اللِّقاحُ المَفْقودُ
تاريخ النشر: 01/02/21 | 6:50قِصَّةٌ بِقَلَمِ: محمد يونس
كَانَتْ قَلِقَةً لِلْغَايَةِ بَعْدَمَا سَمِعْتَ أَنَّ التَّطْعيمَ ضِدَّ الوَبَاءِ الجَديدِ لَا يَشْمَلُ الأَبْناءَ والْبَناتِ. وَازْدَادَ قَلَقُها عِنْدَمَا سَمِعْتَ أَنَّ الأَمْرَ لَمْ يَعُدْ يَتَعَلَّقُ بِوَباءٍ واحِدٍ بَلْ بِأَوْبِئَةٍ كَثيرَةٍ، وَأَنَّ لِكُلِّ وَباءٍ طَفَراتٌ وَتَحَوُّلاتٌ تَزْدادُ بِمُرُورِ الأَيّامِ. وَتَسَاءَلَتْ: هَلْ مِنْ المُمْكِنِ أَنْ يُصابَ أَحَدُهُمْ بِهَذِهِ الأَوْبِئَةِ؟!
وَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ، مُسْتَنِدَةٌ إِلَى سَريرِها وَبِيَدِهَا هَاتِفُها النَّقّال، تَتَنَقَّلُ بَيْنَ تَطْبيقٍ وَآخَرَ، وَبَيْنَ مَوْقِعٍ إِخْباريٍّ واجْتِماعِيٍّ، وأَبْنَاؤُهَا وَبَناتُها الصِّغارُ غَارِقُونَ هُمْ أَيْضًا فِي عالَمِ الهَواتِفِ النَّقّالَةِ فِي غُرَفِهِم المُغْلَقَةِ، شَعَرتْ بِالنُّعاسِ يَتَسَلَّلُ إِلَى عَيْنَيهَا اَلْمُتْعَبَتِين. هَا هِيَ الشُّرْطَةُ وَصَلَتْ إِلَى بَابِ البَيْتِ. فوجِئُتْ بِطَرَقاتِهِمْ وَهُجومِهِمْ عَلَى البَيْتِ. خِلالَ دَقَائِقَ كَانَ التَّفْتِيشُ قَدْ قَلَبَ البَيْتَ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، فَلَمْ يَبْقَ أَثاثٌ إِلَّا وَنَبَشَتْهُ الكِلابُ بَحْثًا عَنْ رائِحَةِ المُخَدِّرَاتِ. أَخْبَرَهَا رِجالُ الشُّرْطَةِ أَنَّ ابْنَها مَطْلوبٌ لِلتَّحْقِيقِ بِتُهْمَةِ الِاتِّجارِ بِالسُمومِ وَأَنَّ عَلَيْهمْ تَسْليمَهُ. صُعِقتْ. أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إِلَى البَيْتِ، وَأَنَّهَا سَتَأْخُذُهُ بِنَفْسِهَا إِلَى الشُّرْطَةِ عِنْدَمَا يَعودُ.
وَضَعَتْ رَأْسَها بَيْنَ كَفَّيهَا مَصْعوقَةً، وَقَالَتْ لِنَفْسِهَا: لَمْ أُقَصِّر يَوْمًا بِحَقِّ أَبْنَائِي وَبَنَاتِي.. فَثلَاجَتنَا مَليئَةٌ دَوْمًا بِمَا لَذَّ وَطَابَ، وَرِحْلاتُنا السّياحيَّةُ فِي الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ تَشْهَدُ لَهَا السَّيَّارَاتُ والطّائِراتُ، وَخَزائِنُ المَلابِسِ تَشْهَدُ لَنَا بِمَا نُنْفِقُهُ عَلَيْهُمْ. بِنَاطِيلُ الْجيْنزِ العَصْريَّة تَشْهَدُ، وَتسْريحاتُ الشّعْرِ المَنْفوش تُؤَيِّدُ، فَهَلْ قَصَّرَتُ فِي حَقِّهِمْ وَحقِّهِنّ؟!
أَسْرَعَتْ إِلَى هَاتِفِهَا تَتَفَحَّصُهُ. لَعَلَّ شَخْصًا صوَّرَ هُجومَ الشُّرْطَةِ عَلَى بَيْتِها وَنَشْرَهُ عَلَى الإِنْتَرْنِتْ!. إِنْ حَدَثَ هَذَا فَسَيَكُونُ هَذَا أَسْوَأُ أَيّامِها، فَأَشَدُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا هوَ شَماتَةُ الْجَارَاتِ وَاَلْقَريباتِ. وَأَثْنَاءَ تَصَفُّحِها، وَجَدَتْ مقطَعًا لِعالِمٍ يَتَحَدَّثُ عَنْ انْحِرافِ الأَبْناءِ وَدَوْرِ الْآبَاءِ فِي ذَلِكَ. هَا هوَ العالِمُ يَتَحَدَّثُ عَنْ واجِبِ الْآبَاءِ تِجاهَ أَبْنَائِهِمْ. يَقُولُ: إِنَّ تَرْبيَةَ الأَبْناءِ فَرْضٌ بِدَليلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: “يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقودُها النّاسُ والْحِجارَةُ”، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئولٌ عَنْ رَعيَّتِهِ”. ثُمَّ قَالَ نَاقِلًا عَنْ الإِمامِ الغَزاليِّ: “والصَّبيُّ أَمانَةٌ نَفيسَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْه، وَقَلْبَهُ الطّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفيسَةٌ ساذَجَةٌ خاليَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصورَةٍ، وَهُوَ قابِلٌ لِكُلِّ نَقْشٍ، وَمائِلٌ إِلَى كُلِّ مَا يُمَالُ بِهِ إِلَيْهُ، فَإِنْ عُوِّدَ عَلَى الخَيْرِ وَعَلِمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ، وَشَارَكَهُ فِي ثَوابِهِ أَبَواهُ، وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٌ، وَإِنْ عُوِّدَ عَلَى الشَّرِّ وَأُهْمَلَ إِهْمالَ البَهائِمِ شَقِيَ وَهَلَكَ وَكَانَ الوِزْرُ فِي رَقَبَةِ القَيِّمِ عَلَيْهُ وَالوَالِي بِهِ”.
إِغْرورَقَتْ عَيْنَاهَا بِالدُّمُوعِ. وَبَدَأَتْ تَفْهَمُ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ رِعايَةِ الأَبْناءِ وَتَزْويدِهِمْ بِالطَّعَامِ والْمَلابِسِ والتَّرْفيهِ، وَبَيْنَ تَرْبيَتِهِمْ وَتَنْشِئَتِهِمْ تَرْبيَةً إِسْلاميَّةً حَقيقيَّةً. فَهِمَتْ حِينَهَا أَنَّهَا أَخْطَأَتْ عِنْدَمَا أدْخلتْهُمْ إِلَى دَوْراتِ الشِّطْرَنْجِ وَرُكوبِ الخَيْلِ والسِّباحَةِ وَكُرَةِ القَدَمِ وَإِعْدادِ الكَعْكِ، بَيْنَمَا لَمْ تُفَكِّرْ يَوْمًا فِي تَسْجيلِهِمْ فِي دَوْرَةٍ قُرْآنيَّةٍ فِي المَسْجِدِ القَريبِ. هَا هِيَ الآنَ تَجْني حَصادَ تَرْبيَتِها السَقيمَةِ. بَلْ إِنَّهَا لَا تَدْرِي هَلْ سَتَقِفُ مُصيبَتُها عِنْدَ اعْتِقالِ ابْنِها البِكْرِ أَمْ أَنَّهَا سَتَصِلُ فِي المُسْتَقْبَلِ إِلَى بَنَاتِهَا الصَّغِيرَاتِ. فَهَلْ سَيَتَزوَّجْنَ فِي المُسْتَقْبَلِ بِمَن يُسْعِدُوهنَّ أَمْ سَيَكُونُ مَصيرُهُنَّ الطَّلاقُ وَاَلْتَعاسَةُ مِثْلَ العَشَراتِ مِنْ بَناتِ الحَيِّ. وَتَسَاءَلَتْ: هَلْ أَسْتَسْلِمُ لِهَذَا اَلْمُصابِ؟ أَمْ أُحَوِّلُ المِحْنَةَ إِلَى مِنْحَةٍ وَأَبْدَأُ بِالتَّغْيِيرِ؟ وَاخْتَارَتْ التَّغْيير.
قَرَّرُتْ أَنْ تَبْدَأَ بِنَفْسِهَا. كَانَ قَرارُها حازِمًا لَا رَجْعَةَ فِيه. قَرَّرَتْ اَلاِلْتِزامَ بِالصَّلَاةِ، وارْتِداءَ الحِجابِ الَّذِي طَالَمَا تَرَدَّدَتْ بِشَأْنِهِ. وَقَرَّرَتْ أَنْ تَكونَ أولَى الرِّحْلَاتِ العائِليَّةِ القَريبَةِ إِلَى أَداءِ العُمْرَةِ. وَقَرَّرَتْ العَمَلَ بِنَصِيحَةِ الشَّيْخِ الّذِي اقْتَرَحَ أَنْ تَجْلِسَ العائِلَةُ جَلْسَةً أُسْبوعيَّةً تَسْتَمِعُ فِيهَا إِلَى مُحاضَرَةٍ دينيَّةٍ أَوْ تقْرَأَ فِي كِتابٍ دينيٍّ.
مِنْ النّافِذَةِ تَسَلَّلَ صَوْتَ أَذانِ الفَجْرِ.. إِسْتَيقَظَتْ عَلَى صَوْتِ الأَذانِ.. الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ. فَتَحَتْ عَيْنَيهَا وَابْتَسَمَتْ. الحَمْدُ لِلهِ أَنَّهُ كَانَ حُلُمًا.
نَهَضَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى غُرْفَةِ أَبْنَائِهَا وَبَناتِها. أَيْقَظْتُهُمْ لِأَدَاءِ صَلاةِ الفَجْرِ. وَبَعْدَ الصَّلاةِ أَعَدَّتْ لَهُم الشّايَ وَقَصَّتْ عَلَيْهِمْ أَحْداثَ الْكَابُوسِ الَّذِي رَأَتْهُ فِي مَنامِها. ضَحِكوا.. وَضَحِكَتْ هِيَ. هَا هِيَ قَد عرفتْ أَخِيرًا كَيْفَ يَأْخُذُونَ اللِّقاحَ الصَّحيحَ.