“عندما يصبح الحجر وطنًا”.. إبداع أدبي يخاطب التاريخ
تاريخ النشر: 05/02/21 | 10:21بقلم: طوني باسيلا
اكتظت الغرفة الإلكترونية عبر تطبيق زوم بالمشتركين في الندوة التي نظّمها قسم تاريخ الشرق الأوسط بجامعة حيفا يوم الخميس الفائت (21.1.21) بمناسبة إصدار كتاب باللغة العبرية عنوانه “כשאבן נעשית מולדת (أي:”عندما يصبح الحجر وطنًا”) لمؤلفه للدكتور حاتم خوري وترجمة المؤرخ البروفسور أفنير جلعادي (אבנר גלעדי). تميز اللقاء بحضور رئيس القسم البروفيسور يوفال بن باساط (פרופ’ יובל בן בסט) وعددٍ من المحاضرين ولفيفٍ من الشخصيات اللامعة في المجالات المختلفة. وقد افتتح الندوة الدكتور يوني فوراس (ד”ר יוני פוראס)، ومن ثم تحدث البروفسور محمد وتد عن تجربته الشخصية والمثيرة مع المؤلف، إذ توقف عند المميزات الأدبية التي برزت في كتابات الدكتور خوري مُظهراً ذلك من خلال سرده اللافت والمثير للإعجاب. بعد ذلك باشر الدكتور عِدو شاحَر (עידו שחר) بعرض موقفه التحليلي العلمي الممزوج بالأحاسيس تجاه الكتاب وكذلك تجاه الترجمة التي لقيت استحسان المُتحدث والمشتركين على حدٍّ سواء. وفي مداخلة قصيرة لسعادة القاضي سليم جبران أشار المتحدث الى أن المؤلف كان أستاذه في مدرسة “تيرسنطا” عكا. أما البروفسور محمود يزبك فقد نوّهَ بأن القصص الأدبية الواردة في الكتاب إنْ هيَ إلّا “شهادةٌ تاريخيةٌ” بحقٍّ وجدارة.
قبل التطرق للكتاب لا بد من بعض الكلمات المتواضعة عن شخصيتين وقّعَتا على سلسلة نجاح طويلة ومثيرة في رحلة الماضي وما زالت كل منهما تنتج الروائع الفكرية والأدبية والتاريخية والأكاديمية حتى يومنا هذا. لم تنحصر معرفتنا بالدكتور حاتم خوري من خلال مطالعة الكتاب فحسب، لا بل قد عرفناه من خلال محطات ثقافية وتربوية مختلفة سعى من خلالها لخدمة بلده ومجتمعه، هو إذاً من البنّائين الذين ساهمت سواعدهم في تركيب لوحة الفسيفساء التي تميَّز بها المجتمع الحيفاوي وسائر الجليل منذ عقود. أما البروفيسور جلعادي، أستاذي الفاضل في جامعة حيفا، فإنه من أوائل المدرّسين الذين التقيتُ بهم في إطار دراسة البكالوريوس في التسعينيات من القرن الماضي، ولم يبخل في نثر معرفته وتجربته في حقل البحث التاريخي على أجيالٍ شقت طريقها باحثةً عن ملاذٍ أكاديمي تنهَل منه وتروّي عطشها وتنمّي ثقافتها.
تناول الكتاب مجموعة قصص أدبية قصيرة استند الكاتب في سردها على التفاصيل الحياتية والاجتماعية التي ميّزَت واقع المجتمع الفلسطيني منذ عشرينيات القرن المنصرم. تميزت كتابة تلك القصص بخليطٍ مثير حَمَلَ في طياته النكهة الأدبية التي أًبَت أن تتجاهل المحطات التاريخية هنا وهناك، تلك المحطات التي بانت بطريقة سلسة مرنة دون أن تفرض نفسها على القارئ، فلقد كان أسلوب المؤلّف في المزج بين الأدب والتاريخ يدخل القلب دون استئذان. لم يعرض الدكتور حاتم خوري الجانب السياسي والعسكري لتلك المحطات، إنما بات يُجرّعها للقارئ بجُرُعاتٍ كمِثل أمٍّ تطعم طفلها برفق وهوادة. قصة “حليمة” على سبيل المثال تناولت سيرة تلك المرأة التي فقدت بناتها الثلاث مباشرةً بعد الولادة ولم تلتقِ بهن إلا بعد عقود في كندا، حتى إن الاخوات قد تقطعت بهنّ السبُل لفترة ليست قصيرةً من الزمن. دأب الكاتب من خلال السطور الأدبية على الوقوف عند الحرب وقضية اللجوء والاغتراب والفقر والألم الذي أضحى رفيقاً لحليمة طيلة أيام حياتها، ليس هذا فحسب، بل زد على ذلك كلِّهِ تلك الأحداث التي وردت لتخدم وتعزّز الذاكرة الجماعية التي لا يمكن فصلها عن ذاكرة الكاتب نفسه. أما قصّة “جابي فرسون” التي تتحدث عن رجل حيفاوي عاد من غربته في قبرص الى بيته في حيفا ووجد أناساً غرباء يقطنون العمارة التي كان والده يملكها قبل سنة 1948، ففيها يمزج الكاتب التجربة الخاصة التي عاشها جابي فرسون مع سيرة الكاتب في صغره مثَبِّتاً النص الأدبي بسيرة فرسون الحياتية من أحداث كان أبرزها الحرب الاهلية اللبنانيّة سنة 1975 والسفر الاضطراري الى الجزيرة اليونانية كي يباشر ببناء مستقبل جديد.
لقد اجتاحني أسلوب الكاتب لدرجة أنني أنهيت مطالعة الكتاب خلال يوم واحدٍ فقط، والأفضال هنا تعود الى ما يلي: أولاً، أوجد الكاتب من خلال نتاجه النفيس توازنًا بين الجانب الأدبي والجانب التاريخي، عارضًا ذلك بأسلوب راق جميل. ثانياً، انتظمت المعطيات بطريقة شيقة، غير مألوفة، محاولة اثبات نفسها بانها تهدف الى بث رسالة واضحة تحمِل القارئ الى ما بعد القومية حيث القيم المثلى وما تبقّى من فعل الخير على هذه الأرض. ثالثًا، بالرغم من الحالة الزمنية الحرجة التي يلجأ اليها الكاتب وأقصد هنا المرحلة التي تفاقم فيها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلا أن العِبَر التي تترسخ في ذهن القارئ تترك مكانا للتفكير في قيمة الإنسان المطلقة من وجود ووجدان. إضافة الى ما ذكر أعلاه فإن المؤلف لم يتعلق بمستنقع زمنيٍّ متجمد ومحدد، بل على العكس تماماً فلقد نقلتني كتاباته من العشرينيات الى الثمانينيات دون أية إشكالية، لربما التوغل في أعماق الكتاب وسبر أغوار الكاتب جعلاني أنسى “عامل الزمن” بين تارةٍ وأخرى.
عزيزي القارئ، أود تدوين ملاحظة هامة جداً وهي انني قرأت الكتاب بالنسخة العبرية، تلك التي ترجمها البروفيسور أفنير جلعادي. ولا بد من الإشادة هنا بمهنية المترجم وكفاءتِهِ العالية، ومما لا شك فيه أن مرحلة الترجمة تأثرت بسيرة المترجم وبعض الميزات في شخصيته، منها الإبحار في البحث، الثقافة، الدراسة العميقة والمحَكَّمة لأفكار المؤلف والمضمون، ناهيكَ أنّ كل من تعرّف على البروفسور جلعادي يدرك ان الإنسانية هي قيمة عليا رافقته في كل مكان.
هنيئًا للمؤلف، وهنيئًا للمترجم وهنيئًا لنا نحن القرّاء على هذا الكتاب وعلى هذا التوثيق، ونرجو من الله عزّ وجل أن ينعم علينا بمثل هذه الإبداعات في المستقبل.