذكره في هذا المقام أنّ ثمّة اثنيْن آخريْن بشّرا بولادة الرّسول وظهوره نبيًّا قبل الإسلام غير “سيف بن ذي يزن” هما: “القسّ بن ساعدة” توفّي سنة (600 م) وَ “زيد بن نفيل” توفّي سنة (605) وكلاهما من الحنفاء وقابلا الرّسول ولكنّهما لم يدركا البعثة.
سيف بن ذي يزن بطل شعبيّ:
من هذه النبوءة والبشارة بدأت تتكوّن شخصيّة الملك “سيف بن ذي يزن” الأسطوريّة الخياليّة وتختلط تفاصيلها بتفاصيل شخصيّته التّاريخيّة الحقيقيّة، فتجعل الأسطورة منه مسلمًا حنيفًا على ملّة “إبراهيم” وتجعل من أعدائه الأحباش وثنيّين يعبدون “زحل” والكواكب والنّجوم، وتجعل منه ملك ملوك الزّمان وتغزو
أخباره وبطولاته الخارقة الآداب الشّعبيّة في العالم العربيّ في مصر والشّام والعراق والخليج وحتّى بلاد المغرب العربيّ، وكذلك إلى الآداب في الدّول الإسلاميّة مثل: إيران وتركيّا وماليزيا في الشّرق الأقصى.
تجعل الآداب الشّعبيّة العربيّة من أثر تلك الأساطير “سيف بن ذي يزن” بطلًا قوميًّا عربيًا، تتكوّن سيرته الشعبيّة من 20 جزءًا وألفيْن صفحة وهي أكبر السّير في الآداب الشّعبيّة العربيّة، وقد تكون أشهرها لما لها من امتدادات لبطولاتها نحو مصر وأفريقيا وطابع الصّراع القوميّ على مياه النّيل مع الحبشة زمن حكم المماليك في القرن الرّابع عشر وسببها دينيّ وهو محاربة الصّليبيّين والثّاني حماية نهر النّيل من الأحباش، فقد كان ملكهم “سيف أرعد” يهدّد مصر بقطع ماء النّيل وله قول مشهور: “نيل مصر الّذي هو قوام أمرها وصلاح أحوال سكّانها، مجراه من بلدي وأنا أسدّها”. ووصلت هذه السّيرة إلى الأدب الماليزي بسبب الأوضاع التي واجهها أبناء الملايو، أوّلًا من ناحية اضطهادهم من المستعمرين، وثانيَا من ظروف تحوّل الأديان إلى الإسلام، ولأجل ذلك ولعوا باستماع القصص الإسلاميّة البطوليّة لشحذ حماستهم وشجاعتهم ضدّ المستعمرين أو الاقتداء بشخصيّة البطل في الجرأة حتّى تمكّنوا من طرد المستعمرين، بقيادة الملك “يوسف ذي اللّيزان”، وهو التّحريف الماليزيّ لاسْم “سيف بن ذي يزن”.
فالمنظور الشّعبيّ يغلّب عناصر الأسطورة والرّواية المحكيّة والبطولات الخارقة فرديًّا وجماعيًّا على المنظور التّاريخيّ الّذي يتوقّف عند الحقائق والوقائع الثّابتة الّتي لا تجنح إلى الخيال عند سردها، فالمنظور الشّعبيّ تشكّل المبالغة عنصرًا صميميًّا فيه، خاصّة عندما يكون جمهور المتلقّين من الأوساط الشّعبيّة الّتي فقدت الأمل بالحاضر المهزوم والمحبط، ولديه صبر عظيم وقدرة هائلة على الانتظار للبطل “المخلّص” الّذي سيخفّف من أعبائه وهمومه ويزيل عنه إحباطه وإحساسه بالانكسار ويخرجه من حالة الذلّ والهوان.
سيف بن ذي يزن بطل خالد:
إنّ تضخيم مثل هؤلاء العظماء الأبطال التّاريخيّين من قبل الأوساط الشّعبيّة في زمن عانوا فيه من أزمات جماعيّة حادّة وانكسارات قوميّة لهو دلالة قاطعة على أنّ هؤلاء يحظون بمكانة رفيعة ومبجّلة ويتحوّلون في وجدان العامّة إلى شخصيّات محبوبة لأنّها تخلق في تلك الأوساط حالة أمل يعيشون على نورها المنبعث من الـتّاريخ المجيد للتّغلّب على الأزمات والانكسارات الرّاهنة الّتي يضطربون تحت أهوالها الثّقيلة والمحبطة. من هذا الاعتبار يصبح هؤلاء العظماء خالدين على مدى التّاريخ، وَ “سيف بن ذي يزن” من أبرز هؤلاء العظماء الأبطال.
ويخلّدهم الفنّ والأدب والفنون الأخرى والدّراسات التّاريخيّة وفي مجال السّير، فقد ذكرنا أنّ سيرة “سيف بن ذي يزن” أطول السّير وأشهرها وأكثرها انتشارًا في العالميْن: العربيّ والإسلاميّ، ومنها استوحى الفنّانون في عالم التّلفزيون مسلسلاتهم، فقد أنتجت اليمن سنة (2003) مسلسلاً عن سيرة حياة “سيف بن ذي يزن” من تأليف “عبد الرّحمن بكر” بالتّعاون مع خبرات فنيّة من سوريا، “مأمون البني” المخرج السوريّ هو من أخرج المسلسل ومعه فريق من الممثّلين السّوريّين واليمنيّين البارزين.
في الشّعر كثير من القصائد لكثير من الشّعراء في العالم العربيّ، تناولت شخصيّة “سيف بن ذي يزن” كنموذج للبطولة الضّائعة الآن وكمثال عظيم للتّصدّي للاحتلال الحبشيّ، أو كمجد ضاع ولدينا “نوسطالجيا” لذلك الماضي المجيد. وأحيانًا يشكّل فقدانه في حاضرنا أو زمن انكساراتنا شعورًا مرًّا يختلج في طيّات وجداننا القوميّ. ففي قصيدة رثاء الأندلس النّونيّة للشّاعر الأندلسيّ “أبي البقاء الرّنديّ (1204 – 1285 م) يذكر في خضمّ تعبيره عن تلك المرارة القاسية ذلك العظيم “سيف بن ذي يزن” فيقول فيها:
“لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ -فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هيَ الأمورُ كما شاهدْتُها دُولٌ -مَنْ سرَّهُ زَمنٌ ساءَتْهُ أزمانُ
وهذهِ الدّارُ لا تُبقي على أحدٍ -ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ
يُمزّقُ الدّهرُ حتمًا كلَّ سابغةٍ -إذا نبَتْ مشرفّيّاتٌ وخُرصانُ
وينتضي كلُّ سيفٍ للفناءِ ولوْ -كانَ ابنَ ذي يزَنٍ والغمدَ غُمدانُ”
وقال “أبو الصّلت بن أبي ربيعة الثّقفيّ” في قصيدة تبيّن بحث “سيف بن ذي يزن” عن عون يساعده وشعبه على التّخلّص من الاحتلال الحبشيّ وثمّة من ينسب القصيدة للشّاعر “أمية بن أبي الصلت”:
“ليطلبَ الوِترَ أمثالُ ابنِ ذي يزنٍ -ريمَّ في البحرِ للأعداءِ أحوالا
يمّمَ لقيصرَ لمّا حان رحلته -فلمْ يجدْ عندَهُ بعضَ الّذي سالا
ثمَّ انثنى نحوَ كسرى بعدَ عاشرةٍ -منَ السّنينَ يهينُ النّفسَ والمالا
حتّى أتى ببني الأحرارِ يحملُهُمْ- إنّك عَمري لقدْ أسرعْتَ قِلقالا
للهِ درُّهُمُ منْ عُصبةٍ خرجوا -ما إنْ أرى لهُمُ في النّاسِ أمثالا
بيضًا مرازبةً غُلبًا أساورةً- أُسدًا تربّبُ في الغيضاتِ أشبالا
وفي قصيدة للشّاعر اليمنيّ “أحمد محمّد النّعمان” الموجّهة لملك اليمن “سيف بن ذي يزن” وكأنّها تحكي الواقع الذي عاشته اليمن في أواخر القرن الماضي، وقد نشرت في سنة (1983 م) وأرسلت إلى الصّحف بواسطة الدّكتورة “أمينة النّعمان” رئيس قسم اللّغة العربيّة في جامعة “زيورخ” في سويسرا.
“يا سيفُ بعدَكَ لا سيفٌ ولا قلمُ -وشامخُ القومِ ضاعوا وارتقى الخدمُ
وضاعَتِ الأرضُ والتّاريخُ مالَ بِنا -يا سيفُ نحوَ حياةٍ كلُّها ألمُ
وثورةُ الأمسِ ماتَتْ بعدَ مولدِها -ومثلُها ماتَ مَنْ ضحّوا ومَنْ رسموا”
ويقول فيها واصفًا حال الحكّام المستبدين الفجرة والكاذبين الكفرة الّذين أفعالهم بعكس أقوالهم:
منْ يقسمونَ على الإخلاصِ أخلصُهُمْ -يا سيفّ كالذّئبِ بئسَ الذّئبُ يا غنمُ
ومنْ تخطُّ على القرآنِ أيديهِمِ -بنفسِ تلكَ الأيادي يُهدَمُ الحَرَمُ
لمْ يعرفوا قطُّ لا دينًا ولا وطنًا -الدّينُ في شرعِهِمْ يا سيفُ ما اقتسموا
وخيرُ أوطانِهِمْ يا سيفُ أرصدةٌ -بها مناصبُهُمْ تقوى وتحترمُ
ونحنُ منْ هامَ في الدّنيا بلا وطنٍ -عارٌ بهِ دولةُ الطّغيانِ تُختتَمُ”
الشّاعر “علي الأنصاريّ” من قطر في قصيدته “نقوش على وجه سيف بن ذي يزن” يحفر في التّاريخ ويسقطه على الواقع بوضوح ومباشرة ويأخذ من ملتقى الاثنيْن متعة التّفاعل والبحث، ليقرّب القصيدة من الحكاية:
“سلامُ كسرى لكمْ يا سادةَ اليمنِ- ورحمةُ مَنْهُ تكسوكم مدى الزّمنِ
هذا خطابُ منَ المنصورِ تبّعكُمْ -حلوُ الشّمائلِ منْ سيفِ بنِ ذي يزنِ
يقولُ كسرى إذا عاونْتَ دولتَهُمْ -سيرجعُ اليمنَ الكبرى إلى اليمنِ”
وفي قصيدة للشّاعر “غازي القُصيبيّ” (1940 – 2010 م) صوّر فيها مأساة الانقسام اليمنيّ والحرب في اليمن بين شماله وجنوبه عبّر فيها عن أسفه وألمه من اقتتال الأخوة وقد استرجع فيها صفحة مجيدة من تاريخ اليمن القديم أيّام “بلقيس” ملكة “سَبأ” وعهد “سيف بن ذي يزن” أشهر ملوك حِمْيَر ومحرّرها من الأحباش.
“ألومُ صَنعاءَ يا بَلقيسُ أم عَدَنا أمْ أُمّةً ضَيّعتْ في أمسِها يَزَنا
ألومُ نَفسِيَ يا بلقيسُ أحسَبُني- كنْتُ الّذي باغَتَ الحَسناءَ كنتُ أنا
بلقيسُ يَقتتِلُ الأقيالُ فانتَدِبي- إليْهمُ الهُدهُدَ المُوفي بما ائتُمِنا
قولي لهُمْ: يا رِجالاً ضَيّعوا وَطنًا -أما مِنِ امرأةٍ تَستَنقِذُ الوطَنا”
الشّاعر والأستاذ الجامعيّ “عبد العزيز المقالح” الملقّب بِ “شاعر اليمن” (ولد سنة 1937) في ديوانه “رسالة إلى سيف بن ذي يزن” الصّادر سنة (1973) في قصيدة تحمل اسم الدّيوان، يستغيث فيها فيقول:
“سفحنا عندَ ظلِّ الدّهرِ تحتَ قيودِنا ألْفا
ونصفَ الألفِ منْ أعوامِنا العُجْفا
وأنتَ مشرّدٌ وبلادُنا تدعوكَ وا “سيفا”
ويتابع في إحالة الحاضر المهزوم الأليم والواقع المظلم على الماضي المجيد، فهل يسعف الماضي وحده يا شعوبنا العربيّة المقهورة من الخليج إلى المحيط، وما زال “أبرهة” وأعوانه الشّياطين يتوافدون ويتكاثرون بأسماء وأشكال وأفيال جديدة مثل: “نابليون” وَ “بلفور” وَ “هرتسل” وّ “أردوغان” وَ “ترامب” وَ “نتنياهو” وَ محمّد بن سلمان” وَ “آل ثاني أكسيد الكربون” وَ “ثالث أكسيد الخليجيك”. ويقول:
“فما نبضَتْ بقيصرَ رعشةُ الإنسانِ أو كسرى
ولمْ تنهضْ قضيّتُنا وما زالَ الظّلامُ هنا
وَأبرهةٌ يسوقُ قوافلَ الأحرارْ
ويبني منْ جماجمِنا كنيسةَ ربِّهِ القهّارْ”
سيرة سيف ما زالت تسقي مصر:
نجح الملك “سيف بن ذي يزن” وفقًا للسّيرة أن يقهر الأحباش وملكهم “سيف أرعد”، هذا الّذي كان يعلن حقده وقدرته على أن يسدّ مجاري النّيل نحو مصر وتعطيش أهلها، فأصل النّيل من بلاده، واستطاع الملك العظيم “سيف” أن يستردّ المفتاح والكتاب ليبقى النّيل يسقي مصر زاخرًا موّارًا.
كُتب الكثير من المقالات والدّراسات حول شخصيّة “سيف بن ذي يزن” في التّاريخ وفي السّيرة وفي كليهما، ومنها دراسة للباحث المغربيّ “أحمد سلطان” بعنوان “سيرة سيف بن ذي يزن . . المصريّون يخشون التّهديدات المائيّة الجنوبيّة منذ عهد المماليك”، وفيها يتساءل: “هل ستنجح القيادة المصريّة في تحييد هذا الخطر الجديد القديم أم سيعيد اللّاوعي المصريّ الانتصار على الأحباش في السِّيَر الشّعبيّة”؟ وفي الموضوع نفسه وتعبيرًا عن التّخوّفات نفسها، كتب “حلمي شعراوي” مقالة بعنوان “النّيل وملحمة سيف بن ذي يزن”. أنا أشكّ بقدرة هذا النّظام المصريّ العميل منذ خيانة “أنور السّادات” مرورًا بحسني مبارك وبقيادة العسكريّ “السّيسيّ” أن يستطيع ذلك بالاعتماد على الحقّ والقوّة، ولأنّه نظام خنوع وذليل ويقبل بأن يرفرف علم إسرائيل في سماء “قاهرة المعزّ” ربّما يدرأ هذا الخطر ويحافظ على حقوق مصر المائيّة بعد سدّ “النّهضة” بالتّذلّل والوساطة الأميركيّة وربّما الإسرائيليّة. فمن فرّط بأرضه وأقداسه فسيفرّط بمائه وشعبه. وكتب الباحث العراقيّ “صفاء ذياب” عن سيرة “سيف” بأنّها أعظم إبداعات التّفكير العربيّ، وكتب المبدع المصريّ “فاروق خورشيد” رواية خياليّة عنه بعنوان “مغامرات سيف بن ذي يزن”، وكتبت الباحثة المصريّة “انتصار البناء” مقالة عن مسيرته لتحرير اليمن بعنوان “سيف بن ذي يزن الملك الّذي نصره الفرس”، وفي مجال تصنيف السّيرة الشّعبيّة اتّخذ الباحث المصريّ “فرج قدري الفخرانيّ” سيرة “سيف بن ذي يزن” نموذجًا للسِّير الشعبيّة العربيّة.
وأخيرًا:
عوّلنا وراهنّا على أولئك العظماء وتفاعلهم مع الحياة العريضة الطّافحة بمواقف العزّة ومسارات الكرامة وبعد موتهم وتفاعله مع رغبة البقاء فجعل للخلود معانيَ سرمديّة جديدة تتعدّى البيولوجيا والكيمياء وسائر العلوم، وتفاعلنا نحن وانفعلنا من بقاء ثباتهم على المبادئ الكفاحيّة الثّوريّة الّتي شكّلت لنا منارات هداية وسبل حياة كريمة وأهدافًا سامية، نصبو لتحقيقها كي تصبح الحياة الإنسانيّة أجمل وأنبل وأسعد.
عوّلنا على التّفاعل النّبيل بين الإنسان والكرامة، بين العروبة وفلسطين، بين بيولوجيا الدّماء الزّكيّة وفيزياء الوجود ولم نعوّل ولم نراهن لا على الأذلّاء في الخليج ولا عليهم في المحيط، ولا على تفاعلاتهم المائيّة التّي تسيل تميّعًا وخيانة وخنوعًا، لم نعوّل ولم نراهن على عناصر اللّافلزّ الهشّة، ولا على التّفاعلات الكيميائيّة السّياسيّة بين العناصر الفاسدة الّتي لا تفضي إلّا إلى (H2S) نراهن ونعوّل على الفلزّ الماحق للشّعب السّودانيّ وعلى الأكسجين السّاحق للشّعب البحريني وشعوب الجزيرة العربيّة وشعوبنا في اليمن ومصر والشّام والعراق والمغرب العربيّ، الّتي ستمحق أنظمة العار وعناصر الخمول، هذه الشّعوب هي البرهان على نقاء الكيمياء الحرّ والكريم.
لعالِم النّفس السّويسريّ “كارل يونغ” مقولة في هذا السّياق: “اجتماع شخصيْن يشابه تصادم مادّتيْن كيميائيّتيْن، إذا حصل التّفاعل بينهما فكلاهما سيتحوّلان إلى شيء آخر” وأنا أقول على أساس هذا النّظام الكيميائيّ أنّه قد اجتمعت وتفاعلت عناصر من النّظام العربيّ الفاسد مع عناصر من النّظام الإمبرياليّ الاستبداديّ والاستغلاليّ الأشدّ فسادًا فصارت عناصر النّظام العربيّ أرنبًا جبانًا أو بغلًا مغمومًا أو حمارًا “معمعمًا” وصار النّظام الإمبرياليّ نمرًا شرسًا أو فهدًا كاسرًا أو ذئبًا متوحّشًا.
وستصير الشّعوب العربيّة بتأثير ذلك التّفاعل الحيوانيّ نار كفاح متوقّدة لن يصلاها إلّا كلّ أشقى من الدّاجن المؤلّف ومن الكاسر المتوحّش. ولنا في العظماء جميعًا وفي “سيف بن ذي يزن” بشكل خاصّ أسوة حسنة.