غمرات: سوق الكتب المستعملة بجامع القرويين..كان هنا
تاريخ النشر: 21/01/21 | 12:05سعيد العفاسي صحافي مغربي مقيم في كقر قرع
أين يوجد سوق الكتب المستعملة بجامع القرويين؟؟
بهذا السؤال “الدهشة” فاجأني أحد المارة بزنقة العطارين بفاس المدينة، وتبدو عليه ملامح الغربة وكأنه ضيع كنزا، أو يسأل عن محظور، أو يحاول أن تسعفه الذاكرة لاسترجاع ملامح الماضي، رجل في نهاية العقد السادس من عمره، يتأبط حزمة من الكتب المعتقة، مهيب الجانب، متوقد الفكر، مشتت البال، تيقنت من أن الرجل لا يمزح، جاد في سؤاله. بذكاء القارئ المتمرس، تلمس حيرتي من السؤال، فأعاده علي للمرة الثانية بابتسامة رقيقة وكثيفة، مررنا من سماط العدول في اتجاه باب الشماعين وانحدرنا في زنقة السبيطيريين ورائحة الجلد تزكم أنوفنا، وفي منتصف الزقاق توقفت يسارا وأشرت إلى باب الجنائز المغلق لجامع القرويين، وقلت في شبه تنهدة كان هنا .
وبما أننا في باب الجنائز علينا أن نقرأ سورة الفاتحة ترحما عليه.
فعلا كان هنا سوق أسبوعي للكتب المستعملة، يقام كل صباح يوم الأحد، سوق بالمعنى الحقيقي للكلمة، يتأبط الداخل إليه حذاءه ويتجول بين أمهات الكتب متوغلا في بساتين العلم والمعرفة، يتنسم عبق التاريخ والأدب والفن والفقه والتوحيد والعلوم الإنسانية والفلك والطب والجبر والهندسة…يقصده المتعلم والطالب والأستاذ والباحث والهاوي وجماع الكتب التراثية.. بحثا عن الوطر المنشود، ولا يخرج الداخل إليه إلا وبين يديه كتاب أو أكثر، وقد تزود بما يفيه من المعلومات، وعيناه متشوقتان للمزيد، وحتى إن لم يقتن كتابا فإنه يكون قد تزود بمعلومات كثيفة قد لا يجدها في المدرسة، السوق كان مدرسة حقيقة، بل جامعة غناء .وربما حاجة الطلبة الذين كانوا يدرسون في جامع القرويين هي التي دفعت إلى فتح هذا السوق لكي يكون قريبا إليهم على مرمى بصر، وكان “الدلال” يحمل على رأسه أو بين يديه كتاب العبر لابن خلدون أو لسان العرب لابن منظور أو كتب ابن عربي وابن رشد والغزالي والمخطوطات النادرة من شتى صنوف العلوم والمعارف، لتبدأ عملية الدلالة قصد البيع والشراء، في جو روحاني مهيب، فكان الدلال والبائع يعيل أسرته ويقي نفسه شر الفاقة والعوز، ويكتسب أدبا وعلما نافعا.
بباب السوق اليوم، يرابط كل يوم أحد من الساعة الثامنة صباحا إلى الثانية بعد الزوال، أحد باعة الكتب القديمة، ليقدم خدماته المعرفية للوافدين عليه من أهل العلم والعرفان، يفترش كتبه على عتبة باب جامع الجنائز المغلقة، منذ تاريخ إغلاق مسجد القرويين قصد الترميم والإصلاح، وينتظر الذي يأتي ولا يأتي، وفي نفسه حرقة كبيرة وأسف عميق يتجرعه كل يوم أحد رفقة باقي البائعين الآخرين الذين حملوا كتبهم وراحوا يطلبون أرض الله الواسعة، بعدما عيل صبرهم بالوعود المعسولة بإعادة فتح السوق، فالمندوبية الجهوية لوزارة الأوقاف بفاس متكتمة على الموضوع ولا تبذل أدنى جهد في إحياء ذاكرة المدينة، وإنعاش سوق الكتب المستعملة، ومعها إحياء الباعة والدلالة والقارئ وتاريخ المدينة الذي بدأ يعلوه غبار كثيف، وينتظر من ينفض عنه الإهمال، لتصبح فاس ذاكرة حية تنبه الغافلين والعارفين بضرورة فتح السوق.
الحاج السوسي- صحبة زمرة من أصدقاء السوق- كاتبوا الجهات المعنية وغير المعنية، ونبهوا في رسائل كثيرة، فيها نبرة الاستعطاف، كانت آخرها رسالة إلى السيد عمدة فاس، قصد التدخل بما يليق لفتح ملف السوق، معه فتح آفاق جديد لمواجهة غول العولمة والإنترنيت الذي يهدد الكتاب ويهدد الذاكرة الفاسية بالثبور. كل يوم أحد صباحا، أتفقد هذا الرجل المرابط بباب الجنائز، وأجده صبورا يفتح شهيتي للقراءة ويزودني بما غاب من معارفي، فإذا سألته عن كتاب حدثني عن سيرة كاتبه ومعاصريه، وإذا سألته عن كاتب سرد علي مؤلفاته، وأشهر لسان النقد، لكي يكشف لي الغث من السمين، وهو ينتظر من يشهر مفتاح السوق لكي يفتح في وجه العموم، ويعود الكتاب لكي يتربع في باب الجنائز، حتى لا يقهره الموت أو يلفه النسيان، وحتى لا يلفظ السوق أنفاسه بين الإرادة والإدارة، وتقام عليه صلاة الجنازة، وتفقد فاس واسطة عقدها.