مَقامَةُ حَجَلَةِ العَوْسَجْ.. في مَضارِبِ بَني تَعْمَجْ- بقلم: محمود مرعي
تاريخ النشر: 12/02/21 | 15:41مَقامَةُ حَجَلَةِ العَوْسَجْ.. في مَضارِبِ بَني تَعْمَجْ- بقلم: محمود مرعي
نَصٌّ غَيْرُ ذي قَصّْ.. بَلْ ما تَعْكِسُهُ الـمَرايا مِنْ قَصَصْ
حَدَّثَتْ حَجَلَةُ العَوْسَجْ.. ذاتُ الكَرِّ الأَهْوَجْ.. وَالصُّداحِ الأَبْهَجْ.. وَالبَيانِ الأَوْضَحِ لا الأَعْرَجْ.. عَمَّا جَرى لَها في مَضارِبِ بَني تَعْمَجْ.. وَهِيَ رَغْمَ كَوْنِها حَجَلَهْ.. لكِنَّها في الرَّأْيِ رَجِلَهْ.. وَقَدْ رَوَتْ لي عَنْ حَمَّالَةِ الحَطَبْ.. رَبَّةِ الدَّيْباجِ وَالقَصَبْ.. وَالنَّارِ ذاتِ اللَّهَبْ.. لِكُلِّ ذي لِحْيَةٍ يَجْرُؤُ وَيَقْتَرِبْ.. وَكَيْفَ صارَتْ في فَمِ النَّاسِ عِلْكَهْ.. لِجَهْلِها فَنَّ القَصِّ وَالحَبْكَهْ.. وَحَكَتْ حَجَلَةُ عَمَّا دارَ في دارِ النَّدْوَهْ… مَقَرِّ السَّادَةِ الصَّفْوَهْ.. وَمَخْدَعِ القِيانِ أَوانَ صَبْوَةِ القَوْمِ وَفَوْرَةِ الشَّهْوَهْ.. لِتَحْقيقِ مُعادَلَةِ اللَّذَّةِ وَالنَّشْوَهْ.. وَعِناقِ الـمِثْلِ بِالـمِثْلِ كُلَّ أَوانْ.. وَزَواجِ سَجاحَ بِزَرْقاءَ دونَ قِرانْ.. قُبَيْلَ مَعْرَكَةِ [إِنْ كِنِ] الأَخيرَهْ.. وَنَقَلَتْ عَلى لِسانِ حَمَّالَةِ الحَطَبِ العَقيرَهْ.. قَبيحَةِ السِّيرَةِ وَالسَّريرَهْ.. رَغْمَ أَنَّها بَيْنَهُمُ الأَميرَهْ.. أَنَّ سادَةَ قُرَيْشٍ تَجَمَّعوا مِنْ أَطْرافِ الجَزيرَةِ الأَرْبَعَهْ.. وَكُلُّ قَرْنٍ مِنْهُمْ كُفْءُ أُلوفٍ مُجْتَمِعَهْ.. في الخَطابَةِ وَالجَعْجَعَهْ.. لا كَرِّ الخَيْلِ وَسْطَ الـمَعْمَعَهْ.. وَهذا عَجَبٌ مِنَ العَجَبْ.. لَمْ يَعْرِفْهُ لُقْمانُ لُبَدْ.. وَلا سَمِعَهُ مِنْ قَبْلُ ساكِنُ بَلَدْ.. وَإِذا عُرِفَ السَّبَبُ بَطَلَ العَجَبْ.. كَما بَطَلَ صَوْمُ رَمَضانَ في رَجَبْ.. وَذاتَ مَساءٍ وَالصَّبا مِنَ الأَحْقافِ تَأْتي وَتَذْهَبُ.. وَالنُّجومُ بِالخَيالِ تَلْهو وَتَلْعَبُ.. وَالخَمْر عُقولَ القَوْمِ تَشْرَبُ.. تَخالُهُمْ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى.. لكِنَّهُمْ لِطولِ عَمَهٍ حَيارى.. فَقَدْ رَكِبوا لِلْفَوْزِ كارًا وَكارَا.. وَكانَ جَزاؤُهُمْ تَبًّا وَخَسارَا.. وَقَدِ اجْتَمَعوا مُجَدَّدَا.. لِيَدْرُسوا أَمْرًا مِنْ أُمورِ العَرَبِ مُحَدَّدَا.. وَكانوا بِالصُّدْفَةِ أَرْبَعَةً خامِسَهُمْ أَبا مُرَّهْ.. فَلَهُ في كُلِّ خَطْبٍ وَمَحْفَلٍ نَفْرَهْ.. وَإِلى كُلِّ مُنْكَرٍ كَرَّهْ.. وَقَدْ زادوا عَلى الأَثافي أُثْفِيَهْ.. وَلَيْسَ أَبو مُرَّةَ سِوى ضَيْفِ الأُمْسِيَهْ.. فَهُوَ زَعيمُ الباذِنْجانِيِّينَ وَالـمَرْكوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينْ.. في الـماضينَ وَالحاضِرينَ وَالآتينَ إِلى يَوْمِ الدِّينْ..
وَأَمَّا بَقِيَّةُ القِيادَهْ.. وَمَوْكِبُ ذَوي الفَخامَةِ وَالسَّعادَةِ نُوَّابِ القادَهْ.. فَقَدَ غَلَبَ عَلى ظَنِّ القَرْنِ الأَكْبَرِ أَنَّهُمْ يَكيدونَ كَيْدَا.. وَيَرَوْنَ في الاِجْتِماعاتِ رِبْحًا وَصَيْدَا.. وَقَدْ أُبْعِدوا عَمْدَا.. وَأُمْهِلوا رُوَيْدَا.. حَتَّى يَنْتَهي الـمُؤْتَمَرْ.. وَتَخْرُجَ الرُّؤُوسُ بِالثَّمَرْ.. وَالقادَةُ وَالأَتْباعُ الكُثُرْ« لَـمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعو كادوا يَكونونَ عَلَيْهِ لِبَدَا».. وَلَوْلا فِطْنَةُ القَرْنِ كانَ جَمْعَهُمْ حَصَدَا.. «وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا».. وَصاحَ القَرْنُ الأَكْبَرُ يَوْمَها ما زالوا يَتَناسَلونَ عَصْرًا فَعَصْرَا.. أَعينوني « سَأُصْلِيهِ سَقَرْ.. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرْ.. لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرْ».. سَنَجْعَلُهُ « كَهَشِيمِ الـمُحْتَظِرْ».. وَنَحْنُ «جَمِيعٌ مُّنتَصِرْ».. وَكَما تَعْلَمونَ يا أَهْلَ الخَيْرِ وَالصَّلاحْ.. فَالكِتْمانُ أَساسُ النَّجاحْ.. وَالفَوْزِ وَالنَّصْرِ وَالفَلاحْ..
وَازْدَحَمَتْ رُؤوسُ القَبائِلِ في ساحَةِ دارِ الندوة.. مِنْ ذَوي النُّفوذِ وَالحَظْوَهْ.. وَكُلٌّ «باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالوَصيدْ».. كَيْفَ لا وَهُمُ القُرومُ الصِّيدْ.. لِحُضورِ مُؤْتَمَرِ تَوَحُّدِ العَرَبِ وَوِحْدَتِهِمْ.. وَوَضْعِ حَدٍّ لِـمَهانَتِهِمْ وَذِلَّتِهِمْ.. فَالوَضْعُ لا يُبَشِّرُ بِخَيْرٍ وَلا يُطَمْئِنْ… وَحَمَّالَةُ الحَطَبِ يَهُمُّها اسْمُ قَوْمِها أَنْ يُهَيْمِنْ.. وَتَرْجو أَنْ يَتَفَمْنَسَ الكُلُّ.. وَهِيَ في سَعْيِها لا تَكِلُّ.. وَجَلَسَتْ بَيْنَ عِلْيَةِ القَوْمِ في صَدْرِ دارِ النَّدْوَهْ.. فَهِيَ تُساهِمُ في كُلِّ دِيَةٍ وَعَطْوَهْ.. وَحَيْثُما وَقَفَتْ قيلَ ثَوْرَهْ.. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها.. عَلى هذِهِ الغَضَباتِ وَمِثْلِها.. وَقَدْ أَلَحَّتْ إِلْحاحًا وَأَصَرَّتْ إِصْرارًا عَلى أَبي لَهَبْ.. لِيُقْنِعَ السَّادَةَ بِقَبولِ تَشْكيلِ حِزْبٍ مُنْتَخَبْ.. مِنَ الحَرائِرِ لا الضَّرائرِ وَالأَتْباعْ.. وَلا الإِماءِ وَالسَّبايا وَالرِّعاعْ.. وَهذا الحادِثُ الجَلَلُ العَجَبْ.. لَمْ يَجْرِ مِنْ قَبْلُ في سَنَنِ العَرَبْ.. وَاعْتَدَلَتْ أُمُّ جَميلٍ في جَلْسَتِها.. وَأَمْسَكَتْ طَرَفَ شَفَّاطَةِ أَرْجيلَتِها.. وَالرَّوائِحُ تُفَحْفِحُ في الـمَجْلِسْ.. وَقَطَّبَتْ حَواجِبَها، فَتَمامُ الهَيْبَةِ أَنْ تَعْبِسْ.. وَضَرَبَتْ طَرَفَ الشَّفَّاطَةِ بِزُجاجِ الأَرْجيلَهْ.. كَأَنَّها تُنَبِّهُ القَوْمَ لِلْإِنْصاتِ لِلْقيلَهْ:
– أَنا مَعَ وِحْدَةِ العَرَبِ جَميعَا.. وَيَجِبُ أَنْ نُشَكِّلَ كُتْلَةً مانِعَةً وَسَدًّا مَنيعَا.. في وَجْهِ زَحْفِ جَراثيمِ قَيْصَرَ وَكِسْرى.. مِنْ ذَوي اللِّحى وَالدَّشاديشِ وَالـمَسابِحِ حَصْرَا.. وَلَيْسَ أَمامَنا سِوى النُّهوضِ الـمُبَكِّرْ.. وَوِحْدَتِنا لِـمُواجَهَةِ طَلائِعِ العَسْكَرْ.. وَقَدْ أَخْبَرَتْ زَرْقاءُ اليَمامَةِ قَبْلَ أَيَّامْ.. أَنَّها رَأَتْ عِيانًا لا في الـمَنامْ.. شَجَرًا يَموجُ مِنْ بَعيدْ.. وَلَيْسَ ثَمَّ ريحٌ تَميدْ.
فَرَدَّ أَبو جَهْلٍ: هذا آخِرُ الزَّمانْ.. وَنِهايَةُ العَصْرِ وَالأَوانْ.. أَلَمْ يَبْقَ رِجالٌ في القَبائِلْ.. حَتَّى تَتَصَدَّرَ مَجالِسَنا رَبَّاتُ الجَدائِلْ.. إِنَّ مَكانَكِ يا أُمَّ جَميلٍ لَيْسَ هُنا.. فَهُنا مَجْلِسُ السَّادَةِ الأَعْيانِ أَهْلِ السَّنا.. أَهْلِ الحِكْمَةِ وَالشِّعْرِ وَالقَصيدْ.. فَارْجِعي إِلى بَيْتِكِ وَالْزَمي الخِدْرَ وَالثَّريدْ.. ثُمَّ أَنْشَدَ قائِمًا:
أَتَخْطُبُ في جَمْعِ الرِّجالِ عَواتِكٌ.. أَلَمْ يَبْقَ في هذي القَبائِلِ مَنْ يَفي؟
فَوا سَوْأَتا لِلْقَوْمِ فيهِمْ جَحاجِحٌ.. وَتَخْطُبُ رَبَّاتُ الحِجالِ وَتَصْطَفي
غَدًا سَيُزاحِمْنَ الرِّجالَ قِيادَةً.. وَنَمْضي مَعَ الرِّعْيانِ ذُلًّا، وَنَخْتَفي
وَصَنْعَتُنا حَلْبٌ وَصَرٌّ وَهُجْعَةٌ.. فَيا سُبَّةَ العُرْبانِ مِنْ خِزْيِ مَوْقِفِ
مُكوثِيَ بَعْدَ اليَوْمِ بَيْنَكُمُ غَدَا.. حَرامًا وَكُفْرًا يا رُعاةَ التَّزَلُّفِ
فَانْتَفَخَتْ أَوْداجُ أَبي لَهَبْ.. فَكَيْفَ تُهانُ زَوْجُهُ أَمامَ وُجوهِ العَرَبْ.. وَقالَ:
– تَبًّا لَكَ يا أَبا جَهْلْ.. يا عارِيًا مِنَ الكَرامَةِ وَالشَّهامَةِ وَالفَضْلْ.. مَنْ أَنْتَ حَتَّى تُخاطِبَ مَلَكَةَ الحَرائِرِ بِهذا الكَلامْ؟ أَما عَلِمْتَ أَنَّها زَوْجُ أَبي لَهَبٍ السَّيِّدِ الهُمامِ.. سَيِّدِكَ أَبًا عَنْ جَدّْ؟ وَقْتَ الهَزْلِ وَوَقْتَ الجِدّْ.. وَاللَّاتِ وَالعُزَّى.. وَالخِرافِ وَالـمِعْزى.. لَوْلا هذِهِ الوُجوهُ وَالجَمْعَهْ.. لَشَطَرْتُ بِالسَّيْفِ مِنْكَ الصَّلْعَهْ.. وَأَنا ابْنُ بَجْدَتِها.. وَخالَتِها وَعَمَّتِها.. فَلا تَعُدْ لِـمِثْلِ هذا وَقَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرْ.
وَتَصايَحَ القَوْمُ ساعَةً وَكادوا يَفْتِكونَ بِبَعْضْ.. وَالأَنْيابُ مَسْنونَةٌ لِلنَّتْشِ وَالعَضّْ.. وَهُنا وَثَبَ أَبو مُرَّةَ وَصاحَ صَوْتًا ارْتَجَّ لَهُ الـمَكانُ وَهَدَأَتِ الأَصْواتُ.. وَقالَ:
– يا مَعْشَرَ العَرَبْ.. مِمَّنْ عاشَ أَوْ ذَهَبْ.. مَهْلًا، عَلى رِسْلِكُمْ.. وَاحْفَظوا ماءَ وُجوهِكُمْ.. فَلا خَيْرَ فيكُمْ إِنْ تَطاحَنْتُمْ لِخِلافاتٍ صَغيرَهْ.. وَلا شَرَفَ لَكُمْ وَلا لَكُمْ عَهْدٌ وَجيرَهْ.. إِنْ عامَلْتُمْ حُرَّةً مِنْكُمْ كَسَبِيَّةٍ أَسيرَهْ.. لَقَدْ نَطَقَتْ أُمُّ جَميلٍ حَقًّا وَصَوابَا.. وَطَرْحُها لِلْحَقِّ أَصابَا.. فَما تُنْكِرُ عَلَيْها يا أَبا جَهْلْ؟ إِنْ كُنْتَ لَمْ تَتَعَوَّدْ فَقَدْ جَرى وَالأَمْرُ سَهْلْ.. وَسُنَّةُ الحَياةِ التَّقَدُّمُ في الوَرى.. لا الرَّجْعِيَّةَ وَالتَّخَلُّفَ لِلْوَرَا.. وَلِـماذا تَرْضَوْنَ الجَواري وَالقِيانَ تُغَنِّيكُمْ.. وَتَرْقُصُ لَكُمْ وَتُسَلِّيكُمْ.. وَتَسْتَمْتِعونَ بِها في فِراشِكُمْ.. وَلا تَرْضَوْنَها سَيِّدَةً تُشارِكُكُمْ في قَراراتِكُمْ؟.. أَهِيَ أَقَلُّ شَأْنًا مِنْكُمْ؟.. أَمْ تَرَوْنَها سُبَّتَكُمْ وَعارَكُمْ؟ لِأَنَّها في عُرْفِكُمْ لِغَيْرِ الـمُتْعَةِ لا تَكونْ.. وَأَحْرى أَنْ تُقْصى عَنْ مَقاصِدِ العُيونْ.. أَلَيْسَ هذا عَيْنَ الجُنونْ.. وَأَنْشَأَ يَقولُ:
“أَبا جَهْلٍ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْنا”.. فَإِنَّ العُرْبَ حُرٌّ جَنْبَ حُرَّهْ
وَذي سُنَنُ الحَياةِ فَلا تُعانِدْ.. فَوِحْدَتُكُمْ أَبا جَهْلٍ مَسَرَّهْ
حَذارِ.. حَذارِ أَنْ تُحْيوا فِراقًا.. فَفُرْقَتُكُمْ إِذا اشْتَجَرَتْ مَضَرَّهْ
أَبا البَرَكاتِ لا تَبْخَلْ بِنُصْحٍ.. وَجُدْ بِالقَوْلِ.. جَنِّبْهُمْ مَعَرَّهْ
فَلْنَبْحَثْ يا قَوْمُ في أَمْرِ وِحْدَةِ العَرَبْ.. فَالقَبائِلُ الغازِيَةُ قَدْ فَتَكَتْ بِنا بِلا سَبَبْ.. وَهذا عَصْرُ القُوَّةِ وَالرَّمْيَهْ.. لا عَصْرُ العَصَبِيَّةِ وَالحَمِيَّهْ.. وَمَنْ لَيْس لَهُ نَفيرْ.. فَهُوَ أَوْلى بِأَكْلِ الشَّعيرْ.. ثُمَّ دَعوا شَأْنَ قَيْصَرَ وَكِسْرى؟ وَأَصْلِحوا دَواخِلَكُمْ أَنْجَعُ وَأَحْرى.. فَما لِكِسْرى وَقَيْصَرَ ناقَةٌ وَلا جَمَلْ.. وَلا عِقالٌ وَلا عَناقٌ يُحْتَمَلْ.. كُلُّ هَمِّهِمْ صَداقَتُكُمْ وَالقُرْبُ مِنْكُمْ.. وَتَقاسُمُ مَنافِعِ الخَلْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَكُمْ.. وَماذا لَوْ كانَ لَهُمْ بَيْنَكُمْ سُفَراءُ.. لِقَضاءِ الحَوائِجِ يا نُبَهاءُ.. فَكُلُّ الخَلْقِ فَوْقَ الأَرْضِ إِخْوَهْ.. فَاجْعَلوا لَهُمْ كَما لَكُمْ عِنْدَهُمْ حَظْوَهْ.. وَأَصْلِحوا ذاتَ بَيْنِكُمْ.. وَأَوْغِلوا في الأَمْرِ بِرِفْقٍ لِفَوْزِكُمْ.. ثُمَّ افْحَصوا داخِلَكُمْ.. فَكَمْ سَمِعْتُ الـمُكاءَ وَالتَّصْدِيَةَ لَيْلًا مِنْ جانِبِ أَبي قُبَيْسٍ لا أُحُدْ.. أَوْ وَقْعَ الخُطى قُبَيْلَ السَّحَرِ في زَقاقاتِ مَكَّةَ وَلا أَرى أَحَدْ.. إِنَّ مِنْكُمْ عَلَيْكُمْ عُيونَا.. وَحَرِيٌّ بِما أَنْ نُحافِظَ عَلى وِحْدَتِنا وَنَصونَا.. هٰذا مَقالي لَكُمْ وَالسَّلامْ.
تَعَوَّذَ القَوْمُ مِنَ الشَّيْطانْ.. فَاخْتَفى أَبو مُرَّةَ في الحالِ كَأَنَّهُ ما كانْ.. وَعادوا لِلْمُداوَلَةِ وَأَجْمَعوا عَلى ضَرورَةِ الوِحْدَةِ في كُلِّ شَانْ.. وَكانَ بَيْنَهُمْ عَيْنٌ مِنْ عُيونِ كِسْرى يُظْهِرُ الغيرَةَ عَلى العَرَبْ.. وَيُبْطِنُ الاِنْتِماءَ لِكِسْرى حَيْثُما ضَرَبْ.. وَما إِنِ انْتَهى اجْتِماعُ القَوْمِ حَتَّى انْسَلَّ خارِجَا.. وَساحَ في الرَّمْلِ دارِجَا.. حَتَّى وَصَلَ حِصانَهُ الصَّافِنْ.. وَانْطَلَقَ مُوَلِّيًا شَطْرَ كَسْرى وَالـمَدائِنْ.. أَمَّا العَرَبُ فَفَرِحوا بِما اتَّفَقوا عَلَيْهِ أَخيرَا.. وَعَمَّتِ الأَفْراحُ وَاللَّيالي الـمِلاحُ شُهورَا.. وَسَطَعَتْ أَنْوارُ عُكاظٍ وَطابَ الغِناءُ وَالرَّقْصْ.. وَالجَواري الحِسانُ وَافِرَةٌ بِلا نَقْصْ.
وَذاتَ غَداةٍ وَالسَّادَةُ في فِناءِ الكَعْبَةِ وَرَدَ عَلَيْهِمْ رَسولُ كِسْرى.. وَتَرَجَّلَ عَنْ فَرَسِهِ وَاتَّجَهَ إِلى حَيْثُ يَجْلِسُ القَوْمُ لِيُقْرى وَيُطْرَا.. وَسَأَلَ عَنْ أَسَنِّهِمْ فَأَشاروا إِلى أَبي البَرَكاتْ.. وَنَهَضَ أَبو البَرَكاتِ وَانْتَحى بِرَسولِ كِسْرى حامِلِ البُشْرَياتْ.. فَأَسَرَّ لَهُ الأَخيرُ أَمْرَا.. وَهَزَّ أَبو البَرَكاتِ رَأْسَهُ نُكْرَا.. وَداعَبَ عُنْفُقَتَهُ وَكَتَمَ الخَبَرْ.. عَنْ قَوْمِهِ، مَنْ غابَ مِنْهُمْ أَوْ حَضَرْ.. ثُمَّ إِنَّ رَسولَ كِسْرى عادَ وَرَكِبَ فَرَسَهُ رافِضًا البَقاءَ في ضِيافَتِهِمْ.. وَلَكَزَ الفَرَسَ فَطارَتْ بِهِ حَتَّى غابَ عَنْ مَضافَتِهِمْ.
وَفي صَبيحَةِ الغَدِ كانَ أَبو البَرَكاتِ أَوَّل مَنْ حَضَرْ.. إِلى دارِ النَّدْوَةِ وَأَرْسَلَ مَنْ يَسْتَدْعي القَوْمَ لِلْبَحْثِ وَالنَّظَرْ.. فَحَضَروا وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدْ.. مِنَ الكَهْلِ حَتَّى الوَلَدْ.. وَانْتَفَضَ أَبو البَرَكاتِ البَطَلْ.. في حالَةِ غَضَبٍ وَضيقٍ مُفْتَعَلْ.. وَرَفَعَ سِرْوالَهُ وَشَدَّ إِزارَهْ.. وَقالَ بَعْدَما عَدَّلَ أَفْكارَهْ:
– عِمْتُمْ صَباحًا يا قَوْمًا رُبْدَا.. «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدَّا».. رُبَّما «تَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدَّا».. لَأَنْتُمْ «شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندَا».. أَتَدْرونَ ماذا أَرادَ رَسولُ كِسْرى أَمْسْ؟ لَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ إِنَّ العَجَلَةَ مِنَ الشَّيْطانِ ظَلَّلَهُ البُؤْسُ وَالتَّعْسْ.. [بَرَزَ قَرْنا أَبي مُرَّةَ مِنَ الغَضَبِ].. وَلَمْ تَسْمَعوا يا قَوْمْ.. وَها قَدْ جاءَتْ نَتائِجُ عَجَلَتِكُمُ اليَوْمْ.. فَأَنا أَسَنُّكُمْ وَعَلى عِلْمٍ سابِقٍ بِسَجاياهْ.. وَوَقَفْتُ عَلى مَسْتورِهِ وَخَفاياهْ.. وَما يَسْتُرُ عَنَّا مِنْ أَهْدافِهِ وَنَواياهْ.. لَقَدْ أَسَرَّ لي أَنَّ بَيْنَنا عُمَلاءَ لَهُمْ.. وَقَبْلَ أَنْ نَنْشُرَ أَخْبارَنا تُنْشَرُ عِنْدَهُمْ.. اَلـمَوْتُ لِلْعُمَلاءِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ.. ثُمَّ أَدْرَكْتُ بِفِطْنَتي أَنَّهُ يُريدُ أَنْ نَتَّحِدَ لِيَميلَ عَلَيْنا مَيْلَةً واحِدَهْ.. فَلا يُبْقي مِنَّا غَيْرَ مَجْموعَةٍ مِنَ العَبيدِ شارِدَهْ.. يَعْمَلونَ عِنْدَهُ حَطَّابينَ وَسُقاةَ ماءٍ بِالسُّخْرَهْ.. هَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ هذا هَدَفُهُ يا بَرَرَهْ؟.. لَطالَـما اعْتَبَرْتُموني مِنَ الـمُنْشَقِّينَ الفَجَرَهْ.. وَأَنا أَطْهَرُ مِنْ أَطْهَرِكُمْ.. وَأَخْلَصُ مِنْ أَخْلَصِكُمْ.. وَأَنا أَشَدُّكُمْ حِرْصًا وَفي كَشْفِ الـمَسْتورِ الَّذي أَعْلَمُ مَهْلِكُكُمْ.. لَقَدْ فَهِمْتُهُ مِنْ حَرَكاتِ عَيْنَيْهِ وَالهَمْسِ.. وَهُوَ يُسِرُّ لِـيَ الحَديثَ أَمْسِ.. لِذا أَرى أَنَّ الوِحْدَةَ حالِيًّا سَتَضُرُّ بِنا وَبِأَهْلِنا.. فَلْنوقِفْ أَمْرَها رَيْثَما نَسْتَقِرُّ في قابِلٍ أَوْ بَعْدَهُ عَلى رَأْيٍ مُوَحِّدٍ لِجَمْعِنا.
وَاحْتَدَّ النِّقاشُ وَعَلَتِ الأَصْواتُ وَسادَ الهَرْجُ بَيْنَ قُرونِ القَبائِلْ.. حَتَّى كادَ يَخْتَلِطُ الحابِلُ بِالنَّابِلْ.. فَمِنْ مُوافِقٍ مَعَ أَبي البَرَكاتِ في الطَّلَبْ.. وَمِنْ مُتَّهِمٍ لَهُ بِمُوالاةِ كِسْرى لا العَرَبْ.. إِلى مُشَكِّكٍ مُحايِدْ.. لا يُبْدي رَأْيًا وَلا يُعانِدْ..
فَقالَ أَبو البَرَكاتِ.. رَبُّ الحَسَناتِ لا السَّيِّئاتِ: اِسْمَعوا يا قَوْمْ.. لِنَتْرُكِ العَتَبَ وَاللَّوْمْ.. هَلْ عَلِمْتُمْ عَلَيَّ قَبْلَ اليَوْمْ.. تَفْضيلَ أَيِّ مَصْلَحَةٍ عَلى مَصالِحِنا؟- أَوِ اخْتِيارَ أَيِّ رُبوعٍ عَلى مَرابِعِنا؟- وَلَمْ يَنْتَظِرْ لِيَسْمَعَ جَوابَا.. وَواصَلَ كَلامُهُ انْصِبابَا- إِنَّ ما أَقولُهُ لَكُمْ هُوَ الحَقّْ.. وَهذِهِ نَوايا كِسْرى وَحَقِّ الحَقّْ.. وَحَتَّى لَوْ رَفَضْتُمْ رَأْيي وَاتَّحَدْتُمْ.. فَلَنْ أَتَّحِدَ مَعَكُمْ.. وَسَأُنافِسُكُمْ بِمُفْرَدي وَأَغْلِبُكُمْ.. وَضَرَبَ عَباءَتَهُ عَلى كَتِفِهِ وَغَضْبَةٌ بادِيَةٌ في صَوْتِهْ.. وَخَرَجَ يُرْغي وَيُزْبِدُ مُتَّجِهًا إِلى بَيْتِهْ.
وَحاوَلَتْ وُفودٌ مِنْ سَبَإٍ وَحِمْيَرَ وَطَيٍّ وَكِنانَهْ.. أَنْ تَتَدَخَّلَ وَتُصْلِحَ الأَمْرَ لِيَتَّحِدوا تَجَنُّبًا لِلْمَهانَهْ.. وَأَخيرًا نَجَحوا في إِقْناعِ أَبي البَرَكاتِ.. وَأَخْذِ مُوافَقَتِهِ فَالوِحْدَةُ أَوْلى مِنَ الشَّتاتِ.. رَغْمَ أَنَّهُ مُقْتَنِعٌ في قَرارَةِ نَفْسِهْ.. أَنَّ الوِحْدَةَ صَوْنٌ لِـمَصْلَحَتِهِ وَفِلْسِهْ.. وَهُوَ- كَما يَزْعُمُ- في كُلِّ خِطابٍ أَنَّهُ يُريدُ الـمَصْلَحَهْ.. وَضَحِكَ في نَفْسِهِ فَقَدْ نَجا مِنَ السُّقوطِ في الـمَشْرَحَهْ..
وَهُنا نَهَضَ الـمُكْتَنِزُ لَحْمًا وَشَحْمًا وَفِكْرَا.. حَداثِيًّا قيلَ صَلْبُ العودِ لا أَجْرَا.. الَّذي قَريبًا أَطَلَّ وسبق الكُلّْ.. وَلا يُرْضيهِ أَيُّ حَلّْ.. وَبانَ غَضَبُهُ في هَياجِهْ.. وَالدَّليلُ في تَفَجُّرِ شِدْقَيْهِ وَأَوْداجِهْ.. وَطالَبَ بِعَقْدِ مُؤْتَمَرٍ آخَرِ.. وَإِلَّا وَرَأْسِ كُلَيْبٍ الغابِرِ.. وَكُلِّ مُقَدَّسٍ حاضِرٍ أَوْ دابِرِ.. سَيَنْشَقُّ عَنْهُمْ بِجَيْشِهِ قَبْلَ الفَجْرْ.. فَهُوَ لا يُطيقُ الفُجورَ وَالـمِثْلِيَّةَ وَالعُهْرْ.. وَاجْتَمَعَ القَوْمُ وَانْشَقَّا.. وَشُقَّتْ وِحْدَةُ الصَّفِّ شَقَّا.. وَكُلٌّ يَتَّهِمُ الآخَرَ أَنَّهُ مَنْ خانَ وَعَقَّا.. وَكُلُّهُمْ بِماءِ الحَضيضِ شَرِقَا.
صَوْتٌ صارِخٌ في البَرِّيَّةِ:
تَجاهَلْنا لِجَهْلِ الجاهِلينَا.. إِلى أَنْ صارَ تَشْريعًا وَدينَا
فَصِرْنا في البَرِيَّةِ ذَيْلَ كَلْبٍ.. وَزِبْلًا -لا أَبا لَكَ- وَاعْتُلينَا
فَيا عَمْرو بْنَ كُلْثومٍ أَرانا.. لِقَوْلِكَ في عُكاظٍ قَدْ نَسينَا
“أَلَا لا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنا.. فَنَجْهَلُ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلينَا”
وَكُلُّ الخَلْقِ قَدْ جَهِلوا عَلَيْنا.. وَما زِلْنا نُسالِمُ قاتِلينَا
وَنَرْفَعُ ذِلَّةً راياتِ سِلْمٍ.. فَنُجْزى بِالسَّلامِ الـمَوْتَ فينَا
وَيَبْتَسِمُ الخُصومُ لَنا نِفاقًا.. فَنَنْسى طَعْنَهُمْ.. ما نافَقونَا
وَزادَ الطِّينَ بِلَّةَ أَهْلُ حَلٍّ.. وَعَقْدٍ بَيْنَنا سَكِروا سِنينَا
صَبوحُهُمُ خُمورٌ دونَ أَمْرٍ.. غَبوقُهُمُ اللِّعانُ.. كَذا رُوينَا
وَنَقْلُهُمُ الـمَراشِفُ بَيْنَ مَزٍّ.. لِـمَلْءِ الكَرْشِ قاموا سادِرينَا
لِكُلٍّ “مُزَّةٌ” تَرْويهِ حُبًّا.. وَتَرْوي وَهْمَهُ يَغْدو يَقينَا
فَصِرْنا مِنْهُمُ في شَرِّ حالٍ.. وَأَشْغَلَنا الخُصومُ بِنا وَفينَا
كَأَحْمِرَةٍ نُذادُ لَدى وُرودٍ.. بِسَوْطٍ قامِعٍ يُدْمي الوَتينَا
وَنُدْعى بَعْدَ طَرْدٍ نَحْوَ ماءٍ.. فَنَأْتي كَالعَبيدِ الصَّاغِرينَا
وَهُنا انْتَفَضَتْ حَجَلَةُ في وَجْهي وَصاحَتْ: قُومْ جيبْ لي مَيِّهْ أَشْرَبْ.. نَشَّفِتْ ريقي ريتَكْ طالِقْ مِنِّي.. شُو لَـمّْني عَليكْ.. صَدَقِ الـمَثَلْ: اِلْتَمِّ الـمَتْعوسْ عَلى خايْبِ الرَّجا..
أَحْضَرْتُ الـماءَ لِحَجَلَةَ فَقَرْقَرَتْ وَهِيَ تَشْرَبُ مِنْ زَنْبوعَةِ الإِبْريقِ.. ثُمَّ تَمَدَّدَتْ عَلى الطَّرَّاحَةِ كَأَنَّها مِنْ صَيْدِ أَمْسِ.. وَبَقيتُ أُفَكِّرُ وَأَتَساءَلُ في أَمْرِ طَلاقِها لي.. مَتى تَزَوَّجْتُها حَتَّى أُطَلِّقَها؟