تحت عين القمر
تاريخ النشر: 19/01/21 | 9:02تعرّفت على الأسير معتز محمد فخري عبد الله الهيموني عبر روايته “تحت عين القَمَر”(303 صفحة، الصادرة عن الكتبة الشعبيّة ناشرون، نابلس، فلسطين)، قرّرت لقاءه ضمن مشروعي التواصليّ مع أسرى يكتبون، زرته صباح 19 شباط 2020 في سجن عسقلان، تحدّثنا بداية عن روايته التي قرأتها، عن الكتابة من خلف القضبان وأهميّتها، إيصال الفكرة السجينة والتعامل مع إحساس الفكرة وليس مجرّد كلمات، تحدّثنا عن أخلاق الإنسان الثائر/ المناضل “مِش كيف كان.. كيف لازم يكون”! عن انفعاله للقاء محامٍ يناقشه بنديّة و”مش بيع حكي”، على حدّ تعبيره، عمّا آلت إليه حالتنا فالناس “سكرانة”، أحد زملائه في الأسر يتساءل بسوداويّة: “هل نحن بحاجة لمجزرة يموت فيها الآلاف لنخرج من التخدير والخمول والسبات؟”، فالشعب في حالة هذيان ولكنّه يرى بصيص الأمل في بداية صحوة في الداخل الفلسطيني.
تناول أدب السجون الكلاسيكي تصوير الحياة خلف القضبان وخارجها، كما يناقش الظلم الذي يتعرّض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، وكان أقرب إلى “رواية السيرة الذاتيّة”. وجاء أسرانا بلون جديد قلب كل الموازين إذ كتبوا الرواية، الشعر، القصّة القصيرة وألوان أدبيّة أخرى دون تجربة سابقة ودون دراية بالكتابة وفنّها وأبدعوا. نجد عند معتز ورفاقه جرأة البوح وحريّة تحرّره من القيود الاجتماعية كنوع من التحرّر من سجّانه.
صرخ أسرانا عبر قضبان زنازينهم: لدينا ما نقوله من الأدب الجميل الذي يستحقّ القراءة، بغضّ النظر ورُغم كوننا أسرى خلف القضبان فاقرؤونا واسمعونا ولا تُحابونا فلا نحتاج “رحمتكم” والتساهل مع كتاباتنا بسبب القضبان!
يقولها معتز بصريح العبارة (ص.13): “للرواية مهمات عدة من بينها نقل حضارة المجتمع وثقافته بالإضافة إلى نقل تجارب الآخرين. لكنّي وفي الوقت الراهن أرى أن أهم مهماتها هي أن تكون صوت المجتمع وصرخته، فالمجتمع كالإنسان متى يكون معتلًا عليه البدء بالعلاج حتى لا يستفحل به المرض وبذلك يمسي العلاج مستحيلًا. وكيف يمكن للرواية أن تعالج؟ نحن نعلم أن العلاج يرتكز على ثلاث خطوات… اعتراف المعتَل بعلّته… تشخيص العلة وأسبابها… والعلاج”.
رواية “تحتَ عين القمر” اجتماعيّة؛ تتناول الهمّ النسوي ومعاناة المرأة الفلسطينيّة ومحاولة تمرّدها على القيود والتقاليد وسلطة الرجل في مجتمع ذكوريّ. “بطلتها” مروة، ابنة السابعة عشرة، تُرغَم على الزواج من عزام، ابن عمها (فابن العم بنزّل عن الفرس) ولكن، يا للهول، لم ينجح في “فكّ” بكارتها، وهنا تكمن الطامة الكبرى، الكل ينتظر “إعلان براءة الشرف من كلّ دنس من خلال رفع راية الدم” ولكن الأم تعود “جارّة ذيول الهزيمة وبيدها راية استسلام ناصعة البياض”، وهنا تقرّر العائلة قتل “تلك العاهرة والشرب من دمها”! ليتبيّن لاحقًا أنها عذراء حين فحصتها الدكتورة نورس! وتصف ليلة الدُخلة من وِجهتها وطفولتها المسروقة.
تنجح مروة بالهروب من حبل المشنقة التي نصبتها عائلتها، لتلتقي بمادلين العائدة من ميناء عسقلان وتأخذها للمستشفى على أنّها صديقتها “جين”!
تطرّق معتز لدورِ المرأةِ فانتقدَ بشدّةٍ النظرةَ النمطيّةَ المتكلّسةَ حولَ دورها وثارَ على النظرةِ الدونيّةِ للأمِ/ المرأةِ وحاول تصويرها بصورةٍ إيجابيّة، عبر الأخت الصغيرة “عبير” التي تعارض الزواج القهريّ من جعفر وتعتبره وأدًا لطفولتها المسبيّة رغم العقاب الذي يقف لها بالمرصاد، الأم، سحر وغيرها محاولًا تعرية المجتمع أمام المرآة، بجرأة، ليحطّم التابوهات، ويواجه الجهل الذي واكب التخويف والترهيب ليبقى مجتمعنا متخلّفا ورجعيّا، بدل التقدّم والتحضّر، تناول قضيّة الصمت لكي لا تفضح العائلة.
يعوّل معتز على جيل الشباب؛ الأخ الأصغر “وسام” يرفض فكرة قتل أخته مروة متسائلًا: “كيف تأكّدتم أنّها ليست عذراء؟”، “كيف تعالجون الخطأ بجريمة؟”، ويصف أخته مروة بأنّها أطهر من الشرف. كذلك موقف العم (أبو منصور) المعارض للقتل: “أتعيشون في عصر الجاهليّة إلى الآن؟ دعونا نُخضعها للفحص الطبي ونعلم حقيقة الأمر ثم نجد الحل المناسب بعيدًا عن القتل وإراقة الدماء، ثم من منّا لم يخطئ خلال شبابه؟” (ص151)، وصحوة ضمير الأب الذي يقول: “متى تنتهي هذه الكوابيس؟ أنا لم أعد أحتمل.. أريد ابنتي يا أم عادل… أريد مروة… مروة كسرت ظهري يا أم عادل” (ص 125).
ثار ضدّ ذكوريّة مجتمعنا حين صوّر بسخرية لاذعة ذاك البطل المزعوم “عزام”؛ عطّال بطّال، يتردّد على بيوت الدعارة في المدن المحتلّة، له علاقات مشبوهة مع فتيات السوء، يتفنّن باحتساء الكحول وتدخين الحشيش المخدّر.
تناول المحسوبيّات والوجاهة المزعومة المزيّفة عبر شخصيّة الجدّ (أبو حمدي)، “بعض الفاسدين المتنفذين من خضعوا لجدك ونفذوا إرادته والفاسدين موجودين في كافة فئات المجتمع ومن واجبنا محاربتهم وعدم السماح لهم بالتكاثر حتى يسود قانون العدل” (ص 227)، وكذلك الدجّالين وخزعبلاتهم ومتاجرتهم بمآسي الناس باسم الدين وهو بريء منهم.
تناول بجرأة ظاهرة القتل على خلفيّة شرف العائلة والإفلات من العقاب.
لا بد من جرعة ساخطة على الاحتلال المقيت وحواجزه وتضييقاته التي تنغّص الحياة اليوميّة وتعرقلها، فلا أسرة تخلو من مأساة سبّبها الاحتلال المقيت.
يًحسب لمعتز موقفه التقدميّ من التعايش والتسامح بين الأديان في فلسطين.
وظّف السخرية السوداء القاتلة ليصوّر الوضع البائس؛ “لمَ لا نتوجّه ونقاتل الاحتلال من خلال نسائهم، لمَ لا نذهب إلى أحد بيوت الدعارة؟ ولا يحتاج الأمر إلّا حفنة من النقود”(ص 76)، رغم أنّ بيوت الدعارة موجودة بيننا، نتجاهلها ونغضّ الطرف عنها: “كلّ ما يمكن لعقلك المغلق هذا، أن يتخيّله، موجود هنا لكنّه خلف القناع، نحن نفعل ما تفعله المرأة المهمِلة التي تخبئ الأوساخ تحت السجادة وهي لا تعلم أن يومًا سيأتي وتتلف هذه السجادة لتظهر الأوساخ وتفوح رائحتها الكريهة، حينها ستكون تلك الأوساخ قد تعفّنت واستحال تنظيفها” (ص 78)
جاءت لغته شاعريّة؛ “مع حلول المساء حيث اكتمل الحضور، عزفت الفرقة الموسيقيّة الأنغام الخاصة لاستقبال أميرة الحفل جين إلى الحديقة التي زيّنتها الأنوار ذات الأشكال الهندسيّة والألوان المتناسقة، فانتصب الجميع احترامًا لجلالة الجمال والأنوثة الوليدة من رحم السحر” (ص 82)، وحين يتغزّل بالصداقة: “هي شجرة جذرها في ثرى القلب وجذعها في فضاء الروح، ثمارها المحبّة والأمان، مذاقها دفء لحظة برد والسعادة حين اللقاء والاطمئنان لحظة الغياب، هي حافظة الأسرار وشمعة تُضيئ ليلة الأقدار”(ص 115)، وحين يقول “دموع عمّدت المشهد الإنساني بالقداسة”.
راق لي موقف الكاتب المُناصر للمرأة، وهو بصيص الأمل بمستقبل أفضل، تيمًنًا بما قاله إنجلز: “تحرّر المرأة معيار تحرّر المجتمع”، والنهاية الواعية حين قدّم لائحة الاتهام للحاج (أبو حمدي) والفساد الذي يمثّله.
يتناول الكاتب دور المثقّف، يطالبه أن يكون مثقّفًا مشتبكًا: “المثقف هو قائد يفرض ذاته من خلال فكرة، ومطلوب منهم إعلان حالة استنفار فكريّة لكي يتمكّنوا من المشاركة في معركة تحرير الأرض والإنسان… عليهم قيادة هذه المعركة لتتم بالشكل الصحيح والسليم، وصناعة دروع فكريّة، تحمي مجتمعنا من أي قصف فكري” (ص 16) بعيدًا عن التقليد الأعمى والتكلّس الفكري والعقائدي، فالجهل أعمى ويعمي.
وأخيرًا يجيب معتز على التساؤلات حوله بسخرية لاذعة: “يقولون أنّه عدو عاداتنا وتقاليدنا ويدعو للفسق والانحلال”، يصفه مجتمعنا بالزنديق، الفاسد والحرامي ليرشقوه بالشتائم والحجارة، تترك النساء ثرثرتهنّ عبر الشرفات ليلقين عليه الأحذية وأدوات منزليّة وأوعية مليئة بماء الغسيل الملوّث… لأنّه عرّى المجتمع وبيّن موبقاته!
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ وكما كتبت الصديقة الكاتبة حنان بكير: “من عتمة الزنازين يرسمون الوطن قوس قزح… هم في زنازينهم أكثر حريّة من الطلقاء ذوي النفوس الذليلة”، وكتب أخي د. يوسف عراقي: “الحريّة هي حريّة الأفكار… بالرغم من أنّهم خلف القضبان فإنّهم أحرار بعكس الكثيرين خارج القضبان فهم أسرى بمواقفهم”. نعم، إنّهم أسرى أحرار رغم القيود اللئيمة.
حسن عبادي
***مشاركتي في برنامج “وتر النّصر”، تقديم الكاتبة قمر عبد الرّحمن،
يوم الثلاثاء 5.01.2021