رحلة الى صفورية

تاريخ النشر: 10/01/21 | 10:17

ما زلتُ أحتفظ في رفٍ من رفوف ذاكرتي بمشهد نجاة وهي تنتحب وتلوّح بيدها مهددة “دافيد” تارة، ولاعنة إياه تارة أخرى، بينما أحد المدرسّين يمسك بذراعها اليسرى، يحاول السيطرة عليها، ويبذل جهدا ليباعد بينها وبين “دافيد” هذا. المشهد ذاته يعود ليفرض نفسه على ذاكرتي كل سنة بحلول فصل الربيع، أيام تصفو السَّمَاءُ وتنزع عنْهَا نِقَاب الغيوم وتستَـيْـقَظ الطَّبِيعَة مِنَ سُبَاتِها؛ وكلّما مررت بالقرب من مكان وقوع الحدَث حيث أستعيد تفاصيله كاملة، وكأنه حدث في الأمس القريب، وليس قبل أكثر من عشرين سنة.
كنتُ في الصف السابع، وكانت إدارة المدرسة قد قرّرت أن تكون جولة فصل الربيع لطلاب الصفوف السابعة لتلك السنة، الى صفورية. الجو بديع، والسماء صافية، لا غيوم فيها تحجب شمس الربيع الدافئة، فكان ثاني قرارات الإدارة أن تكون الجولة مشيا على الأقدام، رغم مسافة الستة كيلومترات التي تبعدها مدرستي عن صفورية، على أن تكون عودتنا الى المدرسة بعد انتهاء الجولة بواسطة حافلات.
– “في الحقيقة صفورية تستأهل أن نتعب في سبيل الوصول اليها”. كان أحد المعلمين يقول لنا كلّما شكا أحدنا مشقة السير على الأقدام. “بساتين صفورية يكثر فيها الزهر والشجر، وغنية بالماء والثمر، شمسها حنونة، وترابها طيّب، وأهلها يشار لهم بالبنان من بين البشر. يتابع المعلم قوله لنا وفي صوته نغمة حزن.
كان الربيع قد انتشر في حقول وبساتين صفورية، وبدت كأنها بساط متعدد الأصباغ لتعدد أصناف المزروعات والأعشاب والأشجار والأزهار، التي فاح عطرها مُرحِبا بقدومنا، مدغدغا أنوفنا حتى هاج الحنين لصفورية. أخذت الحناجر، حناجرنا جميعا، تصدح بأغنية، ” بلادي، بلادي، بلادي، لكِ حبي وفؤادي”. سمعت العصافير وطيور السماء غناءنا، فأسرعت أسراب العصافير فوق رؤوسنا لتغرد معنا هي الأخرى. لقد شاهدنا ماء القسطل يزغرد فرحا بقدومنا، وكأنه يحتفي بقدوم أهل العريس لبيت العروس، لكن عروستنا نحن، للأسف مغتصبة.
كانت لنا استراحة قصيرة لتناول الفطور على البساط الأخضر والبساط متعدد الأصباغ، وللانتعاش بماء القسطل. بعدها، تابعنا المسير نحو القلعة، ولعل القلعة لم تكن هي الهدف الرئيس للبعض منّا، وإنما تفقُد منازل الأجداد كان هو المراد والغاية. فقد كانت منطقة المنازل السكنية تقع غربي القلعة قبل أن تقع بلدة صفورية تحت الاحتلال الإسرائيلي في 15 يوليو 1948وبعد مقاومة شرسة من قبل أهلها، الذين أجبروا على هجرها، فلجأوا الى عدة دول عربية مجاورة مثل لبنان وسوريا… وهكذا، أصبح أهل صفورية لاجئين يجترّون مرارة اللجوء في قلوبهم، ويحتفظون بمفاتيح بيوتهم في جيوبهم، على أمل العودة اليها ولو طال بعدهم عنها. أمّا مَن تبقى منهم، فقد لجأ إلى مدينة الناصرة أو إلى القرى المجاورة لها.
تركت “نجاة” مجموعتها من الأصدقاء السائرين برفقة أحد المدرسين باتجاه القلعة، وعرّجت نحو شجرة لوز مثمرة، حفّتْ بأحد البيوت الواقعة بمحاذاة الطريق، وقطفت ملء كف يدها ثمار اللوز الأخضر. فجأة، علت صيحة صدرت عن رجل خرج من وراء البيت، يبدو في الأربعين من عمره، قائلا بلغة عبرية مكسرة:
– لا تسرقي. هيّا انصرفي من هنا.
وما أن سمعت نجاة جملته هذه، حتى ثارتْ ثائرتها، وراحت تصرخ به وتشتمه، وتصول وتجول في المكان وتحاول إسداء اللكمات له. تنبّه المعلم المرافق لما يحدث، فأسرع باتجاه نجاة، اقترب منها، أمسك بذراعها اليسرى ليحول من اقترابها من الرجل ولكمه. نجح المعلم بتهدئة نجاة، فتركها وذهب الى الرجل ليتحدث اليه، ويعتذر له عن تصرف نجاة.
كنا نحن الطلاب جميعا قد تحلّقنا حول المعلم فسمعنا الحديث الذي دار بينه وبين الرجل. عرفنا أن الرجل يدعى “دافيد”، ومنذ قدومه الى البلاد قبل عشر سنوات من رومانيا، يسكن البيت الذي راح يطرد “نجاة” من محيطه.
– انصرف أنت من هنا. سمعنا نجاة تصرخ في وجه دافيد وتشير بيدها الى البيت الذي يقف دافيد في بابه قائلة له بالعبرية، وهي تنتفض من شدة الغضب والدموع تملأ عينيها:
– هذا بيت جدي وأنت سرقته. هذه أرض جدي وأنت سرقتها. تابعت تقول.
– إرجع أنت من حيث جئت. من أين أنت؟ سألته “نجاة” وهي ما زالت تؤشر وتلوح بيدها.
– أنا من تسيبوري. أجابها دافيد بعبوس وبلغته العبرية المكسرة.
نظرت “نجاة” إلينا عندما سمعت جواب دافيد، ثم حوّلت نظرها الى المعلم وسألته بذهول:
– إذا كان هو من صفورية؟ قل لي، من أين أنا إذن؟
فبدرت عن المعلم ابتسامة حزينة، وقال وهو يدفع بنا لمتابعة المسير:
– أنتِ من صفورية يا “نجاة”، من صفورية، حتى لو سموها تسيبوري، وسكنها الغريب، وسكنتِ أنتِ الناصرة.
**********************
* من كتاب، لا تحالف مع الشيطان، سنة 2018 للكاتبة جميلة شحادة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة