العظماء (20) القائد العربيّ سلطان باشا الأطرش
تاريخ النشر: 20/01/21 | 10:23بقلم: علي هيبي
كي لا تضيع الهويّة:
رحم الله من قال: “إنّ الاسْم الثّالث يرهقني”، وهو يقصد بالاسْم الثّالث اسم العائلة، بمعنى أنّ الانتماء العائليّ يجلب المتاعب للنّاس، وعليه يجب أن يُكتفى بالاسْميْن: الأوّل والثّاني، يعني الاسْم الشّخصيّ واسْم الأب: فأكون أنا “علي أحمد” لا غير، ولا حاجة أن أضيف بعد “أحمد” الاسْم “هيبي”. ولم يقصد ذلك الرّجل تجريدنا من انتمائنا العائليّ، فلكلّ عائلته الّتي يعتزّ بأناس طيّبين منها كما يعتزّ بأناس طيّبين من عائلات غيرها، ولا يعتزّ ولا يتشرّف بأناس أشرار من عائلته كما لا يعتزّ ولا يتشرّف بأناس أشرار من غيرها. لقد أراد ذلك الرّجل الطّيّب والشّريف أن يحذّرنا ليس من مجرد الانتماء لعائلاتنا، بل من التّعصّب إليها في كلّ حال، ومن التّجنّد لمناصرة أبنائها إذا كانوا طيّبين أو أشرارًا، فنكون بذلك كمن يؤمن بالحديث والتّفسير الجاهليّ للقول: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا” ونبتعد عن الحديث بالمفهوم النّبويّ الجليل الّذي جاء بالكلمات نفسها، ولكنّه حمل تفسيرًا إنسانيًّا وليس قبليًّا جاهليًّا وهو أن ننصر أخانا إذا ظُلم ونردّه عن ظلم الآخرين إذا ظَلم، وإلّا نكون جاهليّين قبليّين مشتّتين متناحرين كما قال الشّاعر الجاهليّ “دريد بن الصّمّة”:
“وهلْ أنا إلّا منْ غزيّةَ إنْ غوَتْ – غويْتُ وإنْ ترشدْ غزيّةُ أرشدِ” )غزيّة هو اسْم قبيلة الشّاعر(
فهل تنطوي العائليّة على جاهليّة لا على دين قويم! وعلى وحشيّة لا على إنسانيّة! وعلى شرّ لا على طيبة! وعلى ظلم لا على عدل! وعلى باطل لا على حقّ! وعلى غواية لا على رشاد! نعم! غالبًا. ولذلك إذا كان التّعصّب العائليّ على كلّ تلك المثالب فلا فَضّ الله فم من قال: “إنّ الاسْم الثّالث يرهقني”.
ويحضر بالمقابل لفكر هذه العصبيّة القبليّة المقيتة حيث يأكل فيها القويّ الضّعيف، فكر الصّعاليك الّذين أطلق عليهم النّظام القبليّ لقب “شذّاذ العرب” أولئك هم مجموعة من الثّائرين الّذين ثاروا على النّظام القبليّ الفاسد، وكانوا من فقراء كلّ القبائل وشجعانها وأقاموا المجتمع الثّوريّ البديل على أسس اشتراكيّة فطريّة. في هكذا مجتمع نبيل يتآخى أبناء القبائل ويعيشون بمساواة في تحصيل الرّزق وتوزيعه، ويعين فيه القويّ الضعيف ولا يأكله. وفي قصيدة “لاميّة العرب” للشاعر “الشّنفرى” وهو من الصّعاليك جاء في مطلعها:
“أقيموا بني أمّي صدورَ مطيِّكُمْ – فإنّي إلى قومٍ سواكُمْ لأمْيَلُ”
وقال فيها مبيّنًا أخلاق الصّعاليك:
“وكلٌّ أبيٌّ باسلٌ غيرَ أنّني – إذا عرضَتْ أولى الطّرائدِ أبسلُ
وإنْ مُدّتِ الأيدي إلى الزّادِ لمْ أكنْ بأعجلِهِمْ إذْ أجشعُ القومِ أعجلُ”
وهي القصيدة الّتي حثّ الخليفة “عمر بن الخطّاب” المسلمين على تعليمها لأبنائهم لأنّها تعلّمهم مكارم الأخلاق. فأخلاق الإسلام أقرب إلى فكر الصّعاليك وأخلاقهم، لذلك عادى نظام المجتمع القبليّ كليْهما.
الهويّات القاتلة والمدمّرة:
في كتابه “الهويّات القاتلة” يذكر المؤلّف “أمين معلوف” أنّ تحديد مفهوم الهويّة أمر صعب، لأنّها ليست ثابتة بل متحرّكة، وهي خليط من عناصر كثيرة ومتعدّدة الانتماءات، فمنها القوميّ والدّينيّ واللّغويّ والمكانيّ والزمانيّ والمرتبط بالأحداث الجسام كالحروب، وكذلك بتجربة الإنسان الشّخصيّة ويخلص إلى القول: “إنّ هويّتي هي الّتي تعني أنّني لا أشبه أيّ شخص آخر”، ولكنّه يشبه قليلين في انتمائه اللّبنانيّ والفرنسيّ وكثيرين في الانتماء إلى اللّغة العربيّة، فالهويّة عند “أمين معلوف” باختصار “لا تتجزأ ولا تتوزّع مناصفة أو مثالثة ولا تصنّف في خانات محدّدة أو منفصلة، وأنا لا أملك هويّات متعدّدة بل هويّة واحدة مؤلّفة من العناصر الّتي صنعتها وفقًا لجرعة خاصّة لا تتطابق مطلقًا بين شخص وآخر”.
ومن الهويّات الدّارجة في هذا العالم المخيف بتعدّد هويّاته الهويّةُ الطّائفيّةُ، وهي غالبًا ما تكون مرضًا اجتماعيًّا فتّاكًا وخطيرًا كالعائليّة عندما تتأدلجان، بل قد تكون أخطر لأنّ المثالب فيها تكون أشدّ قوّة وأعمق أثرًا وأكثر سلبيّة ووحشيّة في المجتمع الواحد وأبعد عن كلّ المناقب الجليلة والفضائل العظيمة. فالمرض الطّائفيّ يقول بأنّ طائفتي أفضل الطّوائف وأيّ واحد من أبنائها أفضل من أيّ واحد من أبناء الطّوائف الأخرى، حتّى لو كان شريرًا، غويًّا، ظالمًا ومتوحّشًا وقاتلًا. لا ننكر على النّاس انتماءاتهم إلى طوائفهم بل نحترم هذا الانتماء وقد قيل في القرآن: “كلّ حزب بما لديهم فرحون” فليفرح النّاس وليسعدوا بانتمائهم وطوائفهم، ولكن لا تكونوا متعصّبين عميانًا، نحترم الطّوائف وأبناءها ولا نحترم الطّائفيّة ودعاة أباطيلها ومفاسدها الظّالمين. واعلموا أنّ الموقف الإنسانيّ يقول: إنّ الطّيّب في طائفة أخرى أفضل لي من الشّرير في طائفتي، لأنّ الأوّل من الممكن أن يكون مجلبة للخير والشّرف والثّاني سيكون بالضّرورة مجلبة للشرّ والعار. وأنا ممّن يؤمنون في أنّه كلّما اتّسع الانتماء كان الانتماء أرقى وأكثر شرفًا وإنسانيّة. وإليكم مثالًا حيًّا على صدق ما أقول، جاء في كتاب “سعيد نفّاع” حول جيش “الإنقاذ” ما يلي: “أصدرت الهيئة الشّعبيّة في “جبل العرب” وَ “سلطان باشا الأطرش” بيانًا أعلنوا فيه التّضامن والاستعداد للدّفاع عن عروبة فلسطين” (ص 107 من الطّبعة الأولى) فهل حرّكهم إلى ذلك الموقف القوميّ النّبيل غير الانتماء للهويّة العربيّة، وليس للدّرزيّة مع احترامنا لها ولأهلها لأنّهم من صميم جلدتنا، ومن لحمنا ودمنا، هذا الانتماء العروبيّ الواسع مجلبة للفخر والكفاح ضدّ الظّلم وللقتال ضدّ العدوّ المغتصب. ويعود “نفّاع” ويؤكّد في الصّفحة نفسها من كتابه المذكور سابقًا: “أنّ فرقتيْن من هضبة “الجولان” انطلقتا واحدة بقيادة “أسعد كنج أبو صالح” بمئة متطوّع وفوج من “جبل العرب” يضمّ 500 متطوّع بقيادة “شكيب وهّاب” انضمّت كلتا المجموعتيْن لجيش “الإنقاذ” وعندما وصل الفوج إلى فلسطين انضمّ إليه كثير من دروز فلسطين معربين عن استعدادهم لمؤازرته”. فما هو محرّك هؤلاء الدّروز السّوريّين للكفاح؟ أليس الدّافع القوميّ العربيّ! وما هو محرّك الدّروز الفلسطينيّين للمؤازرة؟ أليس الدّافع الوطنيّ الفلسطينيّ والقوميّ العربيّ! أمّا الوجه المقابل لهذا الانتماء القوميّ والوطنيّ العزيز فهو عندما يصغر الانتماء ويضيق كما جاء في كتاب “نفّاع” نفسه على لسان “سلطان باشا الأطرش” قال: “حضر إلى “الجبل” القائد “فوزي القاوقجي” …. ثمّ قدم إلى “القريّا” وأطلعني على المهمّة الموكلة إليه وهي طلب المتطوّعين في جيش “الإنقاذ” لمنع وقوع فلسطين في يد الصّهاينة. استنهضنا همّة شباب “الجبل” في تلبية لدعوته فاستجاب الكثيرون لها”. والآن يجب الانتباه لما يقوله “الأطرش” إذ يتابع: “ويا ليت الأوضاع العامّة في “الجبل” كانت على غير ما كانت عليه بسبب النّزاع الّذي حصل بين الشّعبيّة والأطارشة، لَكُنّا زحفنا جميعًا للدّفاع عن فلسطين وتعزيز تقاليدنا في الكفاح وحماية الوطن. ولكنّ آثار الفتنة السّابقة بين أبناء “الجبل” (يقصد بين الشّعبيّة والأطارشة. ع. ه) جعلت الكثيرين حذرين من مغادرة قراهم”. ومع ذلك قدم من “جبل العرب” كما قلنا سابقًا مئات من المتطوّعين وقاتلوا ببسالة أمام العصابات الصّهيونيّة وقدّموا عددًا كبيرًا من الشّهداء بلغ أكثر من 80 شهيدًا. أرأيتم ماذا يفعل بنا الانتماء الضّيّق والهويّات القاتلة والمدمّرة، ندافع بهذه الهويّات الدّخيلة والانتماءات العائليّة البالية عن بضعة بيوت في قرى صغيرة ونهمل وطنًا كبيرًا هو بيت لجميعنا. وفي الوقت الّذي كان شبّان دروز شجعان بقيادة “شكيب وهّاب” من “جبل العرب” ورديفها من دروز البلاد وفصائل المقاومة الأخرى من قوّات “الجهاد المقدّس”: فصيل “أبو محمود الصّفّوري” وفصيل “نمر أبو النّعاج” يقاتلون ويجاهدون بروح وطنيّة يجتمع تحت لوائها شبّان مقاتلون من سائر الطّوائف، وسبعة منهم يستشهدون ومن بينهم الضّابط “علي الحنّاوي” في معركة “المالكيّة”، وفي معركة “هوشي – الكساير” يستشهد أكثر من 80 مجاهدًا، من أجل فلسطين عربيّة. في الوقت ذاته كان بعض العملاء الدّروز المتعاونين مع الصّهيونيّة وغير الموثوقين في روايتهم، كانوا يرتّبون لقاء بين “شكيب وهّاب” قائد الفوج الّذي قدم للقتال لصدّ الأطماع الصّهيونيّة عن فلسطين، وبين رجالات الحركة الصّهيونيّة، وحسب روايتهم غير الموثوقة تمّ اللقاء في “شفاعمرو” وتمّ إقناع “وهّاب” بترك مقاومة اليهود وتسليم المدينة بمعركة مفبركة. المؤكّد في هذه الرّواية الملفّقة تشويه سمعة القائد “وهّاب” والتّعاون المبكّر والخسيس بين شخصيّات درزيّة عميلة والحركة الصّهيونيّة حين كان الشبّان الدّروز الوطنيّون يقاتلون ويسقطون شهداء بعزّة وشرف ويروون بدمائهم الطّاهرة أرض فلسطين. وباعتقادي الّذي أعبّر عنه بصراحة، حاول هؤلاء العملاء الدّروز انتهاز انتماء القائد “وهّاب” ابن الطّائفة الدّرزيّة الكريمة وتحريك هويّته الدّرزيّة ونسوا انتماءه العربيّ العظيم وهويّته القوميّة، فاستبدلوهما بانتماء طائفيّ هزيل وبائس كانتمائهم المشوّه والمتذيّل للصّهيونيّة. ولم يتمّ اللقاء لا فوق “شفاعمرو” ولا تحت جسر “أفيك”، لا في الخامس من أيّار ولا في التّاسع منه. تلك الشّخصيّات الدّرزيّة العميلة وأمثالها اليوم هي الّتي عملت وما زال خلفاؤها يعملون على ضرب الانتماء القوميّ والوطنيّ للدّروز وتتبيعهم للمؤسّسة الإسرائيليّة، وهي الّتي كانت أدوات بيد الجهات الصّهيونيّة لبندقة حلف دنس وزائف “حلف الدّم”، وهي الّتي كانت أداة أساسيّة في تنفيذ فرض الخدمة الإجباريّة على الشّباب الدّرزيّ الفلسطينيّ والعربيّ إلى الجيش الإسرائيليّ المحتلّ لأوطانهم العربيّة بعد الإعلان عن قيام الدّولة وإلى جهاز الشّرطة، والجيش والشّرطة هما الذّراعان المنفّذان لسياسة الحكومة العنصريّة الّتي تميّز ضدّ العرب بمن فيهم الدّروز العرب (ولا يوجد دروز غير عرب) وهما الذّراعان الّلذان لا يتورّعان عن حماية بلدوزرات الهدم في “قلنسوة” وفي “مجد الكروم” وفي “عسفيا” وفي “بيت جنّ” وعن مصادرة الأرض العربيّة في “روحة أمّ الفحم” وفي “زابود بيت جنّ”. وهذه مجرّد أمثلة ليست محصورة.
فأنا أوّلًا إنسان وأتشرّف أسمى ما أتشرّف بهذا الانتماء الإنسانيّ الأمميّ الرّحيب، وثانيًا أنا عربيّ وأتشرّف بهذا الانتماء القوميّ دون تعالٍ على قوميّات أخرى وأعتزّ بانتمائي الإسلاميّ الحضاريّ وقناعاتي الفكريّة الأمميّة، ولكنّي أحترم أبناء سائر الطّوائف والأديان الأخرى من جلدتي من نصارى ودروز، فهؤلاء هم أخوتي في الانتماء الوطنيّ الفلسطينيّ والقوميّ العربيّ، ولا أرى في المسلم الطّالح أفضل من المسيحيّ أو الدّرزي الصّالحيْن بل العكس هو الصّحيح في رؤيتي الوجدانيّة والإنسانيّة وقناعتي الفكريّة العقلانيّة.
الوحش “فرّق تسد” والفريسة:
لقد استطاع الاستعمار الّذي هيمن على بلادنا في مصر والشّام والمغرب العربيّ والخليج وعلى شعوبنا العربيّة وعلى سائر الأقطار والشّعوب في قارّات العالم، أن يتعامل معنا بوحشيّة قذرة وفق سياسة أشدّ قذارة “فرّق تسد”، فجعل من العالم العربيّ قيسًا ويمنًا ومشرقًا ومغربًا ومصر وشامًا وجعل في العالم الإسلاميّ سنّة وشيعة وعلويّين وفي لبنان مسلمين ومسيحيّين ودروزًا وفي العراق عربًا وأكرادًا، وفي العالم البعيد جعل الهنود هندوسًا ومسلمين وجعل كوريا اثنتيْن: شماليّة وجنوبيّة وكذلك في فيتنام. لقد عانت شعوبنا في العالم الثّالث من توحّش هذه السّياسة الغربيّة الاستعماريّة، ولأنّنا كذلك لم ندرك جيّدًا أنّ الإقليميّة والطّائفيّة والقبليّة والعائليّة والتّعصّب الدّينيّ وسائر الانتماءات الضّيّقة السّلبيّة ستجعلنا فريسة سائغة للوحش، وسوف تبعدنا عن انتماءاتنا الوطنيّة القوميّة الإنسانيّة الواسعة، وستكون انتماءاتنا الضّيّقة عونًا مساعدًا للغرب لتنفيذ سياساته الخبيثة، وقد استغلّ الغرب هذا الجهل فينا فأحكم سيطرته على مقدّراتنا وثرواتنا ونهبها، وشدّد من “خنّاق” جبروته واستبداده على رقاب تحرّرنا واستقلالنا وكرامتنا وإنسانيّتنا.
حلف زائف وانتماء أصيل:
هل يمكن لمن يعرّف هويّته بأنّه عربيّ فلسطينيّ أن تكون هويّته صهيونيّة أيضًا! أوليس مثيرًا للعجب والاستهجان أن يكون من يعرّف نفسه عربيّا مسلمًا أو عربيًّا مسيحيًّا أو عربيًّا درزيًّا هنا في بلادنا صهيونيًّا! أوليس مثيرًا للاستغراب أن يكون ذلك الشّخص صهيونيًّا أو متصهينًا ولا يتنكّر لعروبته وإسلامه ومسيحيّته ودرزيّته! نعم ثمّة هويّات متناقضة في ظروف صعبة وأحوال قاهرة. ولكن لا يمكن أن أفهم أن تَسلب أو تطمس أو تغيّب هويّةُ عدوّي هويّتي وهويّةَ وطني، وأنتمي لتلك الهويّة المعادية، العكس هو الطّبيعيّ أن أتمسّك أكثر بهويّتي الأصليّة وهويّة وطني المسلوبة وأبرزهما “حتّى مقبض السّيف”، كما قال العظيم “نيلسون مانديلا” مرّة.
لا أعرف من أين ولد ونشأ ما سمّي “حلف الدّم” بين الدّروز واليهود، أو على الأصحّ والأدقّ بين الطّائفة الدّرزيّة وبين دولة إسرائيل “اليهوديّة”، لا أصدّق هذا الحلف الكاذب والزّائف والّذي ما أنزل الله له من سلطان، كنت أعتقد أنّ الحلف بني على أساس القصّة الدّينيّة الّتي جاءت نتيجة للمصاهرة بين النّبي “موسى” والنّبي “شعيب”، لكن تبيّن لي أن لا علاقة. لقد كان ذلك الحلف مرجعيّة مزيّفة لفصل الطّائفة العربيّة الفلسطينيّة الدّرزيّة عن هويّتها القوميّة العربيّة وعن هويّتها الوطنيّة الفلسطينيّة، ولترحيلها من قراها في “الكرمل” وَ “الجليل”. إنّها سياسة “فرّق تسد” الانتدابيّة البريطانيّة القذرة الّتي تبنّتها السّياسة الصّهيونيّة الإسرائيليّة، بنتُ تلك القذارة، فهو حلف من وضع ذهنيّة رجال مخابرات ومستعربين لقّنوه لأزلامهم من الدّروز العرب، وكما يقول الكاتب “سعيد نفّاع أيضًا: “شعار نفعيّ يرفعونه عندما يسقط ضحايا من المجنّدين الدّروز في الحروب العسكريّة الإسرائيليّة، شعار ينتفع منه هؤلاء العملاء وظائفيًّا ومراكزيًّا، والأخطر من ذلك أنّهم حاولوا غرس فكرة أخذ الثّأر من الطّوائف العربيّة الأخرى الّتي كانت “تظلم” الدّروز الأقلّيّة، ولذلك وكأنّ لليهود والدّروز عدوًّا واحدًا عليهما اتّقاءه، والخدمة العسكريّة تأتي كحماية لهم بالدّفاع المشترك”، ومن هذا الواقع الأعوج نشأ “حلف الدّم”، هذا المصطلح لم يعد موجودًا بعد تزايد عدد الوطنيّين الدّروز الّذين يفاخرون بانتمائهم الوطنيّ والقوميّ، إلّا عند بعض الحركات اللّيكوديّة الصّهيونيّة الدّرزيّة والشّبيبة اللّيبرمانيّة، فأصبح الدّروز وفقًا لهذه الحالة الإسرائيليّة والحلف الدّنس “دروزًا” فقط لا عربًا في قوميّتهم ولا مسلمين في ديانتهم! نعم حدث ذلك التّزوير التّاريخيّ بعد قيام دولة الزّور نفسها، وثمّة مسوّغ آخر لإتمام ذلك الزّيف والتّفريق هو خدمة أبناء الطّائفة العربيّة الدّرزيّة في الجيش الإسرائيليّ، الّذي نكّل بهم كعرب ودمّر قراهم الفلسطينيّة وشرّد إخوانهم وأهاليهم في النّكبة الفلسطينيّة، والجيش هو الذّراع الأمنيّة للحكومة الصّهيونيّة الّتي صادرت الأرض في القرى العربيّة والدّرزيّة ونهبتها وهدمت البيوت وبنت على أنقاضها المجمّعات السّكنيّة اليهوديّة، وحرمت القرى كلّها بما فيها الدّرزيّة من إمكانيّات التّطوّر. تعتبر قرية “بيت جن” الّتي تقعد على قمّة “الجرمق” نسبيًّا هي الأكثر تقديمًا لأعداد من “الشّهداء” في حروب إسرائيل ضدّ “العدوّ” العربيّ منذ النّكبة، ويا لسخرية الأقدار ولقذارة السّياسة الإسرائيليّة! هذه القرية هي أكثر قرية صادرت السّلطات الرّسميّة الحكوميّة أجزاء من أراضيها في “الزّابود” وَ “الخيط” ومنعت الفلّاحين من الوصول إلى حقولهم ومزارعهم ودمّرت كروم العنب الّتي اشتهرت بها “بيت جن”، وهدمت مساكنهم ومخازنهم الزّراعيّة. وبهذه السّياسة الصّهيونيّة العنصريّة تعاملت إسرائيل مع الدّروز كعرب في الحرمان من الحقوق وكيهود في أداء الواجبات، وأخطرها واجب التّجنيد العسكريّ الإجباريّ. لم يعد الأمر اليوم كما كان، فقد تراجع شعور هؤلاء الدّروز الشّباب بالانتماء للوطنيّة الإسرائيليّة بشكل ملحوظ، ومثل ذلك ارتفعت نسبة الّذين لا يؤيّدون الخدمة العسكريّة الإجباريّة إلى حوالي 64%، وهناك الكثيرون يتهرّبون منها بدوافع مختلفة، منها بلا شكّ الدّافع الوطنيّ والشّعور القوميّ. “لن أقاتل إخوتي”! كما سمّى الشّاعر “فهيم أبو ركن” ابن “عسفيا” ديوانه.
في مقالتي القادمة الّتي أنهيت كتابتها عن “مطران العرب غريغوريوس حجّار” كُتب عن الوجود المسيحيّ الآخذ في التّناقص في الشّرق العربيّ عامّة وفي فلسطين خاصّة، وقلت هذا أمر مقلق ومخيف! وعلينا جميعًا إيقافه والحفاظ على الوجود المسيحيّ العربيّ والفلسطينيّ. والآن تتطابق دعوتي مع دعوة الكاتب “سعيد نفّاع” حول ضرورة تضافر القوى والجهود الوطنيّة لدى الجميع: المسلمين والمسيحيّين والدّروز، ولدى الحركات الوطنيّة والأحزاب الدّيمقراطيّة والقوى المختلفة للعمل بمسؤوليّة وطنيّة من أجل إرجاع هؤلاء الدّروز المنتفعين والعاملين على تشويه الانتماء العربيّ الفلسطينيّ لأبناء طائفتهم من التّيه الغارقين فيه تحت دعاواهم الكاذبة: “حلف الدّم” وَ “الخدمة الإجباريّة” والحماية الزّائفة والعدوّ المشترك الموهوم، إنّ هذا العمل الوطنيّ والقوميّ كفيل بقلع كلّ الأسافين المدقوقة في وحدتنا الوطنيّة والعربيّة، هذه هي الوحدة الّتي ستكون ضمانة أساسيّة لتقوية وجودنا هنا في بلادنا وترسيخ هويّتنا على ترابنا العربيّ الفلسطينيّ الأسمر.
سبق أن تحدّثت عن شخصيّات درزيّة تعاونت مع السّلطة الإسرائيليّة منذ بزوغ فجر الدّولة وفشل الإمكانيّات العربيّة القاصرة والخائنة أحيانًا في الإنقاذ رغم بطولات جيش “الإنقاذ”، وربطت تلك الشّخصيّات المتذيّلة مصالحها الخاصّة بها، لدرجة أنّك تجد ما يسمّى بِ “الحركة الدّرزيّة الصّهيونيّة” الّتي أسّسها “أمل نصر الدّين” سنة (1973) ردًّا على تنامي قوى المعارضة الوطنيّة بين الدّروز العرب، وعينيًّا ضدّ التّجنيد الإجباريّ، وفي بداية تأسيسها كان فيها أعضاء ولها مقرّات ونشاطات، ولكنّها تلاشت منذ عقديْن من الزّمن ولم يبقَ منها إلّا اسمها ومجموعة يتيمة في “دالية الكرمل”، وكانت في بداياتها تدعو أبناء الطّائفة الدّرزيّة إلى دعم إسرائيل بشكل كامل وبلا تحفّظ. وقد شارك ويشارك الآن الشّباب الدّروز وفقًا لإبطال الإعفاء من الخدمة العسكريّة الإجباريّة عن الدّروز والشّركس سنة 1956، يشارك دروز مسلمون عرب وفلسطينيّون ويتجنّدون وفقًا لنوايا جهات صهيونيّة ودرزيّة خبيثة فاسدة وعميلة ومنتفعة في الجيش الّذي قوّض كيانهم الوطنيّ الفلسطينيّ ووجودهم القوميّ العربيّ ومسح الانتماء عن هويّتهم الأصليّة الأصيلة وبنى على أنقاضها كيانًا غريب الوجه واليد واللّسان، فكيف يكون هذا الغاصب حليفًا بالدّم! وبالمقابل ثمّة شباب من الدّروز رفضوا ويرفضون الآن هذا النّهج الخؤون، ومن أجمل الأمثلة وأبهاها وأكثرها اعتزازًا مشاركة كتيبة درزيّة من وطنيّي الشّباب المجاهد في جيش “الإنقاذ” قبيل النّكبة الفلسطينيّة وفي أثنائها، قاتلت هذه الكتيبة في منطقة الجليل الأعلى والأسفل إلى جانب سريّات “الجهاد المقدّس” بقيادة “أبو محمود الصّفّوريّ” وَ “أبو إبراهيم الصّغير” وّ “نمر محمّد أبو النّعاج” وَ “صبحي الخضرا”، وقد انضوت هذه السّريّات تحت لواء الكتيبة الدّرزيّة بقيادة “شكيب وهّاب”، نعم لإنقاذ فلسطين وللحفاظ على عروبتها.
وعندما شدّدت الأيادي السّلطويّة من “خنّاقها” على الشّباب العرب الدّروز الّذين رأوا بانتمائهم العربيّ والفلسطينيّ هو هويّتهم الأولى والبارزة، رفض هؤلاء الشبّان تلك القبضة الخانقة وتحدّوا الظّروف القاهرة ولم يمتثلوا للقانون الجائر، فعلى سبيل المثال لا الحصر اسْتُدعيَ بعد إعلان إلغاء الإعفاء سنة 1956 حوالي 481 شابًّا للامتثال لأوامر قانون التّجنيد الإجباريّ ولم يمتثل إلّا 78 واحدًا، أمّا الباقون فقد رفضوا وأبوا بعزّة وطنيّة وافتخار قوميّ، ومنهم من تعرّض للسّجون والتّعذيب والفصل من العمل وتهديد لقمة العيش وتقييد حرّيّة التّنقل والسّكن. ذكر النّاقد “نبيه القاسم” في كتابه “سميح القاسم لا يستأذن أحدًا” أنّ الشّاعر العروبيّ الفلسطينيّ الدّرزيّ المناضل “سميح القاسم” كان من الرّافضين الأوائل للحلف الزّائف ولقانون التّجنيد الجائر سنة (1956)، “وقد كان رفضه صريحًا وواضحًا وعاليًا وقام بتشكيل أوّل تنظيم سياسيّ معارض لتجنيد الشّباب باسْم “الشبّان الدّروز الأحرار” تيمّنًا بتنظيم “الضّبّاط الأحرار”، الّذي قاده الزّعيم العربيّ الثّائر “جمال عبد النّاصر” وقادت مصر للتّحرّر من ربقة الاستعمار البريطانيّ وأمّمت قناة “السّويس” وبنت مصر ورفعت اسمها العروبيّ إلى علّيّين، وصار رئيسها الخالد زعيم الأمّة العربيّة ورائد الوحدة العربيّة، وصاحب اللاءات الثّلاث “لا مفاوضات ولا صلح ولا اعتراف بإسرائيل” الّتي دوّت من “الخرطوم” إثر النّكسة ورغم الهزيمة في حزيران سنة (1967). أين يؤخذ الخرطوم اليوم انتماؤها السّودانيّ الضّيّق، أليس إلى التّطبيع مع إسرائيل لدرجة أن صار “نتنياهو” يتبجّح على اللّاءات الثّلاث ويقول: “اليوم هناك مفاوضات وصلح واعتراف بإسرائيل”، لطالما دمّرت هذه الهويّات الضّيّقة المشاريع القوميّة العظيمة!
أقام هؤلاء الشبّان النّدوات ووزّعوا البيانات معبّرين عن رفضهم التّجنيد وسجن “سميح القاسم” وأجبر على الأعمال الشّاقّة لكسر معنويّاته لكنّه صمد، ولم يحنِ هامته القوميّة المرفوعة ولا قامته الوطنيّة المنتصبة:
“منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفّي قصفة زيتون
وعلي كتفي نعشي”
لقد كان سلوك “سميح القاسم” ورفاقه الوطنيّين ردًّا طبيعيّ الانتماء العروبيّ وناصع الهويّة الوطنيّة على تلك الشّخصيّات الّتي فقدت شخصيّاتها وهويّاتها وانتماءها العربيّ فانحنت ذليلة تقبّل يد الظّالم وجلست على موائد اللّئام وأكلت من فتات صحونه فهانت وخانت حتّى صارت تضرب بسيفه. أمّا الشّاعر المناضل “سميح القاسم” ورفاقه فكان شعارهم العظيم “الموت ولا الذّل”. وقد صحّ في هؤلاء الأذلّاء قول أبي طيّب شعرنا: “مَنْ يهنْ يسهلِ الهوانُ عليْهِ ما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ”
هؤلاء الأذلّاء أنفسهم هم الّذين يريدون تشويه انتماء القائد العربيّ العظيم “سلطان باشا الأطرش” بحصره في درزيّته الّتي لا شكّ في تبجيلنا إيّاها ولا غبار على صفائها وطهارتها، ولكنّ “الباشا” كان صاحب هويّة قوميّة عربيّة وسوريّة وطنيّة وانتماء أصيل وحقيقيّ وخالص كالذّهب لا يضيره التّنك الصّديء، ولا يمكن مسّها ولا تشويهها ولا اللّعب في مقوّماتها ولا العزف النّشاز على أوتار طائفيّة ضئيلة ومقيتة. وإنّ من يفعل ذلك فإنّه لا يضيف له فخرًا ولا مجدًا بل يسيء إلى شخصيّته العربيّة ويدنّس مسيرته التّاريخيّة النّضاليّة المجيدة.
سوريا فلسطين هويّة عربيّة واحدة:
العملاء غير الأصيلين من أبناء الطّائفة الدّرزيّة الأصيلة الّذين تعاونوا مع الحركة الصّهيونيّة دنّسوا انتماءهم بحصره في الجانب الطّائفيّ، وهم في الحقيقة لا يحترمون طائفتهم الدّرزيّة العربيّة ولا يؤمنون بفكرة التّوحيد، ولا بصالح الدّروز الفلسطينيّين في الكرمل أو في الجليل ولا في أمنهم ورفاهيّتهم وضمان مستقبلهم في ترحيلهم إلى “جبل العرب”، ولا بكرامة “سلطان باشا الأطرش” ولا بسمعته، بل فكّروا بقبض المال من خلال عمالتهم الدّنسة للحركة الصّهيونيّة وفكرها وممارستها الّتي تهدف إلى تفريغ البلاد من العرب الفلسطينيّين: مسلمين ومسيحيّين ودروزًا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وقد قبض بعضهم مبالغ ماليّة لقاء خدماته.
ما الهدف من استغلال فرصة دنيئة في عمل إنسانيّ! جاء “زيد الأطرش” شقيق “سلطان باشا” إلى حمّامات “طبريّا” لعلاج ابنه سنة (1934) فدعته بعض الشّخصيّات الدّرزيّة إلى زيارة قرية “الرّامة” الجليليّة، وجاءت شخصيّات أخرى لاستقباله والتّرحيب به. لم يغفل العملاء عن الزّيارة بل قد يكون لهم دور في ترتيبها وتنفيذها، فأحضروا إلى لقائه “أهرون كوهين” وهو أحد الشّخصيّات الصّهيونيّة الّتي عملت على ترحيل دروز “الكرمل”. لم يكن الهدف “زيد الأطرش” بل استغلّت زيارته الإنسانيّة كعتبة لعقد مقابلة أهمّ وأبعد أثرًا وخطرًا بين شخصيّات صهيونيّة وعظمة القائد “سلطان باشا” ليصلوا إلى بناء علاقات ولقاءات وتحالفات تدمغه بالعار، وتمنع مشاركة الشّباب الدّرزيّ الفلسطينيّ والعربيّ من المشاركة في القتال مع جيش “الإنقاذ”. ما هو هدفهم غير تلطيخ هذا الشّرف وهذه الكرامة المتمثّلة بهذه القامة العربيّة السّوريّة السّامقة؟ ما الغرض إلّا تدنيس الهويّة العربيّة والسّوريّة والفلسطينيّة والدّرزيّة الصّادقة بدرزيّتهم العميلة الضّيّقة.
و “زيد الأطرش” رجل وطنيّ وهو صاحب القصيدة الحزينة المعبّرة عن دناءة الخيانة “للديرة”/ الوطن، والّتي غنّتها المطربة “أسمهان” بصوتها الرّقيق والرّخيم والحزين، وهي “آمال الأطرش” شقيقة الموسيقار الكبير “فريد الأطرش” الفنّان والمطرب الّذي غنّى للرّئيس “جمال عبد النّاصر” ولانتصار الثّورة المصريّة أغاني كثيرة، أبرزها “المارد العربيّ” من كلمات “حسين السّيّد” وَ “شعبنا يوم الفداء” من كلمات “عبد الجليل وهبي” وغنّى للوحدة العربيّة أوبريته الشّهير “بساط الرّيح” من كلمات “بيرم التّونسيّ”. يقول “زيد الأطرش”:
“يا ديرتي مالك علينا لومْ – لا تعتبي لومك على من خانْ
حنّا روينا سيوفنا من القومْ – ما نرخصك مثل الرّدى باثمانْ
لا بدّ ما تمضي ليالي الشّومْ – ويعتزّ جيشٍ قايده سلطانْ
وإن ما خذينا حقّنا المهضومْ – يا ديرتي ما إحنا إلك سكّانْ”
كان “سلطان باشا” واعيًا لخطّة التّرحيل منذ سنة (1938) وخطورتها، وبعد محاولات لإقناعه بأنّ الدّروز الفلسطينيّين يتعرّضون للأذى من جانب إخوانهم الثّوّار العرب ويلاقون مساعدات كبيرة من الحركة الصّهيونيّة. رغم ترحيبه في البداية بدروز فلسطين ليسكنوا في “الجبل” إذا رغبوا هم بذلك، “ولكنّ الأمر ينطوي على مخاطر ولا نقبل أن ينظر إلينا إخواننا المسلمون نظرة الشّكّ والخيانة”، جاء هذا الرّدّ القصير موافقًا مع ومدعومًا من التّيار الدّيني ممثّلًا بشيخ عقل الطّائفة “أحمد الهجريّ” ومن التّيّار القوميّ ممثّلًا بِ “علي الأطرش”، وقد أجمعوا على أنّ أيّ علاقة مع اليهود تضرّ بالأمّة العربيّة والإسلام. فكان الرّدّ مقدّمة لإفشال تامّ وواسع الرّؤية والهويّة لخطّة التّرحيل ضيّقة الرّؤية ومزوّرة الهويّة، لقد أراد هؤلاء العملاء من الدّروز تصوير الوضع وكأنّ أبناء الطّائفة الدّرزيّة يتعرّضون للأذى من سائر الطّوائف الفلسطينيّة، ولكنّ الحقيقة أنّ كلّ الشّعب الفلسطينيّ بكلّ طوائفه بمن فيها الطّائفة الدّرزيّة الفلسطينيّة العربيّة العريقة تعرّضوا لأذى أكبر وأخطر وأشمل هو الاحتلال الصّهيونيّ لفلسطين وأذى الحركة الصّهيونيّة العنصريّة وأطماعها في ترحيل الشّعب والاستيلاء على الأرض، تنفيذًا لفكرتهم السّابقة وروايتهم المزيّفة “جئنا شعبًا بلا أرض إلى أرض بلا شعب”، كان أبرز انعكاساتها وممارساتها خطّة ترحيل الدّروز الفلسطينيّين إلى “جبل العرب” السّوريّ. ولكنّ الموقف العروبيّ والسّوريّ والفلسطينيّ جاء دلالة على الوعي والشّموخ المعهود عند أبناء الطّائفة الدّرزيّة الأصلاء في انتمائهم العروبيّ أينما تواجدوا في هذا الوطن العربيّ. وكان نصّ نصيحة “الباشا العظيم” واضحًا وضوح الشّمس كمناضل جرّب التّشرّد وذاقه على جلده وجلد أقاربه ومرافقيه في الأردن والسّعوديّة، وجاء فيها: “لقد نصحت أبناء الطّائفة الدّرزيّة في فلسطين صراحة بعدم مغادرة أرضهم مهما تحمّلوا أو سيتحمّلون من وطأة الاحتلال. ولقد دلّت الأيّام على أنّ التّشبّث بالأرض خير من التّشرّد في أصقاع الوطن العربيّ. إنّ التّقصير في حماية الأرض الفلسطينيّة لم يقف عند هذا الحدّ، بل إنّ اللّاجئين الفلسطينيّين عانوا الأمرّيْن من معاملة بني جلدتهم رغم شدّة البؤس الّذي يعيشون فيه”.
السّلطان والحاجّ:
لم تبدأ العلاقة بين “سلطان باشا” والقضيّة الفلسطينيّة، ولا العلاقة مع “الحاجّ أمين الحسينيّ” (1895 – 1974) مع الثّورة السّورية أو منذ النّكبة سنة (1948) ولا حتّى في أواخر ثلاثينيّات القرن الماضي، بل بدأت منذ أوائل عشرينيّاته. منذ نهاية حكم الأتراك وبداية الانتداب البريطانيّ.
في الثّالثة صباحًا وتحت أكناف الظّلام وصل “رشيد طليع” يوم 5 تشرين الأوّل سنة (1924) متخفّيًا عن عيون الإنجليز، وماشيًا على قدميْه من “السّويداء” إلى “القدس”، جاء إلى “الحاجّ أمين” مبعوثًا من “سلطان باشا” طالبًا ألف ليرة ذهبيّة دعمًا للثّورة السّوريّة، فأعطاه في الحال وأرسل معه ثلاثة من خيرة أعوانه رافقوه حتّى “السّويداء”. كان “طليع رشيد” (1877 – 1926) مقرّبًا من الملك “فيصل” وعندما رحل الملك انضمّ إلى ثورة الشّيخ “صالح العلي” سنة (1920) وطورد ولوحق حتّ استقرّ به الأمر في “جبل العرب” وبدأ بالإعداد والمساهمة بالثّورة إلى جانب الثّوّار وقائدهم “سلطان باشا الأطرش”، وإلى جانب ثورة الشّيخ “العلي” قاتل الشّيخ “عزّ الدّين القسّام” (1883 – 1935) الّذي أدّى استشهاده لتفجّر الثّورة الفلسطينيّة الكبرى سنة (1936) فيما بعد. ومن الضّروريّ التوقّف عند الشّيخ “صالح العلي” قائد الثّورة السّوريّة في اللّاذقيّة ضدّ الانتداب الفرنسيّ، والّذي كان له علاقاته مع الثّورة العربيّة في الحجاز ومع قائدها “الشّريف حسين” ضدّ حكم الأتراك، ولعلّ من أنبل مواقفه الوطنيّة والكفاحيّة هو رفضه العرض الفرنسيّ لإقامة دويلة علويّة في اللّاذقيّة، وهو نفس الموقف الوطنيّ النّبيل الّذي رفضه “سلطان باشا” لإقامة دويلة درزيّة في “جبل العرب”، فيا لمواقف العظماء الّتي تأبى الظّلم وشرذمة المواقف وتقسيم الوطن الواحد.
قام “الحاجّ أمين” يدعو أبناء الشّعب الفلسطينيّ للمشاركة الفعليّة في الثّورة السّوريّة، وأمدّها بالمال والسّلاح، يقال أنّ المبالغ الّتي جمعت للمؤازرة وصلت إلى 100 ألف ليرة ذهبيّة، وقد ساند عدد من أهل فلسطين بالثّورة سنة (1922) وتكوّنت جمعيّات ولجان من شخصيّات فلسطينيّة وطنيّة دعت جميعها إلى مساندة الثّورة السّوريّة أهمّها “لجنة مساندة الثّورة”، وفي سنة (1927) بعد انتهاء الثّورة وقصفت القوّات الفرنسيّة الغازية والوحشيّة القرى والمدن السّوريّة وهدمت البيوت على رؤوس الأهالي من أطفال ونساء، أقام “الحاجّ أمين” لجنة لمساعدة منكوبي سوريا.
ليس غريبًا بل هو الأمر الطّبيعيّ أن يهبّ الشّباب الدّروز من “الجبل” بدعوة وتوجيه من قائد الثّورة السّوريّة “سلطان باشا الأطرش” ليقاتلوا في فلسطين ويدافعوا عن عروبتها سنة (1947) ومن ثمّ ينضمّ إليهم شباب من دروز فلسطين، من الجليل والكرمل ليقاتلوا مع أفواجهم وسريّاتهم إلى جانب الفرق الفلسطينيّة المقاتلة من “الجهاد المقدّس” الّتي يقودها “الحاجّ أمين”، وتحت لواء جيش “الإنقاذ” بقيادة “فوزي القاوقجي” (1890 – 1977) أحد قادة الثّورة السّورية في الشّمال والشّرق السّوريّيْن.
الزّعيم اللّبنانيّ والوطنيّ الدّرزيّ “شكيب أرسلان” (1869 – 1946) لم يتخلَّ عن فلسطين ولا عن “الحاجّ أمين” وكان سنده بعد أن أفلت من الحصار سنة (1937) وحين اعتقله الحلفاء طالب الزّعيم العروبيّ الدّرزيّ الحكومة اللّبنانيّة بإطلاق سراحه، وتمّ ذلك سنة (1947) وحلّ وعاش في قرية “قرنايل” الدّرزيّة.
سلطان باشا الأطرش:
عروبيّ، سوريّ ودرزيّ أصيل من جبل العرب السّوري الأشمّ، لم أقرأ عن رجل انتمى إلى طائفة الدّروز الموحّدين المعروفيّين وكان أكثر اعتزازًا وافتخارًا بهذا الانتماء من “سلطان باشا الأطرش”، الّذي قال في مقابلة مع صحفيّ أجنبيّ: “حنّا بني معروف/ صخورنا منلتجي ليها/ وصخورنا ملجا الدّخيل/ بتحمي الملتجي ليها/ ولمّا بتصدا رماحنا/ بدمّ العدى منجليها”. وهو الّذي كان ينادي باعتزاز كبير رجال طائفته الشّرفاء في الجبل: “أناديكم من معاقل جبل العرب واللّجاة، وهو داركم وسلاحكم وحِرزكم وملاذكم، هبّوا إلى المدافعة عن أوطانكم، أوطان آبائكم وأجدادكم وحطّموا أغلال الاستعمار في دياركم، فقد هبّت رياحكم فاغتنموها، ودرّت ضروع أيّامكم فاحلبوها”.
انتماء واعتزاز عظيم لشرف الجذور ومجد الكفاح، ولكنّ انتماءه العزيز ذاك لم ينحصر في هذه الدّائرة الطّائفيّة بل رسّخها وتعدّاها، كان انتماؤه لهويّات أكثر اتّساعًا من هذه الدّائرة، ومن خلال تينك الدّائرتيْن: السّوريّة والعربيّة جاءت دعوته رافضًا عزل الدّروز عن الوطن العربي مصرًّا على العلاقات الوطنيّة والقوميّة الّتي تجمع كلّ وطن عربيّ بالآخر، وفي بيان أصدره “ولا تنافس في الأهواء ولا خصومات ولا أحقاد طائفيّة بعد اليوم. إنّما نحن أمّة عربيّة سوريّة، أمّة مستضعفة، لكنّها قويّة في الحقّ قد انتبهت إلى المطالبة بحقّها المهضوم. أمّة عظيمة التّاريخ نبيلة المقاصد. تريد الحياة، والحياة حقّ طبيعيّ وشرعيّ لكلّ الأمم الّتي قسّمها الاستعمار الأجنبيّ فوحّدتها مبادئ حقوق الإنسان وأعلام الحرّيّة والمساواة والإخاء”. وقال في مكان آخر: “إنّ العرب فاتتهم فرص كثيرة للوحدة، وإذا لم ينتصر الفريق الوحدويّ، وانتصاره محتّم، فسوف ندمّر طموحات الشّعب العربيّ. ومهما طالت الأيّام فسيأتي يوم يتماسك فيه العرب، ونحن ممّن لا يقيمون اعتبارًا للسّنين في مسيرة التّحرّر والوحدة”. إنّ أيّ مسلم عربيّ يحصر انتماءه في إسلامه وأيّ مسيحيّ عربيّ يحصر انتماءه في مسيحيّته وأيّ درزيّ عربيّ يحصر انتماءه في درزيّته، فهؤلاء جميعًا سيكونون بالضّرورة ومن باب تحصيل الحاصل إلى جانب باطل الاستعمار والاحتلال والخيانة وضدّ حقّ بلادهم وشعوبهم وأمّتهم العربيّة في التّحرّر والاستقلال والكرامة، وسيكون عدوًّا بالضّرورة لروعة نقاء الأفكار الوطنيّة عند “سلطان باشا الأطرش” ولروح وحدة القوميّة العربيّة الّتي نادى بها “جمال عبد النّاصر” ولتعاليم السّيّد “المسيح” ولكفاحه ضدّ الأباطرة الأقدمين الظّالمين ولتسامحه الإنسانيّ.
هذا هو “سلطان باشا الأطرش” درزيّ أصيل يرسّخ انتماءه الطّائفيّ بهويّته الوطنيّة السّورية ويرسّخ انتماءه الوطنيّ بهويّته القوميّة العروبيّة، فلا انتصار لطائفة وحدها ولا لقطر وحده، بل إنّ وحدة الأمّة العربيّة على مسار كفاحيّ وعلى أهداف عادلة وسامية هي ضمان تحقيق النّصر على المحتلّ الغاصب وكنس دنسه عن ثرى جبل العرب والشّام وسائر الأقطار العربيّة. إنّ “سلطان باشا الأطرش” قائد ومناضل عربيّ عظيم. فمن أين اكتسب هذه القيادة والعظمة؟
الأجواء الكفاحيّة الحاضنة:
تجعلني الكتابة عن هؤلاء العظماء أغوص في عالم التّفاصيل الصغيرة والدّقيقة، كأن أهتمّ حتّى بأيّام ولادة أولئك الرّجال العظماء، ويا ليتني أستطيع أثناء غوصي ذاك أن أعرف ساعات ولادتهم لأسجّلها، كون تلك السّاعات انطوت على أحداث جليلة، جعلت من تلك اللّحظات تمتدّ وتتّسع وتطول في تاريخ عريض ومجيد.
ولد “سلطان باشا الأطرش” بن ذوقان بن مصطفى بن إسماعيل الثّاني في 5 آذار سنة (1891) في قرية “القريّا”، في محافظة “السّويداء” من منطقة “صلخد” في جبل العرب السّوريّ، وتوفّي في 26 من آذار سنة (1982) عن عمر زاد عن 91 عامًا. في بيئة المشيخة الأطرشيّة الدّرزيّة الشّهيرة الّتي أسّسها أبوه سنة (1869) والّتي تميّزت بالكرامة ورفض الذّلّ، كانت أمّه “شيخة بنت منصور بن إسماعيل الثّاني، اهتمت ببكرها فعاش طفولته وصباه في كنف هذه الأجواء، وفي ظلّ قناعة من بساطة العيش والزّهد في ملذّات الدّنيا وما فيها من جاه ونفوذ ورغبة في السّلطة، لقد جعلته تلك القناعة والبساطة صاحب سلطة كبيرة وشخصيّة مؤثّرة وله تاريخ مجيد متميّز، فعُرف بالوطنيّة الفائقة وبالشّجاعة الّتي لا حدود لها، كما عُرف وهو الأهمّ بإيمانه الأعمى بوحدة الوطن السّوريّ وانتمائه العربيّ الأصيل، وهو الّذي نادى بشعار قوميّ فقال: “نحن أمّة عظيمة في التّاريخ، نبيلة في مقاصدها، قد نهضت تريد الحياة، والحياة حقّ طبيعيّ و شرعيّ، قسّمها الاستعمار، فوحّدتها مبادئ حقوق الإنسان. وبهذا التّوحيد، لم يعد في سوريا، درزيّ وسنّيّ وعلويّ وشيعيّ ومسيحي. بل هم أبناء أمّة واحدة ولغة واحدة وتقاليد واحدة ومصالح واحدة … فلنؤلّف بين قلوبنا الإخاء القوميّ ومحبّة الوطن ولتكن إرادتنا إرادة حديديّة واحدة”. ومن هذا الإيمان الواثق والرّاسخ في النّفس والوجدان والضّمير رفض عرض فرنسا الخبيث الصّادر عن عقليّة سياسة “فرّق تسد” قبول إقامة دويلة درزيّة في “جبل العرب”.
ومن ثمّ بدأ يتعلّم مبادئ القراءة على يد بعض المعلّمين وفي “الكتّاب” ولكنّنا نستطيع أن نقول أنّ الفتى “سلطان” اعتمد على قدراته الشّخصيّة فعلّم نفسه بنفسه، ممّا يدلّ على عصاميّته منذ جيل مبكر، وفي الآن نفسه كان يتدرّب على فنون القتال والفروسيّة والرّماية على والده “ذوقان الأطرش”، الّذي أعدم سنة (1911) وكان “سلطان” الشّابّ ابن العشرين عامًا قد بدأ يشارك في التّمرّدات الّتّي قادها أبوه ضدّ الأتراك، ومن هذه الفترة المبكّرة من عمره بدأت تظهر عليه أمارات البطولة وتحلّى بصورة الفارس العربيّ، وبدأ يفقه معنى الظّلم وضرورة الكفاح قبل أن يلتحق بصفوف الثوّار بشكل كبير وحقيقيّ.
كان كبير أخوته: “زيد” وّ “عليّ” وَ “مصطفى” وأختيْه: “سميّة” وَ “نعايم”، وقد يكون كونه بكر إخوته أن تزوّج “سلطان” صغيرًا، وهو في سنّ التّاسعة عشرة من “غازية” ابنة عمّه “فايز الأطرش”، ولكنّها توفّيت قبل أن تنجب، فتزوّج من “تركيّة” بنت الشّيخ “إبراهيم أبو فخر” من “نجران” فأنجبت له سبعة أولاد: طلال وفوّاز ويوسف وجهاد ومنصور وناصر وطلال، لأنّ طلال الأوّل كان قد قتله الفرنسيّون في إحدى المعارك، وسبع بنات: غازية وبتلاء وزمرّد وتركيّة ونايفة وعائدة ومنتهى.
لقد قاد أبوه “ذوقان الأطرش” سنة (1910) مقاومة ضدّ الأتراك الّذين أرادوا السّيطرة على “الجبل” عنوة، وبوحشيّة، قاد القوّات العثمانيّة “سامي باشا الفاروقي” بهدف إخضاع هذا الفتيل الثّوريّ في “جبل العرب”، والّذي بدت عليه علامات الانتماء العربيّ، وهو ما كان يتعامل معه العثمانيّون بجدّيّة وقمع وحشيّ، وبعد عدّة معارك، بين كرّ وفرّ استطاع الدّروز في “الجبل” أن يحقّقوا انتصارات أدّت إلى هزائم في القوّات العثمانيّة، ممّا حدا بالعثمانيّين من زيادة قوّاتهم وتشديد القمع إلى أن أسفرت معركة “الكفر” سنة (1910) عن سيطرة العثمانيّين على “الجبل”، ولكنّ المعارك وجولات التّمرّد لم تنتهِ، فقبض الأتراك على قادة التّمرّد من الدّروز، ومن بينهم “ذوقان الأطرش” وأعدمته سنة (1911) لقد شهد “سلطان” هذه الأحداث وشارك فيها إلى جانب والده، ورغم ما أثاره إعدام أبيه من ألم نفسيّ ترك جرحًا عميق الأثر، لكنّه لم يفكّر في الثّأر والانتقام على المستوى الشّخصيّ، بل كره الاستعمار والمستعمرين وفكّر في الثّأر منهم على مستوى الوطن السّوريّ وبعقليّة القائد المجاهد الفذّ، ولقد عزّز هذا الشّعور الوطنيّ والكفاحيّ فيه أنّ “القريّا” كانت معقلًا للوطنيّين والقوميّين العرب الفارّين من الأتراك والرّاغبين في الالتحاق بالثّورة العربيّة، والّتي بدأت رياحها تهبّ على “الجبل” ويحسّها “سلطان” منذ هذه الفترة المبكّرة، ولذلك بدأ بانتمائه إلى الثّورة الهادفة إلى طرد الاستعمار عن تراب سوريا الطّاهر وكنس الاحتلال إلى الأبد، وهو ما حدث بفضل ثورته المجيدة سنة (1925 – 1927) الّتي مهّدت لخروج القوّات الفرنسيّة المحتلّة الّتي دنّست طهارة بلاد الشّام سنة (1946).
كانت بلاد الشّام كسائر البلاد العربيّة تقع تحت سيطرة الدّولة العثمانيّة، ولولا الظّلم والقمع وكلّ سياسات الاضطهاد والاستغلال الّتي مارسها العثمانيّون لرأوا بها العرب كمسلمين دولتهم الّتي ينتمون إليها، وقد قام العثمانيّون بتجنيد الشّباب العربيّ في جيوشهم في الغرب والشّرق، وانضوت تحت لواء حكمهم كلّ الأقطار العربيّة، وهناك من القيادات والشّخصّيات والمفكّرين العرب من نادى بالبقاء تحت لوائها خوفًا من الغرب “الصّليبيّ” وعدم المطالبة بالاستقلال أو الانفصال عنها، ومع ذلك كان العثمانيّون مستعمرين مضطهدين قامعين بكلّ ما تحمل هذه الكلمات من معانٍ ودلالات، فقمعت التّمرّد في “جبل العرب” سنة 1911 كما أعدمت ثوّارًا في كلّ بلاد الشّام وفي قسمها الجنوبيّ “فلسطين”، وكذلك في ليبيا قبل سقوطها بيد الاحتلال الإيطاليّ، وفي مصر وفي العراق والسّودان وكلّ الأقطار العربيّة. ومن المؤسف أنّه ولغاية هذا اليوم ما زالت بعض الحركات الدّينيّة كالإخوان المسلمين والحركات الإسلاميّة والمتطرّفة تتذيّل بتركيّا وترى فيها المرجعيّة الإسلاميّة السّنّيّة وترى في الرئيس التّركيّ المحتلّ لجزء من شمال سوريّا والّذي تتواجد بعض قوّاته في ليبيا لنهب خيراتها ونفطها، ويعبث بمقدّرات العراق، ما زالت هذه الحركات الرّجعيّة ترى في “أردوغان” الخليفة المنتظر بعد انهيار الخلافة نفسها في الدّولة “العليّة” وتحوّل تركيا إلى النّظام الجمهوريّ بعد موت “الرّجل المريض” وتسلّم مصطفى كمال أتاتورك الحكم سنة (1924) وإبراز ميله في الاتّجاه غربًا نحو أوروبا.
خدم “سلطان باشا الأطرش” في الجيش التّركيّ فأدّى الخدمة العسكريّة في الجيش العثمانيّ سنة (1910) وقاتل في صفوفه في “الأناضول” وفي “رومانيا” وفي “البلقان”، وهناك وأثناء تأديته للخدمة اكتسب تربية عسكريّة وخبرة قتاليّة ممّا مكّنه بعد ذلك من الحصول على رتبة “باشا” الّتي ارتبطت باسْمه، وهي ليست اللّقب العثمانيّ المدنيّ الّذي كان تطلقه الدّولة العثمانيّة على أعيان مصر وغيرها من بلاد العرب ومؤيّديها. رتبة “باشا” هذه الّتي حاز عليه “سلطان باشا الأطرش” هي رتبة عسكريّة توازي في مكانتها العسكريّة العالية رتبة “فريق”، ومن ثمّ تمكّن من قيادة الثّورة السّوريّة العربيّة الّتي انطلقت من جبل العرب سنة (1925).
سلطان الجبل وبدايات الثّورة:
مع انتهاء الحرب العالميّة الأولى سنة (1919) عاد “سلطان باشا” إلى الشّام يحمل لقبه العسكريّ معه بعد أن قدّم خدمات جليلة في الجيش العثمانيّ في دول “البلقان”، عاد وقد كان مصحوبًا برغبة كفاحيّة جامحة للتّصدّي للوجود الاستعماريّ: الفرنسيّ والبريطانيّ اللذين تقاسما تركة “الرّجل المريض” وفق معاهدة “سايكس بيكو” سنة (1916) في هذه الفترة بدت النّوايا الاستعماريّة واضحة في بسط نفوذها الانتدابيّ على بلاد الشرق، بما فيها “الشّام” الّذي كان وفقًا للمعاهدة سيؤول إلى الانتداب الفرنسيّ. من هذا الواقع بدأ “سلطان باشا” نشاطه الكفاحيّ بإقامة علاقات مع الحركات العربيّة الثّوريّة، وصارت كما قلنا “القريّا” معقلًا لهؤلاء المناضلين الفارّين من الجيش العثمانيّ، فأقام اتّصالات مع الملك “فيصل الأوّل”، وقد انعكست طموحه النّضاليّ العروبيّ بأنّه كان أوّل من رفع علم الثّورة العربيّة على الأرض السّوريّة على داره في “القريّا” قبل دخول الملك “فيصل الأوّل” إليها. وهبّ في طليعة الثّوّار الّذين دخلوا “دمشق” سنة (1918) ورفع علم الثّورة العربيّة في “المرجة” فوق دار الحكومة. واشتهرت الأنشودة الوطنيّة:
“وسّعوا المرجة والمرجة لينا – وسّعوا المرجة تتدخل خيلينا”.
لم يكتفِ الفرنسيّون وقوى الاستعمار بتجزيء الأقطار العربيّة إلى مصر وشام وعراق وليبيا وسودان، بل سعوْا دائمًا وفق سياستهم القذرة “فرّق تسد” إلى تجزيء المجزّأ، كرغبتهم في إقامة دولة درزيّة في “جبل العرب”، يخضعون من خلالها ثورة “سلطان باشا” الّذي رفضها بالكامل لأنّه كان يؤمن بوحدة الوطن السّوريّ وكان ينتمي إلى التّيّار العربيّ الإسلاميّ الّذي ينادي برفض التّقسيم والتّجزئة ويدعو لدولة موحّدة في سوريا.
سنة (1920) كانت تاريخًا فاصلًا في حياة “سلطان باشا” القائد القوميّ المميّز وفي مسيرة الثّورة العربيّة، فيها بدأنا نشهد بداية النّضال الحقيقيّ والفعليّ ضدّ الفرنسيّين، لقد جمع “سلطان باشا” فرسانه وقوّاته متّجهين نحو “البراق” في جنوب “دمشق” لمناصرة القائد “يوسف العظمة”، (1884 – 1920) في معركة “ميسلون” الخاسرة والّتي انكسر فيها الجيش العربيّ واستشهد فيها “يوسف العظمة” نفسه، وكان وزيرًا للدّفاع. لم تثنِ هذه الخسارة من عزم “سلطان باشا” وثورته ومن تصميمه وقوّة إرادته على الكفاح ضدّ الفرنسيّين، فقال بعد الخسارة في “ميسلون”: “خسارة معركة لا تعني الاستسلام للمحتلّين”.
كان له علاقات كثيرة مع “الشّريف حسين” ومع الملك “فيصل الأوّل” فقد أرسل جنوده للاتّصال به ودعوته إلى “السّويداء” كخطوة رمزيّة لإقامة الدّولة العربيّة واستمرار المقاومة ورفض كافّة مشاريع الانتداب لتقسيم بلاد الشّام إلى دويلات طائفيّة متناحرة لتسهل السّيطرة الاستعماريّة على جميعها. لقد فوّت “سلطان باشا” على الفرنسيّين هذه الفرصة، الّتي يشير بعض المحلّلين الضّالعين في تقدير المواقف والأحداث السّياسيّة إلى أنّ “سلطان باشا” لو قبلها لنصّبته القوى الاستعماريّة الزّعيم العربيّ الأوّل ومنحوه جوائز عالميّة من قبيل جائزة “نوبل”، وغيرها وجعلوا الإعلام الغربيّ تحت قدميه، يصوّر جهوده الانفصاليّة على أنّها الحكمة المصفّاة، ويصوّر تعاونه معهم في تقوية نزعات الانفصال الّتي يُريدونها أن تنتشر على أنّها الاستقلال والكفاح الحقيقيّ من أجل الحفاظ على الشّخصيّة القوميّة الدّرزيّة. ولكن هيهات لقامة عربيّة وطنيّة معروفيّة سامقة كقامة “السّلطان” العظيم أن تقبل بهذا الذّلّ، هيهات لمن رضع حليب الكرامة الوطنيّة وتربّى على روح الكفاح العروبيّ القوميّ ومارس الفروسيّة ونشأ زاهدًا بأباطيل الدّنيا ومفاسد السّلطة أن يقبل بهذه المهانة. وهو الّذي قال: “يا ويح الظّلم لقد وصلنا من الظّلم إلى أن نُهان في عُقرِ دارنا. إنّ حربنا اليوم هي حربٌ مقدّسة، فلنغسل إهانة الأمّة بدم النّجدة والبطولة”.
الاستعمار الفرنسيّ والمقاومة السّوريّة:
ثمّة من يعتقد أنّ هذه الثّورة الأطرشيّة الجبليّة السّوريّة العربيّة الّتي قادها “سلطان باشا” قد انحصرت بين السّنوات (1925 -1927) لكنّ الصّحيح أنّ هذه الثّورة الّتي تعثّرت في جولات وانتصرت في جولات، كانت قد بدأت منذ أن ثار مناضلو “الجبل” ضدّ العثمانيّين سنة (1910) وقمع الأتراك تلك الثّورة وانتهت بإعدام زعيمهم “ذوقان الأطرش” والد “سلطان” سنة (1911) ومعه خمسة من قادة الثّوّار: هزّاع عزّ الدّين”، “يحيى عامر”، “مزيد عامر”، محمّد معّوش” وَ “محمّد القلمانيّ”. يعني أنّ الثّورة كانت قد بدأت قبل عقد ونصف من الزّمن قبل الثّورة الكبرى واستمرّت بعدها بحوالي عقديْن، حتّى جلاء الاحتلال الفرنسيّ عن سوريا بالكامل وإعلان الاستقلال الوطنيّ سنة (1946).
ولكلّ ثورة في التّاريخ إرهاصات ومقدّمات، لم تنفكّ فرنسا عن التّفكير بوجوب تقسيم سوريا إلى دويلات كي يتسنّى لها إطالة حكمها وانتدابها، فدولة في “حلب” ودولة في “الإسكندرونة” وأخرى في “دير الزّور”، وفي “جبل العلويّين” دولة ودولة درزيّة في “جبل العرب” ودولة “دمشق”. تصوّروا نحن الّذين نكتوي من الهويّة السّوريّة والمصريّة والعراقيّة على عدد الأقطار العربيّة، علينا أن نصطلي ونحترق بهويّات أكثر ضيقًا ونارًا مثل الهويّة الدّرزيّة والعلويّة والحلبيّة والدّمشقيّة، هذه هي الهويّات القاتلة والمدمّرة الّتي تريدها فرنسا كي تُحكم هيمنتها الاستعماريّة على بلادنا. لقد كانت هذه السّياسة أحد أهمّ إرهاصات الثّورة الكبرى، لأنّ الجنرال “غورو” نجح في إيفاد الكولونيل “كاترو” بهدف فصل الدّروز عن الحركة الوطنيّة ونجح مثلًا في تعيين “سليم الأطرش” سنة (1921) أوّل حاكم درزيّ في “الجبل” بموجب اتّفاق مع العشائر الدّرزيّة، وفيها اعتبر الجبل وحدة إداريّة منفصلة ومستقلّة عن دولة “دمشق”. لم يُرضِ هذا الاتّفاق الوطنيّين الدّروز خاصّة بعد نقض الفرنسيّين للاتّفاق إثر اغتيال “سليم الأطرش” مسمومًا في دمشق سنة (1924) فعيّن الفرنسيّون مكانه الكابتن “كاربييه”، الّذي امتازت سياسته بكلّ أنواع الوحشيّة والأساليب الاضطهاديّة، فتنكيل بالأهالي وأعمال سخرة وسجون واتّباع “فرّق تسد” بين الفلّاحين والإقطاعيّين في “الجبل” لخلق حالة من التّشرذم والفوضى. لقد قوبلت هذه الأعمال العدائيّة بمظاهرة عارمة في “السّويداء” قمعتها القوّات الفرنسيّة بالضّرب والإهانة والاعتقالات وجباية الغرامات الماليّة، فكانت بمثابة السّبب المباشر الّذي سرّع بقيام الثّورة سنة (1925) ضاق الدّروز من ممارسات “كاربييه” وهو ما دفعهم إلى إرسال وفد إلى بيروت في 6 حزيران من سنة (1925) لتقديم وثيقة تطالب المفوّض السّاميّ “موريس بول ساراي” بتعيين حاكم درزيّ على “الجبل” بدلًا من “كاربييه”، بسبب ممارساته الوحشيّة. ولكنّ المفوّض العامّ كان أشدّ قسوة وغلظة ووحشيّة، فقد قام بطرد الوفد مهدّدًا بنفي المشاركين فيه والقيادات الدّرزيّة إلى “تدمر” في البادية السّوريّة.
وهناك بعض الأسباب والأوضاع الّتي سبقت قيام الثّورة بعدّة سنوات، ففي تمّوز سنة (1922) اعتقل المجاهد الكبير “أدهم خنجر” (1890 – 1923) الّذي كان قادمًا إلى “سلطان باشا” بتهمة الاعتداء على الجنرال “غورو”، فطلب “سلطان باشا” بإطلاق سراحه وتسليمه له، لكنّهم اقتادوه إلى لبنان في أيّار سنة (1923) فهاجم “سلطان باشا” بمجموعة من الثّوّار القافلة الفرنسيّة، لكنّ القافلة سبقت إلى “بيروت” وهناك تمّ إعدامه، وانتقامًا أيضًا من العمل الكفاحيّ للقائد “سلطان باشا” قام الفرنسيّون الحاقدون بهدم بيته في “القريّا”، ردًّا على هجومه على قوّاتهم. فشكّل “سلطان باشا” مجموعات عسكريّة من الثّوّار الدّروز وبدأت تعمل بطريقة حرب العصابات وتهاجم القوّات الفرنسيّة وتكبّدها الكثير من الخسائر البشريّة والمادّيّة وتغتنم منها الأسلحة. ولكنّ القوّات الفرنسيّة تمكّنت وبقوّات كبيرة من إخماد هذه المعارك.
جاءت هذه الثّورة امتدادًا للثّورات السّورية الّتي بدأت منذ أن وطئت قوّات الاستعمار الفرنسيّ السّاحل السّوريّ في أوائل عام (1920)، واستمرّت حتّى أواخر حزيران سنة (1927) وكان من أبرز نتائجها انتصار سلطات الانتداب الفرنسيّ عسكريًّا، إلّا أنّ المقاومة السّوريّة استطاعت زعزعة سياسة الفرنسيّين في سوريا وإقناعهم بأنّ الشّعب السّوريّ لن يرضخ ولا بدّ من تأسيس حكومة سوريّة وطنيّة، وإجبارهم على إعادة توحيد سوريا وإجراء انتخابات برلمانيّة، كما مهّدت هذه الثّورة لخروج الفرنسيّين نهائيًّا من سوريا في سنة (1946)
سلطان باشا قائد الثّورة السّوريّة:
بعد كلّ هذه الإرهاصات والأعمال العدائيّة والوحشيّة الفرنسيّة اطمأنّ “سلطان باشا” إلى ضرورة الثّورة الشّاملة ضدّ الفرنسيّين في كلّ الأرجاء والمناطق السّوريّة، وفي الوقت نفسه وعدم انحصارها في أزمان متفرّقة أو اقتصارها على منطقة واحدة دون الأخرى، وكانت أولى الخطوات في طريق الثّورة الدّعوة لاجتماع في “السّويداء”، لحثّ أهل “جبل العرب” على الاستعداد للكفاح الوطنيّ والقتال والموت من أجل كرامة الوطن واستقلاله، ومن ثمّ بدأ سلسلة من الاتّصالات مع الشّخصيّات الوطنيّة الّتي كانت على أتمّ الاستعداد للنّضال الوطنيّ الشّامل، في “دمشق” مع الدّكتور “عبد الرّحمن الشهبندر” رئيس حزب “الشّعب” (1879 – 1940) الّذي كان يؤمن بالنّضال السّياسيّ القانونيّ، ومع ذلك اتّفق الطّرفان على الهدف الأسمى وهو طرد الفرنسيّين عن الأرض السّوريّة وعدم الموافقة على التقسيم والتجزيء وتحقيق الوحدة والاستقلال. ومن هنا بدأ شحذ الهمم وتثوير الزّعماء وتعزيز الشّعور القوميّ والكفاح لنيل الاستقلال، في كلّ المدن والمناطق وذلك من أجل تشتيت القوّات الفرنسيّة على كافّة المناطق الثّائرة وتخفيف الضّغط عن “الجبل” وَ “دمشق”، في الشّمال تمّ الاتّصال مع “إبراهيم هنانو” (1869 – 1935) وقد بدأ كفاحه ضدّ الفرنسيّين منذ سنة (1920) أي منذ أن وطئت القدم الاستعماريّة الفرنسيّة على أرض الشّام، وظلّ يقاوم حتّى معركة “تلّ عمّار” سنة (1926) وليشمل العمل الوطنيّ الجميع ولا يبدو بصورة مذهبيّة أو طائفيّة فيسهل التّقسيم، اتّصل “سلطان باشا” مع “محمّد بك العيّاش” (1894 – 1944) في المنطقة الشّرقيّة من “دمشق” والّذي قام بتشكيل فرق ومجموعات قتاليّة تعمل بأسلوب العمل الفدائيّ وتضرب الفرنسيّين في منطقة “دير الزّور”، وأشهر هذه العمليّات سنة (1925) عمليّة “البو جمعة” حيث استطاع الثّوّار من مهاجمة دوريّة للضّبّاط الفرنسيّين وقتل أربعة من كبارهم. لقد كان الرّدّ الفرنسيّ وحشيًّا، قصف بالطّائرات وأعمال هدم للبيوت على رؤوس المدنيّين وإحراق المحاصيل الزّراعيّة، بهدف تسليم الثّوّار. وقد استطاعوا من إلقاء القبض عليهم وحوكموا بالإعدام والنّفي إلى مناطق قريبة، أمّا “محمّد العيّاش” فقد نفي إلى جزيرة “أرواد” لمدّة 20 عامًا، أمّا أخوه “محمود العيّاش” الّذي قاد عمليّة “البو جمعة” فقد أعدم سنة (1926) وفي السّنة نفسها اغتيل عميد الأسرة “عيّاش الحاجّ”. أمّا القائد “فوزي القاوقجي” في مدينة “حماة” وهو قائد جيش “الإنقاذ” فيما بعد، في فلسطين إبّان النّكبة الفلسطينيّة الكبرى سنة (1948) رغم أنّه كان مؤيدًا للفرنسيّين في البداية، إلّا أنّه استاء منهم بعد أن زجّوا بوجهاء “حماة” وعلمائها في السّجون وأهانوهم وقام الفرنسيّون أيضًا بممارسات أخرى مثل رفع الضّرائب وإذكاء النّعرات الطّائفيّة والتّنكيل بالأهالي، ممّا دعا بالقائد “فوزي القاوقجي” إلى إعلان الثّورة في “حماة” فقصفت فرنسا قوّاته، فنقل الثّوّار إلى البادية كي يستثيروا همم القبائل ضدّ الفرنسيّين الغازين، وقاتل “القاوقجي” مع تلك الجماعات بشجاعة نادرة وكبّدوا الفرنسيّين خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات، وأصبح قائدّا للثّورة في “الغوطة”.
اكتملت دائرة الثّورة الوطنيّة وشملت وفقًا لرّؤية “سلطان باشا” كلّ أرجاء بلاد الشّام وأصبح يحظى بلقب “القائد العامّ للثّورة السّورية” وكانت الثّورة بهذا الزّخم والانتشار استجابة لنزعته القوميّة الّتي تجاوزت كلّ أشكال الانتماءات المذهبيّة أو مضامينها، والّتي عبّر عنها في بيانه السّياسيّ والعسكريّ الّذي أعلن فيه عن الثّورة في 21 تمّوز سنة (1925) وفيه يدعو الشّعب السّوريّ إلى الثّورة على الانتداب الفرنسيّ: “أيّها العرب السّوريّون! تذكّروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القوميّ، تذكّروا أنّ يد الله مع الجماعة، وأنّ إرادة الشّعب من إرادة الله، وأنّ الأمم المتمدّنة النّاهضة لن تنالها يد البغي، لقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضّارّة بين وطننا الواحد، وقسّمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرّيّة الدّين والفكر والضّمير وحرّيّة التّجارة والسّفر حتّى في بلادنا وأقاليمنا، إلى السّلاح أيّها الوطنيّون! إلى السّلاح تحقيقًا لأماني البلاد، إلى السّلاح تأييدًا لسيادة الشّعب وحرّيّة الأمّة، إلى السّلاح بعدما سلب الأجنبيّ حقوقكم واستعبد بلادكم ونقض عهودكم، ولم يحافظ على شرف الوعود الرّسميّة، وتناسى الأماني القوميّة”. ولقد كانت أشهر مقولات البيان الّتي تنفي عن الثّورة الطّائفيّة والمذهبيّة مقولة “الدين لله والوطن للجميع”، وهي المقولة الّتي أشهرها الشّيخ “عزّ الدّين القسّام” في الثّورة الفلسطينيّة. ثبت تاريخيًّا أنّ الانتصار على الظّلم والاستعمار والاستعباد لنيل الحرّيّة والاستقلال والكرامة الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة لا يتحقّق إلّا بالكفاح المسلّح.
البدايات الكفاحيّة ضدّ الفرنسيّين:
هذا هو “سلطان باشا” الّذي لم يغرِه عزّ زائل ولا منصب يدول ولا مجد فانٍ، بل كان الوطن السّوريّ والانتماء العروبيّ هما العزّ الكبير والمجد العظيم والمنصب الّذي لا يدول، بلا إغفال بل وبتفاخر بانتمائه لطائفته الدّرزيّة الموحّدة والمعروفيّة، لقد انصهرت في وجدانه وضميره كلّ هذه الهويّات وكلّ هذه الانتماءات فلم تكن قاتلة أو ميّتة بل كانت حيّة منتصرة. ففي “هذا اليوم انتباه الأمم والشّعوب، فلننهض من رقادنا ولنبدّد ظلام التّحكّم الأجنبيّ عن سماء بلادنا ولتكن غايتنا الحرّيّة والاستقلال”. هذا ما قاله وآمن به حتّى النّخاع، التّحرّر والاستقلال والكرامة بعد كنس الأجنبيّ المحتلّ والمتحكّم. “لقد أثبتت التّجارب أنّ الحقّ يؤخذ ولا يُعطى، فلنأخذ حقّنا بحدّ السّيوف ولنطلب الموت لتوهب لنا الحياة”. السّيف المصقول الّذي يهابه العدوّ هو الوسيلة لا الاستجداء الذّليل، “ومن تقاعس عن دعوتنا إلى حمل السّلاح فهو الخائن لأمّته وبلاده وسيلقى جزاء الخائنين”. هذا هو “سلطان العرب الكبير”. فيا لسلاطين هذا الزّمان العربيّ الحقير وملوكه ورؤسائه! كم أهانوا الزّمان والمكان وحقّروهما لأنّهم عاشوا فيهما وحقّروا الهواء لأنّهم تنشّقوا نسيمه، والماء لأنّهم شربوا من نميره، والأوطان لأنّهم حكموها بالنّار والحديد والذّلّ والهزائم والأمّة لأنّهم شتّتوا كلمة وحدتها العربيّة والشّعوب لأنّهم ظلموها واستبدّوا بحكمها هم وأولادهم والطّوائف لأنّهم أذكوا النّعرات فيها وبثّوا التّشرذم لتبقى في تناحر! يُغزَون ولا يغزون، يستجدون ولا يقاتلون، يمتهنون فيصغرون بقبول العار والذلّ ولا يتصدّون ولا يقاومون فيكبرون. “سلطان باشا” ينادي بوحدة الأمّة وكفاحها بالسّلاح، وآه كم فقدنا من كرامة واستقلال وأوطان عندما ألقينا السّلاح! كنّا نعتقد أنّ إسرائيل أفريقيّة ستدقّ في خاصرة السّودان العربيّ، عاصمتها “جوبا” وإذا في الخاصرة سرطان داخليّ يفتك بِ “الخرطوم” فيغدو الفيل بالدّليل والبرهان أرنبًا مطبّعًا بلا أنياب ولا خرطوم.
خدعة دنيئة يقوم بها المفوّض الفرنسيّ “بول ساراي”، يرسل إلى مندوبه في “دمشق” لاستدعاء زعماء وطنيّين ومناضلين من “الجبل” بحجّة التّباحث في مطالبهم السياسيّة والاجتماعيّة، يلقي القبض عليهم ويقوم بنفي: “عقلة القطاميّ”، “حمد الأطرش”، “عبد الغفّار الأطرش” وَ “نسيب الأطرش” إلى “تدمر” في البادية الشّرقيّة، وَ “برجس الحمّود”، “حسني عبّاس”، “علي الأطرش”، “يوسف الأطرش” وَ “علي عبيد” إلى “الحسكة” في الشّمال البعيد. ولعلّي أحسن التّوقّف عند شخصيّة المناضل “عقلة القطّامي” (1889 – 1953) المسيحيّ ابن “جبل العرب” وهو الصّديق الحميم للقائد “سلطان باشا” ومن أوائل من انضمّ للثّورة السّوريّة الكبرى بعد ندائه، كان مثالًا في الوطنيّة والإخلاص، وإلى جانب مشاركته في الوفد السّابق، كان إلى جانب القائد في أيّام المعاناة والضّنك، في “النّبك” في السّعوديّة. نفي واعتقل مرارًا أثناء نشاطه المقاوم وفي المرّة الأخيرة سأله باستغراب الضّابط الفرنسيّ: “أنا أفهم أن يقاتلنا المسلمون، أمّا أنت ونحن مسيحيّون مثلك”! فقال بتحدّ عروبيّ: “أنا أحاربكم كعربيّ من بني “غسّان”، إنّ الدّماء الّتي تجري في عروقنا ليست فرنسيّة وليست بريطانيّة بل إنّها عربيّة المنبع”. كم يجب أن نعتزّ بمثل هؤلاء الرّجال العروبيّين أوّلًا وأخيرًا!
كان لهذه الواقعة أثر كبير في تأجيج النّضال والثّورة، فبدأ “سلطان باشا” أولى هجماته العسكريّة فأحرق المفوّضيّة الفرنسيّة في “الجبل” وقام باحتلال “صلخد” ثاني أكبر مدينة بعد “السّويداء” بمجموعة من 200 مجاهد مقابل 260 جنديّ وضابط فرنسيّ بقيادة “نورمان” ومجهّزين بأقوى السّلاح والعتاد، استطاع القائد “الباشا” من الفتك بهم وإبادتهم في معركة “الكفر”، الّتي قتل فيها 40 مجاهدًا، كان “مصطفى الأطرش” شقيقه من بينهم. جاء الرّدّ الفرنسيّ على هذه النّتائج المهينة في “الكفر” قاسيًا ووحشيًّا، فأرسل المفوّض العامّ هذه المرّة 5000 جنديّ مدعومين بالطّائرات، في معركة “أزرع” اشتبكوا مع 3000 من الثّوّار الّذين قُصفوا من الجوّ فخسروا الجولة الأولى، ثمّ أعادوا تنظيم صفوفهم فهاجموا مؤخّرة الفرقة الفرنسيّة وقتلوا عددًا من الجنود الفرنسيّين واستولوا على السّلاح والذّخيرة.
في جانب آخر من ميادين الكفاح الثّوريّ 117 مجاهدًا من “السّويداء” ينضمّ إليهم 400 مجاهد من “المجدل” وَ “نجران” وَ “سليم” هاجموا القوّات الفرنسيّة في معركة “المزرعة” فأبادوا معظم جنودها وفرّ نحو 1200 منهم نحو السّكة الحديديّة إلى “دمشق”. الثّوّار الكبار يموتون أيضًا، ففي هذه المعركة سقط شهيدًا المناضل “حمد البربور” (1888 – 1922) من قرية “أمّ الرّمّان” وكان اليد اليمنى للقائد الكبير. لو كان هذا “الباشا” أنانيًّا أو طامعًا بمآرب مادّيّة وعائليّة وطائفيّة لحافظ على أبناء أسرته وطائفته، ولكنّه أعظم من ذلك فقد مات أبوه في الثّورة على العثمانيّين وابنه قتله الفرنسيّون وأخوه في قلب معركة “الكفر” ويده اليمنى “البربور” في “المزرعة”، ونجوم الشّهداء لا تُعدّ.
محاولة فرنسيّة جديدة وخبيثة للمفاوضات لم يقتنع بها الثّوّار فرفضوها، وبالاتّفاق مع مناضلي حزب “الشعب” تقرّر مهاجمة “دمشق” بخمسمئة مقاتل، لكنّ الفرنسيّين أعدّوا لها فحشدوا القوّات الكثيفة على طول الطّرق المؤدّية إلى “دمشق”، فتوقّف الهجوم ولكنّ الكفاح الثّوريّ استمرّ في معركة “المسيفرة” حيث هاجم الثّوّار القوّات الفرنسيّة فقتلوا منها 900 جنديّ، ولولا تدخّل الطّيران الحربيّ لقضى الثّوّار على القوّات كلّها، وكردّ هاجم الفرنسيّون “السّويداء” واحتلّوها لفترة قصيرة، ولكنّ الثّوّار والمجاهدين في “الجبل” أجبروهم على الرحيل منها. خاصّة وأنّ جبهات الثّورة والكفاح بدأت تمتدّ على كافّة المناطق السّوريّة، فالمقاتلون من قبائل البادية الشّرقيّة تحت قيادة “القاوقجي” تقاتل في الشّمال والشّرق، والمناضل “حسن الخرّاط” (1861 – 1925) يقود الكفاح والقتال في “غوطة دمشق” في معركة “الزّور” الأولى، وفي معركة “الشّاغور” الّتي تضافرت فيها قوى ثوريّة كبيرة أباد الثّوّار القوّات الفرنسيّة. وفي محاولة خبيثة أخرى حاولوا تأجيج المسيحيّين بعد الاعتداء على بيوتهم من المرتزقة، بتصوير الهجوم طائفيًّا، لكنّ القادة في المعركة أمّنوا الأهالي وطمأنوا جميع الطّوائف والتزموا بحمايتهم، ففشل هذا الإسفين الاستعماريّ الخبيث.
حاول الفرنسيّون تركيع الثّوّار بأساليب وحشيّة، فأمر المفوّض الفرنسيّ “بول ساراي” بقصف “دمشق” بكثافة مدفعيّة فظيعة فهدمت 600 بيت، ودخل الجنود إلى بعض الأحياء فنهبوا المخازن والمحلّات التّجاريّة، لكنّ الثّوّار في معركة “الزّور” الثانية وفي كثير من المعارك تمكّنوا من منع المفوّض الفرنسيّ من البقاء في “دمشق” وتمّ تهريبه من قصر “العظم” الّذي احترق جزء منه أثناء المعارك في “دمشق” وحولها. في أواخر سنة (1925) وبدون مقاومة فرنسيّة تُذكر استطاع الثّوّار في “الجبل” احتلال إقليم “البلّان” وبلدة “حاصبيّا”، وفي المعركة على “راشيّا” بين الثّوّار الدّروز والفرنسيّين تمكّن الثّوّار من تحريرها.
من الأمور الملفتة للنّظر والاهتمام والافتخار أنّه لم تكن أثناء الثّورة وعلى كافّة ميادين قتالها نزعات طائفيّة عند أحد، فقد قاتل كلّ الثّوّار من جميع الطّوائف في كلّ الجبهات، قاتلوا معًا وانتصروا معًا واستشهدوا معًا. فلماذا تؤكلنا الطّائفيّة الآن في العراق وسوريا ولبنان واليمن ومصر والأعداء كثيرون، يؤجّجون الفتن ويتربّصون للانقضاض والافتراس، يلبسون لباس الإنسان لكنّهم يخفون خلفها وحوشًا لا إنسانيّة ذات أنياب ومخالب.
سلاحنا عِرضنا:
في أواخر صيف سنة (1922) لجأ “سلطان باشا” إلى الأردن، وتحت ضغط بريطانيّ سلّم “سلطان باشا” نفسه للفرنسيّين في نيسان سنة (1923) بعد الاتّفاق على هدنة كان القائد يحتاجها لرصّ الصّفوف وشحذ الهمم ومواصلة الكفاح. لم أجد في الشّعر العربيّ أصدق تصويرًا لتصميم القائد الفذّ وقوّة عزيمته رغم الانتكاسة، في هذه الفترة من هذين البيتيْن لأبي طيّب شعرنا:
“على قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ – وتأتي على قدرِ الكرامِ المكارمُ
وتعظمُ في عينِ الصّغيرِ صغارُها – وتصغرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ”
هذا العظيم الّذي أعدم العثمانيّون الطّغاة أباه وقتل الفرنسيّون المتوحّشون ابنه “طلال” واستشهد أخوه “مصطفى” في المعركة، لم ينظر إلى الخسارة والفقدان بصورة شخصيّة ولم تذرف دمعته رغم ما تحلّى به من حسّ مرهفّ وعاطفة إنسانيّة رقيقة، فالقضيّة عنده ليست شخصيّة ولا أطرشيّة ولا درزيّة، بل هي قضيّة وطن سوريّ وأمّة عربيّة. هذه الرّؤية القوميّة الشّاملة هي الّتي جعلت فرنسا ترهب جانبه وتعدّ له ولثورته العدّة بقوّة وتحسّب وجبروت.
هل انتهت الثّورة، لا! بل استمرّت رغم ما انتاب الثّوّار من قلّة في المؤن والذّخيرة. تقطع فرنسا عن الثّورة التّواصل بتشديد قبضتها ونشر جنودها بكثافة، ممّا أدّى إلى نزوح عدد كبير من الثّوّار إلى مدينة “الأزرق” في إمارة “شرق الأردن”، وكانت تحت حكم الإنجليز، الّذين لم يمهلوا الثّوّار من المكوث طويلًا هناك، فانتقلوا بعد موافقة الملك “عبد العزيز آل سعود” (1876 – 1953) إلى منطقة “النّبك” ومنطقة “وادي سرحان” في السّعوديّة.
كان “سلطان باشا” قد طلب من المعتمد الإنجليزيّ في الأردن إمهالهم بعض الوقت لنقل الأطفال والنّساء والمواشي، فوافق المعتمد ولكنّه طالب “الباشا” بضرورة إنهاء الثّورة والتّسليم بالواقع، فهل يقبل الأسد بفتات الصّحون وفضلات الكلاب! وعرض المعتمد الإنجليزيّ على “سلطان باشا” قصرًا منيفًا للسّكن في “القدس” ومعاشًا كبيرًا يضمن له العيش بهناء وسعادة. أليس هذا هو الذّلّ والهوان لهذه القامة الّتي ترفض هذا “المجد” السّامي، كان الرّدّ حاسمًا: “إنّ سعادتنا في إنهاء الاحتلال عن بلادنا وفي حرّيّة شعبنا، ولو كانت القصور هدفنا لقبلنا بالبقاء في بيوتنا الرّحبة واستجبنا للفرنسيّين بالاستسلام، إنّ طلبكم فيه مساس بكرامتنا”. في ذات الفترة الزمنيّة يعرض القائد الإيطاليّ “غراتسياني” عرضًا مماثلًا ومغريًا سنة (1931) على الثّائر العظيم “عمر المختار”: سكنًا مريحًا ومعاشًا من 50 ألف ليرة” وكان الجواب حاسمًا: “لا! لا! وذهب بشجاعة وشموخ إلى حبل المشنقة. يبقى الوحش هو الوحش وإيطاليا هي فرنسا ومحاولات الإذلال هي ذاتها، وبالمقابل تبقى الكرامة في سوريا هي الكرامة في ليبيا والعظماء في كلّ مكان وزمان هم العظماء.
كان مع “الباشا” 1360 من الثّوّار وعائلاتهم عندما تمّ الاتّفاق على نقلهم إلى السعوديّة بعد مفاوضات بين “شكري القوتلي” (1891 – 1967) والملك السّعوديّ، وقبلهم كلاجئين سياسيّين، كانت رحلة شاقّة ومريرة وترحال ممضّ بين “العمري” وَ “غدير الحصيدات” وَ “النّبك” وَ “وادي السّرحان”. 232 مجاهدًا من الجبل، 70 من لبنان مع أسرهم وصلوا إلى “النّبك” في تمّوز سنة (1927) عاشوا ظروف معيشيّة من الضّنك والشظف، ومناخ قاسٍ وطبيعة صعبة ورياح هوجاء وغبار ترابيّ يتطاير وريح سموم وقلّة من الموادّ والمؤن وأكل أوراق الشّجر وقليل من الغنم والإبل لضمان حليب قليل لإطعام الأطفال، ويبكي القائد الّذي لم يذرف دمعة عند أشدّ المصائب: إعدام أبيه وقتل ابنه وأخيه، يصف الكاتب “هادي زاهر” في دراسته “عبد النّاصر وجمهوريّة الطّرشان” بحرارة تلك الظّروف فيقول: “كان “الباشا” مرهف الحسّ ويتأثّر أمام المواقف الإنسانيّة ….. لم تسقط دمعته إلى أن كان يوم سكب فيه دمعة حارّة بعدما شاهد رجاله ورفاقه في المنفى يتقاسمون رغيفًا واحدًا من الخبز”. وفوق هذا الهمّ الطّويل وتحت شبح هذه المعاناة يجيء مندوب الملك “عبد العزيز” يحمل أمرًا منه بضرورة جمع سلاح الثّوّار خلال ثلاثة أيّام! فكان جواب “القائد” قويًّا، قاطعًا رغم ثقل الضّربات وطول المعاناة وأمواج الهموم: ” سلاحنا عِرضنا، لا نسلّم سلاحنا ما دام فينا عرق ينبض، لقد كنّا نتوقّع من جلالة الملك “عبد العزيز” ومن أعضاء حكومته ومستشاريه أن يمدّونا بالمال والعتاد لنعود إلى بلادنا ونستأنف الجهاد ضدّ الفرنسيّين، لا أن يأمروا بتجريدنا من السّلاح ليميتوا في نفوسنا النّخوة ويضعفوا روح الكفاح ويعرّضونا بالتّالي لخطر الغزوات البدويّة المألوفة في هذه الأرض القفراء”. وأمام هذا التّصميم يتراجع الملك عن الأمر، ويصدر الأمر الفرنسيّ بالعفو العامّ وعودة “سلطان باشا” ورجاله إلى “الجبل”.
الثّورة لا تتوقّف إلّا بالانتصار:
ظلّت المقاومة تشتدّ حتّى سنة (1927) وحكم على “سلطان باشا” بالإعدام، فكانت تلك الرّحلة الاضطراريّة والمشؤومة إلى الأردن والسّعوديّة، استعادت فرنسا السّيطرة على معظم المدن والمناطق، وكانت العودة سنة (1937) بعد توقيع المعاهدة الفرنسيّة السّوريّة، وكان من أبرز انعكاساتها إعادة توحيد سوريا بعد أن كان الفرنسيّون يبغون تقسيمها إلى أربع دويلات، منها دولة الدّروز في “الجبل” الّتي كان قد رفضها “سلطان باشا” مشدّدًا ومصرًّا على الوحدة، ومن ثمّ انتصار المعارضة الوطنيّة بالانتخابات وهي تضمّ شخصيّات مقاومة مثل “إبراهيم هنانو” وَ “هاشم الأتاسي”، ممّا أدّى بفرنسا إلى تشديد قبضتها العسكريّة واستدعاء أشهر القادة العسكريّين الفرنسيّين “غاملان” بعد تزايد قوّة الثّوّار. لم يتوقّف كفاح “سلطان باشا” فقد شارك في انتفاضة سنة (1945) الّتي حرّر فيها المجاهدون الدّروز “جبل العرب” من القوّات الفرنسيّة، فكان “الجبل” وبتوجيه منه أوّل المناطق السّوريّة الّتي تحرّرت، وكان انتقام الفرنسيّين بقصف “السّويداء” وَ “دمشق”. لقد كانت هذه الاحداث بداية مخاض الحرّيّة الّتي تؤخذ ولا تُعطى. كانت تلك بداية الجلاء وانتصار الثّورة وإنجاز الاستقلال الوطنيّ سنة (1946) “لا بدّ للّيل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر”.
وفي لبنان وفلسطين وعلى امتداد العالم العربيّ:
بعد دعوة “القاوقجي” للدّفاع عن فلسطين هبّ “سلطان باشا” يحرّك نخوة شباب “الجبل” ويحمّسهم للمشاركة في الواجب القوميّ، واستطاع حشد عدد كبير منهم ليكونوا مقاتلين في جيش “الإنقاذ”، ولم تتوقّف دعوته عند هذا الحدّ، وهو صاحب الرّؤية القوميّة الشّاملة، بل دعا سنة (1948) لتكوين جيش عربيّ موحّد لتحرير فلسطين. واعتمادًا أيضًا على رؤيته القوميّة الثّاقبة دعم الانتفاضة الوطنيّة في لبنان، الّتي قادها العروبيّ النّاصريّ “كمال جنبلاط” سنة (1958) ضدّ العميل “كميل شمعون” الموالي لفرنسا والغرب. في سنة (1966) وبعد الانقلاب الّذي قاده “حافظ الأسد” (1930 – 2000) وَ “صلاح جديد” (1926 – 1993) تمّ اعتقال عدد من الضّبّاط والسّياسيّين الدّروز وزجّ بهم في السّجون، أرسل “سلطان باشا” رسالة تطالب قادة الانقلاب بالإفراج عن السّجناء، وفيها لهجة تهديد مبطّنة باللّجوء إلى الثّورة إذا لم يستجب لدعوته، وفيها “أولادنا في السّجون مضربون نحمّلكم مسؤوليّة النّتائج لقد اعتاد “الجبل” وما يزال أن يقوم بالثّورات لطرد الخائن والمستعمر، ولكنّ شهامته تأبى عليه أن يوجّه سلاحه ضدّ أخيه ويغدر ببني قومه”.
لقد كانت الوحدة العربيّة وهي حلم العرب من الخليج إلى المحيط بين مصر وسوريا والّتي وقّعها الرّئيسان: “جمال عبد النّاصر” وَ “شكري القوتلي” سنة (1958) سببًا من أسباب سعادته وافتخاره ومباركته، ولكنّها ما فتئت أن عادت سببًا لغمّه وحزنه عندما تمّ الانفصال سنة (1961) والّتي في أثنائها تمّ تكريمه من قبل “جمال عبد النّاصر” رئيس الجمهوريّة العربيّة المتّحدة سنة (1960) عند زيارته في “السّويداء”، وقد قلّده في لقاء التّكريم أعلى وسام في الجمهوريّة العربيّة المتّحدة. وقد قام بتكريمه أيضًا الرّئيس السّوريّ “حافظ الأسد” سنة (1970) لدوره التّاريخيّ وقيادته المجيدة في نضالات الثّورة السّوريّة الكبرى.
جعله انفصال الوحدة الّذي أثقل أنفاسه وقلبه كما يبدو إلى ترك العمل السّياسيّ رافضًا أيّ منصب مهما علا، واقتصر نشاطه على الأعمال الاجتماعيّة والخيريّة الّتي تهدف لتنمية حياة النّاس في “الجبل”.
موته وخلوده:
مات “سلطان باشا الأطرش” يوم 26 آذار سنة (1982) بسبب نوبة قلبيّة شديدة. أنا أعتقد أنّ لحالته النّفسيّة بعد الانفصال سنة (1961) ولو بعد عقديْن من الزّمن أثرًا في هذه الأزمة القلبيّة. وقد حضر جنازته في (28/3/1982) لجلال قدره وسموّ مكانته الوطنيّة وعلوّ قامته الكفاحيّة حوالي مليون شخص. وقد ألقى رئيس الجمهوريّة العربيّة السّوريّة “حافظ الأسد” نظرة الوداع على جثمان “سلطان باشا الأطرش” في مضافته في “القريّا” مع رجال الدّولة السّوريّة يوم السّبت (27/3/1982) وقد أصدر الرّئيس رسالة حداد شخصيّة تنعي القائد العامّ للثّورة السّوريّة الكبرى، وأطلق اسمه على السّاحة الكبرى في “السّويداء”، وأمر بإنشاء صرح يخلّد شهداء الثّورة السّوريّة الكبرى ويضمّ رفات قائدها العامّ في بلدة “القريّا” مقابل بيته. وتمّ تدشينه بمناسبة عيد الجلاء في 17 نيسان سنة (2010) ومنحه الرّئيس اللّبنانيّ آنذاك وسام “الأرز” اللّبنانيّ. دشّن الرّئيس الفلسطينيّ الرّاحل “ياسر عرفات” نصبًا تذكاريًّا في مدينة “رام الله” تحيّة وفاء إلى شهداء الحامية الدّرزيّة الّتي أرسلها “سلطان باشا الأطرش” للدّفاع عن فلسطين والّذين سقطوا قرب نابلس. وقد قال “عرفات” في تأبينه: “أيّها الفارس القائد، نودّعك اليوم، ولكنّ هذه المبادئ التي خطّطتها، وهذا الطّريق الثّوريّ الّذي سرت فيه، في طليعة هذه الأمّة، هذا الطّريق، وهذه المبادئ، ستبقى من ورائك، وإنّني أقول ذلك هنا في أرض سورية الثّوريّة، سورية العروبة، أقول لك وهذه الجماهير تودّعك باسْم الأمّة من المحيط إلى الخليج، أقول لك إنّ فلسطين، وثوّار فلسطين وشعب فلسطين الّتي أحببت والّتي ضحّيت والّتي سرت وناضلت من أجلها، هذا الشّعب، أقول لك باسْمه، أمام هذا الجثمان: العهد هو العهد والقسم هو القسم والطّريق هو الطّريق، والثّورة هي الثّورة”.
قال للرّئيس “جمال عبد النّاصر” عند لقائه في بيته: “أهلًا بالثّائر الكبير”! فقال الرّئيس: “أهلًا بأبي الثّوّار”! كان “كمال جنبلاط” (1917 – 1977) حاضرًا فقال: “أنا ناصريّ وجئت أشرب من رأس النّبع”! فقال الرّئيس: “وأنا جنبلاطيّ”! وَ “جنبلاط” زعيم الدّروز منذ سنة (1942) الوطنيّ اللّبنانيّ والقوميّ العروبيّ، وهو أوّل من أسّس حزبًا اشتراكيًّا في لبنان. كما كان الزّعيم الوطنيّ اللّبناني “مجيد أرسلان” (1908 – 1983) حاضرًا في هذا اللّقاء التّاريخيّ، وهو من رجالات المقاومة اللّبنانيّة ضدّ الانتداب الفرنسيّ ومن أجل الاستقلال، اعتقل مرارًا لمواقفه الوطنيّة، وكان وزيرًا للدّفاع زمن النّكبة، بحكم منصبه زار “النّاصرة” أثناء حرب فلسطين سنة (1948) بعد عودة جيش “الإنقاذ” من قرية “المالكيّة” بعد أن استردّها من يد الصّهاينة. فما أجمل وما أرقى وما أعظم لقاء الثّوار العظماء على روح أطرشيّة جنبلاطيّة أرسلانيّة ناصريّة، وعلى روح تجمع أهل برّ الشّام: لبنانيّين وسوريّين مع أهل برّ مصر، وفي صميمها عروبة تنضح شرفًا وكبرياء، وثورة لا تقبل الظّلم مهما اشتدّ، ما أعظم لقاء الثّوّار على طريق المقاومة والثّورة المجيد.
لقد قال فيه الشّعراء الكثير الكثير من القصائد الوطنيّة الّتي تصوّر شخصيّته الوطنيّة ومسيرته الثّوريّة القوميّة العربيّة الخالدة، وقد كانت قصيدة أمير الشّعراء “أحمد شوقي” من أبرزها قصيدته القافيّة والّتي مطلعها:
“سلامٌ من صبا بردى أرقُّ – ودمعٌ لا يكفكَفُ يا دمشقُ”
وفيها يقول:
“وللحرّيةِ الحمراءِ بابٌ – بكلّ يدٍّ مضرّجةٍ يدقُّ
دمُ الثّوّارِ تعرفُهُ فرنسا وتشهدُ أنّه نورٌ وحقُّ”
وعن نخوة الدّروز وثورة “الجبل” يقول هذه الأبيات من القصيدة نفسها:
“وما كانَ الدّروز قبيلَ شَرٍّ – وَإنْ أُخذوا بما لمْ يستحقّوا
ولكنْ ذادةٌ وقراةُ ضيفٍ – كيَنبوعِ الصّفا خَشنوا وَرَقّوا
لهمْ جبلٌ أشمٌّ لهُ شَعافٌ – مَوارِدُ في السّحابِ الجُونِ بُلقُ
وفي قصيدة للأمير “عادل أرسلان” يصوّر فيها معاناة “الباشا” ومرافقيه في النّبك في السّعوديّة:
“يا ساهرًا في النّبك أينَ الألى – أنتَ من الشّوف إليهِمْ قريــحْ
في بـلقــعٍ قفرٍ كأنَّ السـّــمــاءَ – لمْ تروِهِ بالقطرِ منْ عهدِ نوحْ
إنــســـــانـــُهُ ضبٌّ وأشجـارُهُ – شيحٌ وأصواتُ التّغنّي فـحيـحْ
وعـصبةٌ غـرباءُ فـوقَ الثّـرى – لكنّها منْ مجدِها في صروحْ
أخرسَـــها الصّبـرُ منْ حـقِّهــا – منْ طولِ ما عذّبَها أنْ تصيحْ
كلُّ رغيفٍ أهلُهُ تســـــعةٌ كأنّما صلّى عليْهِ المسـيحْ”
الشّاعر “فيصل بليبل” في رثاء “سلطان باشا” قال:
“قفْ في القريّا خاشعًا وجلا – وقلِ السّماءُ سحابُها اشتعــلا
هولٌ تلاطمَ موجُهُ وطغــــى – كتلُ الجلاميدِ زاحمَتْ كتـــــلا
قالَتْ دمشقُ وخطبُها جللٌ – والمجدُ يصلي خطبَها الجلـلا
إنَّ الجلاءَ وأهلَهُ رحلـــــــوا – وأبو الجلاءِ اليومَ قدْ رحــــــلا”
ويقال إنّ أوّل قصيدة رثت “سلطان باشا” هي للشّاعرة “غازية حمزة” وقد عبّر مطلعها عن المعاناة:
“ما للجراحِ نكأْتَها سلطانُ – لمّي النّجيعَ عنِ الثّرى عرمانُ”
وخمس وعشرون قصيدة قيلت في رثائه، هي الّتي استطعت إحصاءها، ولكنّي على يقين أنّ هناك عشرات القصائد غيرها، كلّها تصوّر عظمة شخصيّته وثورته ومسيرته الكفاحيّة وروحه العربيّة الّتي صهر فيها كلّ الانتماءات الأخرى والّتي بها حقّق بطولاته وانتصاراته وأمجاده الوطنيّة والقوميّة. تلك القصائد يستطيع القارئ مراجعتها في المصادر والمواقع، وهي لشعراء من معظم الأقطار العربيّة: يوسف الشّويري، معذّى الفتّوش، رشيد سليم الخوري (الشّاعر القرويّ) زيد الأطرش، عزّ الدّين التّنوخي، سلامة عبيد، خالد النّقوري، نعمان حرب، عبد المجيد نجّار، أحمد علي القادري، محمّد جادو شجاع، محمّد سليم القنطار، عيسى عصفور، حسني فريز، متري حمارنة، مصطفى وهبي التّل (عرار) أديب نفّاع، عبد صيّاح الأطرش، محمّد الشّجاع، وللشّاعر الزّجّال اللّبنانيّ طليع حمدان زجليّة رائعة في استعراض مسيرة القائد يلقيها بصوته الرّقيق.
وكتب حول شخصيّته ومسيرته الثّوريّة الكثير من المقالات والدّراسات التّاريخيّة، تسرد تاريخ الثّورة الّتي قادها، ولكنّ سيرته الّتي كتبها هو تبقى المرجع الأوّل للتّعرّف على تاريخه النّضاليّ ومسيرته الكفاحيّة وعلى أحداث الثّورة السّوريّة، وفيها يتطرّق إلى التّفاصيل الصّغيرة والّتي يستطيع القارئ من خلالها التّعرف على شخصيّة “سلطان باشا” الإنسان ذي الأحاسيس المرهفة والزّاهد بكلّ حطام الدّنيا والمتعالي عن كلّ ما المثالب والمتمسّك بقناعاته القوميّة العروبيّة والوطنيّة السّوريّة وبعقيدته التّوحيديّة. ولنجله “منصور” سيرة كتبها عن أبيه حقّقتها ابنته “ريم منصور الأطرش” حفيدة الباشا.
وصيّته الأخيرة وخلاصتي الأخيرة:
لم أجد أفضل من وصيّته وهو في أيّامه الأخيرة أختم بها مقالتي، يموت ولكنّه يريد لأمّته أن تعيش حيّة حرّة، وهنا خلوده وخلود مسيرته الثّوريّة متوثّبة نحو العلا والمجد ومتطلّعة للاستقلال والحرّيّة لكلّ الأقطار العربيّة وبخاصّة فلسطين، ولذلك يخاطب فيها إخوته وأبناءه العرب، لأنّه آمن حتّى النّخاع بالوحدة العربيّة الّتي نادى بها ووضع أسسها وأرسى مقوّماتها وطموحاتها الزّعيم العربيّ العظيم “جمال عبد النّاصر”.
“بسْم الله الرّحمن الرّحيم. إخواني وأبنائي العرب!
عزمتُ وأنا في أيّامي الأخيرة، أنتظر الموت الحقّ، أن أخاطبكم مودّعًا وموصيًا. لقد أوْلتني هذه الأمّة قيادة الثّورة السّوريّة الكبرى ضدّ الاحتلال الفرنسيّ الغاشم، فنهضت بأمانة القيادة وطلبتُ الشّهادة وأدّيتُ الأمانة. انطلقت الثّورة من الجبل الأشمّ “جبل العرب” لتشمل وتعمّ، وكان شعارها: “الدّين لله والوطن للجميع”، وأعتقد أنّها حقّقت لكم عزّة وفخارًا وللاستعمار ذلًّا وانكسارًا.
وصيّتي لكم، إخوتي وأبنائي العرب هي أنّ أمامكم طريقًا طويلة ومشقّة شديدة تحتاج إلى جهاد وجهاد: جهاد مع النّفس وجهاد مع العدوّ. فاصبروا صبر الأحرار ولتكن وحدتكم الوطنيّة وقوّة إيمانكم وتراصّ صفوفكم هي سبيلكم لردّ كيد الأعداء وطرد الغاصبين وتحرير الأرض. واعلموا أنّ الحفاظ على الاستقلال أمانة في أعناقكم، بعد أن مات من أجله العديد من الشّهداء وسالت للوصول إليه الكثير من الدّماء. واعلموا أنّ وحدة العرب هي المنعة والقوّة وأنّها حلم الأجيال وطريق الخلاص. واعلموا أنّ ما أُخِذَ بالسّيف، بالسّيف يُؤخَذ، وأنّ الإيمان أقوى من كلّ سلاح، وأنّ كأس الحنظل في العزّ أشهى من ماء الحياة مع الذّلّ وأنّ الإيمان يُشحَن بالصّبر ويُحفَظ بالعدل ويُعَزّز باليقين ويُقوّى بالجهاد. عودوا إلى تاريخكم الحافل بالبطولات، الزّاخر بالأمجاد لأنّي لم أرَ أقوى تأثيرًا في النّفوس من قراءة التّاريخ لتنبيه الشّعور وإيقاظ الهمم لاستنهاض الشّعوب فتظفر بحرّيّتها وتحقّق وحدتها وترفع أعلام النّصر. واعلموا أنّ التّقوى لله والحبّ للأرض وأنّ الحقّ منتصر وأنّ الشّرف بالحفاظ على الخلق، وأنّ الاعتزاز بالحرّيّة والفخر بالكرامة وأنّ النّهوض بالعلم والعمل، وأنّ الأمن بالعدل وأنّ بالتّعاون قوّة.
الحمد لله ثمّ الحمد لله. لقد أعطاني عمرًا قضيته جهادًا وأمضيته زهدًا، ثبّتني وهداني وأعانني بإخواني، أسأله المغفرة وبه المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل. أمّا ما خلّفتُه من رزق ومال فهو جهد فلّاح متواضع تحكمه قواعد الشّريعة السّمحاء”.
لا فضّ الله فمًا يقول هذا الكلام، خلاصة تجرية حياتيّة كفاحيّة مجيدة وثورة على الاستعمار الفرنسيّ، وكأنّه يقتبس “جمال عبد النّاصر” رغم النّكسة ظلّ صامدًا يقول “ما أُخذ بالقوّة لا يُستردّ بغير القوّة” عندما أوصانا “ما أُخذ بالسّيف، بالسّيف يُؤخذ” وعندما رفض قاهر الفرنسيّين إغراءات الإنجليز بالقصر والمعاش الكبير كأنّ الأسد الشّيخ “عمر المختار” قاهر الإيطاليّين ينتصب أمام مخيّلتي.
هؤلاء هم الرّجال العظماء الخالدون: عمر المختار وسلطان باشا الأطرش وجمال عبد النّاصر، كانت هويّتهم عربيّة واسعة عريضة رغم انتمائهم للإسلام دينًا وثقافة وتربية. ألا يكفينا التّقسيم الإقليميّ: مصريّ وسوريّ وعراقيّ وليبيّ، حتّى أغرقتنا الإقليميّة فضعنا كأمّة عربيّة بالتّناحر والخلافات، فهل نحن بحاجة أيضًا إلى انزلاقات ومتاهات وهويّات قاتلة فنصبح مسلمين ومسيحيّين ودروزًا متناحرين، وأكثر من ذلك فنصبح كاثوليكًا وأرثودكسًا وسنّة وشيعة وعلويّين وزيديّين، بهذه الهويّات الضّيّقة وردنا موارد الهلاك. فيا أيّها العرب المسلمون ويا أيّها العرب المسيحيّون ويا أيّها العرب الدّروز! أوْلى لكم أن تتعلّموا اليوم اليوم وليس غدًا من عظماء أمّتنا العربيّة الخالدين كيف تحيون بكرامة وعزّ وحرّيّة، ولا يستطيع أحد أن يدوس على طرف من أطرافكم ولا أن يعتدي على قطر من أقطاركم بالانتماء إلى الهويّة العربيّة الواحدة العريضة، وكيف تعيشون أذلّاء، عبيدًا ومطايا لكلّ طامع، متشرذمين، ضعفاء، بائسين تذهب ريحكم أدراج الرّياح بالانتماء إلى هويّات ضيّقة وكثيرة وقاتلة، يقاتل فيها السّعودي اليمنيّ خدمة للمشاريع الصّهيو – أميركيّة ويعادي فيه المسلم في لبنان أخاه المسيحيّ ويتناحر السّنّي والشّيعيّ في العراق ويقتل الدّرزيّ الفلسطينيّ أخاه الفلسطينيّ بالبندقيّة الإسرائيليّة. وصور مقيتة أخرى كثيرة، ما أنزل الله بها من سلطان! ولا حلّ أمامنا جميعًا بكلّ أقاليمنا ومناطقنا ودياناتنا وطوائفنا إلّا أن نحترم الواحد الآخر ونتقبّل اختلافه وننصهر جميعًا فيما دعانا إليه العروبيّ الأصيل “سلطان باشا الأطرش” فنقف بما دعانا إليه ونقاوم ضدّ فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسرائيل، بلا أحلاف كاذبة، لا دم في أجسادها ولا ماء في وجوهها وبلا تجنيد مجحف منافٍ للوجدان والضّمير والتّوحيد والعروبة.