مواقف وعبر (4)
تاريخ النشر: 24/12/20 | 8:58محمد سواعد- ابن الحميرة
عمق الصبر؛
تسير حياة الناس المعاصرة بشكل جنوني، وفي كل لحظة يفاجئنا العالم باختراع جديد ينسف كل ما سبقه مما أبدعته العقول الإنسانية، وراح الناس إلى الثورة التكنولوجية يتسابقون وراء كل جديد، وتناسى البعض منهم كثيرا من القيم والمعاني الإنسانية العميقة التي بنيت عليها المجتمعات الإنسانية، بل إن هذه المنظومة القيمية هي أساس وجود وقيام المجتمعات بأسرها، ومن أعظم وأعمق الأخلاق التي عليها عماد قيام المجتمع وسر بقائه هو خلق الصبر، وهو احتمال الأذى من الغير وكف النفس عن أذى الغير، وهو كظم الغيظ وحبس النفس عن الشكوى وأذية الغير، والله تعالى يقول في آيات مختلفة (وبشر الصابرين)؛ (إن الله مع الصابرين)؛ (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (والصبر ضياء) أي أنه يضيء الطريق للسائرين في طرق الحياة الطويلة والمعقدة وفي التعامل مع التواء النفوس وتعقيداتها.
ولعل من نافلة القول إن حياة الناس اليوم لشدة السرعة في كل شيء أصبحت مثل “الساندويشة”، فالإنسان يريد أن يأكل بسرعة ويشرب بأقصى ما يمكن، ولا ينتظر نضوج الطعام، بل إن أفكار الناس في هذا العصر أصبحت سريعة كذلك، فالكل يريد أن يتعلم وينجح بسرعة ولو أدى به ذلك إلى الغش والكذب والخداع، وأصعب من ذلك أن الناس يسعون إلى حل خلافاتهم بأقصى سرعة ممكنة بدون دراسة عميقة للبدائل والأسباب والمسببات والبحث عن الحل الأمثل لكل خلاف، وأصبح العنف والقتل والجريمة هو أهون وأسرع علاج لأي مشكلة دون النظر الى العواقب الوخيمة.
إزاء هذا الواقع المعقد وما جلب علينا من وبال وبلاء علينا أن ننظر إلى عمق صبر الرب سبحانه وتعالى على عباده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ). فهو الخالق الرازق المنعم المتفضل والعباد يعبدون غيره ويشكرون المخلوق وينسون الخالق سبحانه، ومن لطائف صبر الله تعالى على عباده أنه سبحانه يؤخرهم ويمهلهم حتى يتوبوا ويرتجعوا عن غيهم وضلالهم ليصطفيهم بل ويصبحوا من خيرة عباده ويكونوا من أهل الجنان والنعيم المقيم، فقد أمهل الله تعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه بعدما كانوا غارقين في دياجير الظلم والكفر والضلال والفجور حتى تابوا وأنابوا وحسن إسلامهم ونزل فيهم قول الحق تبارك وتعالى: (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) الفتح؛ (18)، فهؤلاء الناس كانوا قبل سنوات من ألد الناس عداوة للإسلام ودعوته ومنهم من حاول قتل الداعية الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى آثار الصبر وبركاته وحكمته، وهذا نبي الله نوح عليه السلام يعلم الناس فنون الصبر واحتمال الأذى حتى صبر على قومه 950 عاما مع كل ما واجهوه به من السخرية والازدراء والطعن والتشكيك حتى قال لهم ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) هود (38)، وبعد كل هذا العناء والمدة الطويلة ولما رأى وأيقن عدم استجابتهم بما يسمى بعامل الاستقراء، حيث قرأ تاريخهم وواقعهم وتربيتهم لذرياتهم (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) [نوح]. فيا ليت شعري أي عمق حمل نوح عليه السلام في قلبه وروحه ووجدانه حتى تمكن من الصبر على قومه طوال هذه السنين، فكان عاقبته أن الله تعالى اصطفاه وفضله وكان من أولي العزم من الرسل.
فيا قومنا وأهلنا إن الصبر عواقبه محمودة وبركاته معهودة ولعل أعظم ما يكون في بركات الصبر هي البشارات الربانية للصابرين المحتسبين المطمئنين إلى وعد الله وبشاراته ولو تعلمنا معنى العمق التربوي والنفسي والاجتماعي في الصبر لاستطعنا أن نحلق في سموات المجد وننعم بأراضين الخلود و”لكنكم تستعجلون”.